Business

أثر الصيام في تهذيب الشهوات

الصيام عامةً وفي رمضان خاصةً ذو أثر مباشر في تهذيب النفس روحيًّا وخلقيًّا وعقليًّا وبدنيًّا؛ ليكون اللجام للنفس قويًّا آخذًا بعنان المسلم والمسلمة من جميع جوانب انفلات الهوى، حتى يجعله عبدًا ربانيًّا، يحمل مكارم الأخلاق ويتحلَّى بعقل راجح، وبنيان قوي.

وفى دراسة له بعنوان: «أثر الصيام في تهذيب الشهوات»، تناول الدكتور صلاح سلطان، أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، أثر الصيام في إصلاح الفرد في جوانبه الأربعة: الروحية، والخلقية، والعقلية، والجسدية.

 

أثر الصيام في إصلاح الجانب الروحي

الجانب الروحي في الإنسان هو مصدر سعادة الفرد أو شقائه، فقد يُؤتى الإنسان من نعيم الدنيا ما يُشبع الجسد، وقد يتعلَّم من فنون العلم ما يجعله في مصاف الحكماء والعلماء، ولكن الإنسان مع هذا يجدُ ضيقًا واختناقًا في قلبه، وهو الضنك الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)﴾ (طه)، والضنك هو انغلاقٌ في النفس وانقباضٌ في القلب، وانطباقٌ في الصدر، وإن أكل الإنسان ما أكل، أو شرب ما شرب، أو لبس ما لبس، أو سكن ما سكن، أو ركب ما ركب.

ولكن انشراح الصدر، واطمئنان القلب، وهدوء النفس، لا يأتي إلا بإصلاح الجانب الروحي، وهو خصوصية علاقة العبد بربه، والمخلوق بخالقه سبحانه وتعالى، وهو أكبر مساعد ومعين للإنسان على كبح هواه، حبًّا وخوفًا من الله تعالى. وتتجلَّى صور إصلاح الجانب الروحي فيما يلي:

  1. الصيامُ بآدابه وأركانه يؤدِّي إلى التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة)، والتقوى هي عمادُ إصلاح النفس، فإذا تحقَّقت فإن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 35)، والمعلوم أن شقاء النفس وتفرُّق القلوب يكون إمَّا خوفًا على المستقبل، أو حزنًا على الماضي، أو ما فات الإنسان، وهكذا تكون التقوى عاصمةً من الخوف أو الحزن، والتقوى تجعل للإنسان بصيرةً يهتدي بها في المُلمَّات، وينجو بها في النوائب والأزمات لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 29)، ويقول الله تعالى: ﴿….. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ…..﴾(الطلاق)، فهو بالتقوى يعمل ويُوقن أن الله تعالى لن يدعه وحده؛ لأنه سبحانه القائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)﴾ (النحل)، والمسلم بالتقوى يكون وليًّا لله تعالى، قال سبحانه: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ﴾ (الأنفال: من الآية 34)، أما في الآخرة، فيكفي الروح سموًّا ورقيًّا وهي تتلقَّى وعد الله لها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)﴾ (الدخان).
  2. من أجل هذا الفضل الكبير وأثره على النفس البشرية تجد في الحديث دعاءً على من فوَّت هذا الخير، وغفل عنه؛ حيث روى ابن حِبَّان في صحيحه بسنده عن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده قال: صعد النبي ﷺ المِنْبَر فلمَّا رقي عتبةً قال: «آمين»، ثمَّ رقي أخرى، فقال: «آمين»، ثمَّ رقي عتبةً ثالثةً فقال: «آمين»، ثمَّ قال: أتاني جبريل، فقال يا محمد: من أدرك رمضان، فلم يُغفر له؛ فأبعده الله، فقلت: آمين، ومن أدرك والديه فدخل النار؛ فأبعده الله، فقلت: آمين، ومن ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك؛ فأبعده الله، فقلت: آمين»، وأي بلاء من الإبعاد عن رحمة الله تعالى عندما يفوت شهر رمضان، ولم يحظَ فيه المسلم بالتقوى والمغفرة والرحمة والعتق من النار.
  3. المسلم الذي يُحب الله تعالى يُداوم على الصيام، فهو ينتظر شهر رمضان؛ ليغسل نفسه غُسلاً كاملاً، من الذنوب والآثام، ويطهِّر نفسه من المعاصي، وهذا يزيل الرَّانَ على القلب، وذلك لما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»، فإذا ما انتهى رمضان صار الصوم له إلفًا، ومصدر سعادة قلبية؛ لانشراحه برحمة الله وفضله، فهو يصوم الستة من شوال، ويصوم العشر الأوائل من ذي الحجة، ويحرص على صيام عرفة، ولا يفوته صيام التاسع والعاشر من المحرم (عاشوراء)، ويكثر من الصيام في شعبان، ويحرص طوال العام على صيام الاثنين والخميس، أو يصوم يومًا، ويفطر يومًا، إن قَدَرَ عليه، ولا يقل عن صيام ثلاثة أيام كل شهر، وبهذا يظل المسلم والمسلمة في طهارة من الذنوب دائمة.
    ولعلَّ هذا ما جعل الإمام مسلم يُترجم في كتاب الصيام بابًا، بعنوان «صيام النبي ﷺ في غير رمضان واستحباب ألا يخلِي شهرًا عن صوم»، ومعناه أن المسلم والمسلمة لا يستغنيان عن هذا اللجام الرباني «الصيام»، ويكفي المؤمن شرفًا أن يصوم، وهو يستحضر ما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «يقول اللهُ عزَّ وجلَّ: الصومُ لي وأنا أَجزي به، يدَعُ شهوتَه وأكلَه وشُربَه من أجلي. والصومُ جُنَّةٌ، وللصائم فرحتانِ: فرحةٌ حين يفطِرُ، وفرحةٌ حين يَلْقَى ربَّه. ولخُلوفُ فَمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ من رِيحِ المسكِ». (صحيح البخاري).
    فهو صيام يختص به الله تعالى، ويعود فضله على العبد فرحة في الدنيا برحمة الله، وفرحة في الآخرة بنعيم الله تعالى، والنجاة من النار لما رواه مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «من صامَ يومًا في سبيلِ اللَّهِ، بعَّدَ اللَّهُ وجهَهُ عنِ النَّارِ سبعينَ خريفًا».
  4. يجد المسلم نشاطًا روحيًّا خاصةً في شهر رمضان؛ وذلك لأن الله تعالى يقيِّد مردة الشياطين، ويرسل ملائكته تنادي يا باغي الخير أقبل!، ويا باغي الشر أدبر!، وشعور العبد أن الفريضة في رمضان تعدل سبعين فريضةً فيما سواه، وأن النافلة مثل ثواب الفريضة، وأنه شهر العتق من النار، والعودة إلى الله، وتحرِّي ليلة القدر، والاعتكاف في العشر الأواخر، هذا يمثل جرعةً روحيةً كبيرةً، لا تكاد تعدلها جرعةً أخرى طوال العام، اللهمّ إلا جرعة الحج لله تعالى.
  5. إذا كان المسلم في رمضان يجد نشاطًا روحيًّا بالنهار، لأنه يدع شهوته لله تعالى، فإنه بالليل ينعم أيضًا بهذا النشاط الروحي بقيام الليل في صلاة التراويح كل ليلة، ولعل القليل هو الذي يجد نشاطًا روحيًّا طوال العام؛ ليقوم كل ليلة بثماني ركعات يطيل فيها القراءة، ولكن الكثير يهرع إلى صلاة التراويح، ومن فاته منها شيء أكمله وحده في مصلّاه، أو مسجده، وكذا القيام إلى السحور قبل الفجر والدعاء لله تعالى، حتى يحظى المسلم بدعاء الله والملائكة له، وهو يتسحَّر؛ وذلك للحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلُّون على المتسحرين».
  6. الإكثار من ذكر الله تعالى بأربع خصال: لا إله إلا الله، والاستغفار، وسؤال الله الجنة، والتعوُّذ به سبحانه من النار، هذا الذكر الدائم يبعث الطمأنينة والراحة في القلب، لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾ (الرعد).
  7. من المنح الروحية في الصيام أن له دعوةً ما تُرد، وذلك لما رواه ابن ماجه بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما تُرد»، هذه الدعوة مفتاح خير إلى سعادة المرء في الدنيا والآخرة؛ حيث يُلحّ في المسألة على الله تعالى أن يصلح له دنياه، وينعِّم آخرته بالفردوس الأعلى من الجنة.
  8. يظل المسلم والمسلمة ينتقل من خير إلى خير، فيزداد تعلُّق القلب بالله تعالى، ويقلُّ تعلُّقه بالدنيا؛ فيشعر أنه بحاجة إلى خلوة مع ربه جلَّ وعلا، فيلجأ إلى الاعتكاف آخر الشهر في العشر الأواخر؛ ليزيد حبال المودة، بالرغبة والرهبة والخوف والرجاء، ويشدو اللسان في الليل والنهار بقراءة القرآن، ويشنف الأذان بالاستماع إليه، ويُعمل فكره في بديع خلق الله، وكثرة نعمه على خلقه؛ فتبكي العين خوفًا من عذاب الله تعالى، ويُطمئِن الفؤاد طمعًا وأملاً في رحمة الله،

ويكثر القيام والقعود بين يدي رب الوجود سبحانه وتعالى، فيفيض هذا على القلب ريًّا وعلى النفس رضا، وعلى الجسم حيويةً، وعلى الخلق رقيًّا، وكلما ذاق حلاوة الوصال، واصل التراويح بالتهجد والذكر بالدعاء، والاستغفار بالثناء، والتضرع بالبكاء، والحب بالخوف، وحتى يصيب مراده عن غنيمة ليلة القدر، ويتعرَّض لرحمات متلاحقات في هذه الليلة التي لا يُحرم خيرها إلا شقي، ولا يصيبها إلا تقي، فتشبع النفس من هذا الهدير الذي يمسح على القلب، ويظل في بوتقة الحب، حتى إذا جاء يوم العيد قام إليه يتلقَّى جائزته، ويصافح ملائكته، ويخالط الخلق بأخلاق الحق، يحنو على فقيرهم، ويرحم صغيرهم، ويؤازر ضعيفهم، ويُناصر مظلومهم، ويقبل من مسيئهم، ويستغفر لمذنبهم، ويستحث مدبرهم، فيكون قد صنع على عين الله تعالى، وحمل أخلاق الإسلام وآدابه بعد هذه الخلوة التي تعيد الإنسان إلى الفطرة السليمة، وهكذا تبقى الروح في نضارتها وطهارتها، فيسعد صاحبها في الدارين.

 

 أثر الصيام في إصلاح الجانب الخُلقي

الصيام من أهم العبادات التي توصِّل المسلم إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، وتُباعد بينه وبين سفاسفها ويبدو ذلك مما يلي:

  1. الصيام هو إمساك المكلَّف بنية عن المطعم والمشرب والجماع والاستمناء والاستقاء من الفجر إلى المغرب، وهذه تجمع الشهوات الغالبة، التي تهوي بالنفس إلى مستنقع الرذيلة، ولذا يقول ابن القيم: المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تركِّز به ما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكِّر بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتُحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يفيدها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين.. وهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها؛ إيثارًا لمحبة الله ومرضاته.. وله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها من التخليط الجالب لها المواد الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها.
  2. الصيام يقيم سياجًا قويًّا بين المسلم، وما حرَّم الله تعالى، فإذا كان قد غلب نفسه، وحرمها من الحلال الطيب في الأصل في وقت معين بنية وعزيمة واستعانة بالله تعالى، فهو لا شك أقدر على الامتناع عن الحرام في كل وقت وحين، وذلك لأن الإنسان بلغ في الحرام نتيجة هوًى مستحكم، ونفس حائرة، وشهوة غالبة، وهذه كلها يهذبها الصوم بهذا الامتناع المتلاحق شهرًا، ثم في التنفُّل به طوال العام.
  3. من أجل هذا يقول النبي ﷺ: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه»، ويدلنا النبي ﷺ على أثر الصوم في تقويم أخلاق المسلم في حديث ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن جهل عليه أحد، فليقل إني امرؤ صائم» هذا يعني أنني لكوني صائمًا لا يليق بي أن يطيش صوابي ويهرف لساني، ويعلو صوتي، ويقبح كلامي، بل إن الصيام يحبس النفس البشرية عن الاسترسال مع الجهالة، والانطلاق مع شهوات الفرج والبطن، وهذا من أعظم وسائل تهذيب النفس.
  4. الصيام يُحرر الإنسان من أسر العادة، فمن اعتاد على الطعام في ساعات مبكرة، أو متأخرة من النهار، واعتاد على الغذاء بعد الظهر بقليل أو كثير، واعتاد أن يشرب المنبهات من الشاي أو القهوة أو غيرهما، حتى إنه ليظن أنه لا يستطيع الاستغناء عن هذه العادات، يأتي صيام رمضان أو النوافل؛ ليقطع هذا الاعتياد تحريرًا للإنسان من أسره، وتكريمًا له، أنه ليس بذاك الذي يهفو إلى مطعم أو مشرب يستولى على ملكاته، ويُخيم على مشاعره، بل يُغيِّر موعد الإفطار؛ ليكون سحورًا قبيل الفجر، ويغيِّر من نهمه على المطعومات والمشروبات طوال اليوم؛ ليكون ذلك بعد المغرب، فيخرج المسلم من ذلك متحررًا من العبودية لأي شيء، إلا لرب العزة سبحانه وتعالى.
  5. شفافية الروح في الصيام ذات أثر مباشر في نقاء الأخلاق؛ حيث يكون المسلم أشبه شيء بملائكة الله تعالى، فيصدر في أموره كلها عن معالي الأمور، يريد أن يتخلَّق بأخلاق ربِّ العزة سبحانه، ويتصف بصفات الملائكة البررة.
  6. الصيام يُحرر المسلم من داء الشحِّ، وهو مرض عضال يُهلك أي إنسان، يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (التغابن: من الآية 16)، وفيه يروي مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحَّ فإن الشحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»، وروى أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «شر ما في الرجل شحّ هالع، وجُبنٌ خالع»، وروى أحمد والترمذي بسندهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا يدخل الجنة خبٌّ وبخيل، ولا منَّان»، وروى الطبراني بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «لما خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها، وشقَّ فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيكِ بخيل»، روى الترمذي بسند مرسل عن أبي هريرة رضي الله عن أن النبي ﷺ قال: «السخي قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد عن النار؛ والبخيل بعيد عن الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل»، والصيام يُعالج هذا المرض العضال بوسائل كثيرة، منها ما يلي:
    أ- حث المسلم على إفطار الصائمين، قال ﷺ: «من جَهَّزَ غازيًا أو جهز حاجًّا أو خلفَهُ في أَهْلِهِ، أو أفطر صائمًا كان لَهُ مثلُ أجورهم، من غيرِ أن ينقصَ من أجورهم شيء».
    ب- في هذا الشهر تصفد أبواب النيران، وتفتح أبواب الجنان، وتغلُّ مردة الشياطين، ويُنادى يا باغي الخير أقبل!، ويا باغي الشر أقصر!، ما يساعد المسلم أن يغالب داء الشحِّ والبخل، فينفق ماله وهو في عافية للجود والسخاء.
    ج- حبُّ التأسي بالنبي ﷺ؛ حيث يروي البخاري وغيره بسندهم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ «كان أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل… فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة».
    د- صدقة الفطر في رمضان حتى قبيل صلاة العيد من أهم العبادات في رمضان، التي تُعالج داء الشحِّ؛ لأنها فُرضت على الغني والفقير، والكبير والصغير، الرجل والمرأة، الحرِّ والعبد، حتى الوليد يُولد قبل صلاة العيد، فتجب على وليه صدقة الفطر، هذا يشيع عند الجميع روح البذل والعطاء، ولذا روى ابن ماجه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ فرض زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
  7. الصيام يُعوِّد المسلم على خلق العفة والطهارة، ويحجب عنه هواجس النفس وثورات الشهوات، ولهذا كان الصيام مستحبًّا؛ لكسر الشهوة كما سبق، حتى لا تستعبده شهوة الفرج، ويريق ماء وجهه في السعي وراء المحرمات، وتنتهك عرض العفيفات، فينقلهن إلى دائرة الفحش والرذيلة، أو ينحاز إلى نفسه، ويغرق في بحر الاستمناء، ما يضعف مقاومته لشهوته، ويضاعف آلامه النفسية، ويحرمه من الثقة في نفسه، ولذا ذكر ابن حجر في شرح حديث النبي ﷺ: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة، فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء». قال ابن حجر: الأصل في الصوم كسر الشهوة؛ لأن كثرة الطعام والشراب تستدعي طغيان الشهوة، فكان الصوم وجاءً؛ أي قامعًا لشهوة النكاح، ويستدل بهذا الحديث على تحريم الاستمناء؛ لأن النبي ﷺ أرشد عند العجز عن الزواج إلى الصوم، الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا لكان الإرشاد إليه أسهل.
    وإذا كان الاستمناء من مفسدات الصوم- لو تعمده رجل أو امرأة أثم- لم يكفه صيام الدهر، وإن صامه قضاء، أمَّا المتزوج فيهذب الإسلام نهمه على شهوة الجماع؛ ليحرر الرجل أو المرأة من أسر شهوة الفرج، فيحول بينهما في طول النهار، ويحرِّم على المعتكف جماع زوجته، ومن جامع في نهار رمضان فهذا لا كفارة له إلا بمضاعفة حرمانه من زوجته شهرين متتابعين في نهار صومه، وإن لم يستطع فإنه يطعم ستين مسكينًا كفارة لهذا التعدِّي على حرمة هذا الشهر الكريم، وتغريمًا له على أنه لم يستطع أن يحبس شهوته أو يملك زمام نفسه، وهذا من الوسائل الفعَّالة في ردع ومنع من لم يخش عذاب الله تعالى.
  8. إذا كانت عفة المرء الباطنة في فرجه، فإن طهارة اللسان أيضًا من أمارات عفته الظاهرة، ويُعالج الصيام آفات اللسان عند الإنسان، حتى إذا حصَّن فرجه وعفَّ لسانه كان النبي ﷺ ضامنًا له الجنة، لحديث الإمام البخاري بسنده عن عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال: «اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم، أضمن لكم الجنة..»، ولهذا فإن النبي ﷺ يلفت أنظارنا إلى أن من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فالصيام في الحقيقة صيام الجوارح كلها مما يغضب الله تعالى، وكذا يسن في الاعتكاف في رمضان أن يُقلل الإنسان من الكلام المباح، وهذا أعظم تهذيب لآفات اللسان التي تكبُّ الناس على مناخيرهم في جهنم، فإذا صام الإنسان، ثم أطلق لسانه في أعراض الناس، أو الكذب أو المِراء والجدال المذموم، أو الحلف بالأيمان الباطلة، وغيرها فإن صيامه يكون هباءً منثورًا.
    وقد شبَّه صاحب المستخلص في تزكية الأنفس من يصوم عن الحلال، ويرتكب الحرام، كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، ومن يمتنع عن تناول الدواء، ثم يعب من السم القاتل.
  9. الصيام ينمِّي في المسلم أعظم أخلاق الإسلام، وهو الحياء، وذلك لما رواه مالك في الموطأ، وابن ماجه في سننه بسندهما عن زيد بن طلحة، أن النبي ﷺ قال: «إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء» ، والصيام من العبادات الخاصة التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فبوسع أي إنسان أن يخلو إلى نفسه، فيفعل ما يشاء من طعام وشراب وخلافه، ولكن المسلم يستحي من الله في خلوته أن يفعل ذلك، ولا يزال يستحي من الله حتى يُحقق أمر النبي ﷺ «استحيوا من الله حق الحياء….»، فإذا ما صار الحياء له خلقًا، فلن يأتي إلا بكل خير، وهو من أعمدة الإيمان حتى يصير بالإيمان والحياء من أهل الجنة، لما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار».
  10. يعوّد الصيام المسلم على احترام قيمة الوقت، ويربطه دائمًا بطاعة الله تعالى، فلو ظلَّ يأكل لقمة واحدة، أو يسيغ شربةً واحدةً بعد وقت أذان الفجر كان مفطرًا وآثمًا إن تعمَّده، وإن أفطر قبيل المغرب بلحظات أفطر، وصار آثمًا إن تعمَّده، هذا يجعل المسلم يراعي مواعيده بدقة بالغة، لا يستعجل شيئًا قبل أوانه، ولا يؤخِّر شيئًا عن وقته، فالموظف أو العامل لا يتأخر في عمله، بل يتَّقي الله فيه، والطالب لا يؤخِّر مذاكرته حتى تضطرب أعصابه، وينوء بعبء نفسي من كثرة ما تراكم عليه، ولو راعينا الله في أوقاتنا كلها كما نراعيه في العبادات كلها مثل الصلاة لوقتها والزكاة لحولان الحول، وصدقة الفطر حتى قبل صلاة العيد، والصيام من الفجر الصادق إلى مغرب الشمس، والحج أشهر معلومات؛ لكانت الأمة شيئًا آخر غير ما هي عليه اليوم.

 

أثر الصيام في إصلاح الجانب العقلي

العقل هو مناط التكليف في الإنسان، وبه كُرِّم عن غيره من المخلوقات، ولأجله تحمَّل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، والصيام ذو أثر مباشر في تقويم العقل وإذكائه، ويبدو ذلك فيما يلي:

  1. إذا كان الهدف من الصيام هو تحصيل التقوى، كما قال الله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: من الآية 21)، فإن هذه التقوى تفتح على المسلم آفاق العلم والخير، لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 282)، فقد يُؤتى الإنسان بها الحكمة لقوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269)﴾ (البقرة).
  2. الصيام يجعل عقل الإنسان أكثر نشاطًا وإدراكًا؛ لأن من أكل كثيرًا نام كثيرًا، وحرِم من خير كثير، فمن أراد أن يحصِّل من أسباب العلم ما يوسِّع به مداركه فلا يشبع؛ لأن من ملأ بطنه بالطعام سرعان ما ترتخي أعضاؤه، ويميل إلى الكسل، ويخلد إلى النوم الطويل، لكن صيام رمضان بآدابه من الإقلال من الطعام والشراب، وصيام النوافل يعوِّد الإنسان على الاقتصاد في طعامه وشرابه، بما يحفظ لعقله فاعليته، ولنفسه القدرة على حدة التفكير، وطول السهر تحصيلاً للعلم.
  3. كثرة قراءة القرآن في هذا الشهر، أو الاستماع إليه في صلاة التراويح، أو غيرها مما يرسي أصول العلم لدى المسلم، ففي القرآن أصول العلم التجريبي، وأصول العقيدة الصحيحة وقواعد التشريع الكاملة، وقصص السابقين من الطائعين والعاصين، وهذا من أكبر موارد النمو العقلي.
  4. لا شك أن مفردات أحكام الصيام تؤثِّر تأثيرًا قويًّا في صياغة العقل الإسلامي صياغةً مرنةً، ويبدو ذلك مما يلي:

أ- لا بد للإنسان أن يزن الأمور بميزان العقل لا العواطف فقط، وفي هذا يُقال: «ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول». ولذا فإننا نرى نبينا ﷺ يوصي عبد الله بن عمرو وهو يريد أن يصوم كل يوم، فأمره ألا يزيد عن صيام يوم وإفطار يوم، يقول: «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر»، قال: فصرت إلى الذي قال النبي ﷺ فلمَّا كبرت وددت لو كنت قَبِلت رخصة نبي الله ﷺ.

ب- نهي النبي ﷺ عن الوصال، وفي هذا يروي البخاري بسنده أن النبي ﷺ قال: «إياكم والوصال»، مرتين، قيل: إنك تواصل قال: «إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني. فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون».

والحقيقة أن الإنسان يجب أن يدرك طاقته، ولا يكلِّف نفسه إلا على قدر وسعها لقوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)، وهذا يقتضي المرونة في التعامل مع المواقف بما يحقق الهدف، دون أن يذلَّ الإنسان نفسه، بأن يحملها ما لا تطيق، ثمَّ يتضاعف عنده الشعور بعدم الثقة في النفس في نهاية الأمر، ولذا هناك رواية لمسلم في نفس الباب يقول النبي ﷺ: «لو تمادى لي الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم»، يريد النبي ﷺ أن يعوِّد هؤلاء الغلاة إلى الواقع، وألا يبالغوا في تقدير طاقاتهم أو إمكاناتهم، وأن يتعاملوا مع دين الله تعالى بنفس درجات التيسير، التي وردت به دون تعمُّق أو مغالاة.

جـ- إذا تحققت هذه المرونة لم يرَ واحد لنفسه فضلاً على غيره؛ لأن الله تعالى هو أعلم بمن اتقى؛ ولذا يروي الإمام مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «غزونا مع رسول الله ﷺ لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم».

د- لا شك أيضًا أن عقلية المسلم تكون في غاية المرونة وهو يقرأ من أحكام الصيام أن كل ما دخل الجوف مما يستحيل التحرز منه لا يفطر، مثل: رائحة الدخان، أو الطيب، أو الماء الذي يسبق إلى الجوف عند المضمضة مع عدم المبالغة، وما دخل عن طريق المسامع عند العطس أو الاستحمام، ومن خرج منه منيٌ بغير شهوة فصومه صحيح، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه، ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، والقطر في العين لرمد لا يفطر الصائم، والحقن للتداوي لا تفطر، هذه الأحكام وأمثالها تصوغ العقل المسلم صياغة رائعة مرنة قوية، يضع الحدود ويقدر الأعذار ويراعي الظروف والأحوال التي تخرج من طاقة كل إنسان فيقدرها بقدرها.

 

 أثر الصيام في إصلاح الجسد

يحرص الإسلام على بناء جسد المسلم بناء قويًّا صلبًا متماسكًا ينهض بالتكاليف، ويخطو إلى الإنتاج، ويصلح للجهاد في سبيل الله، ويتقدم في شجاعة وبسالة نحو مجد أمته يحتمل الصعاب، ويتغلب على قلة الزاد، وضعف المؤونة لأنه تدرب في مدرسة الصيام على ذلك، وتبدو أهم آثار الصيام في إصلاح الجسد فيما يلي:

  1. جاء في الحديث عن النبي ﷺ قال: «صوموا تصحوا»؛ فالصوم صحة للجسد وقوة للبناء وفيه تعويد على خشونة العيش، والحق أن الإنسان إذا لم يصم يُرهق معدته ويُمرض جسده، لكن الصيام يعطي للمعدة هدنةً مؤقتةً تعود إلى نشاطها مع المغرب فتكون الفائدة من الطعام أتمّ وأوفى، وقد قام فريقٌ من الباحثين المسلمين ببحث علمي تجريبي انتهى إلى أن الصيام يزيد الصحة، ويقوي جهاز المناعة، وقاموا بإجراء التجارب على الصائمين قبل الصيام وأثناءه وبعده وذلك في مدينة بنما سيتي ولاية فلوريدا بأمريكا، وانتهوا في أبحاثهم التي أجروها على أكثر من مائة حالة أن الصيام بالفعل يقوي جهاز المناعة الذي يقاوم بأمر الله تعالى كل الأمراض التي يتعرض لها جسم الإنسان دائمًا، وهذا عكس ما يتصوره بعض عوام المسلمين أن الصيام يضعف الجسم وينهك الجسد.
  2. استحباب السحور والحث عليه حتى أن النبي ﷺ قال: «السحور أكله بركة، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين»، هذا يبين مدى حرص الإسلام على الصائم ألا يطول عهده بالطعام، ويُسن تأخيره كما يُسن تعجيل الفطر على التمر أو شربة ماء حرصًا على عودة الجسد إلى حيويته ونضارته، ويسترد كامل قوته، ولعل من أعظم التخفيف أن يباح الأكل والشرب من أول الليل حتى مطلع الفجر، ومن هنا نلحظ هذا التوازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح، فإذا كانت النفس تهفو إلى الوقوف بين يدي الله تعالى في صلاة المغرب، فإن السنة النبوية تدعوه إلى إعطاء حق الجسد من الفطر على التمر والماء بهما معًا، ثم يصلي فيعطي معدته فرصتها بالتدرج في العودة إلى طبيعتها، وبعد الصلاة يعود إلى طعامه فيأكل ما يسد رمقه، ويقيم أوده، ولا يبالغ حتى يرهق معدته بعد صفائها، ولذلك يذكر صاحب المستخلص أن كثرة الطعام بعد الصيام يزيد الإنسان شراهة، والمعدة تعبًا والبطن اضطرابًا، عما لو أكل نفس الكمية دون صيام فترة طويلة من الوقت.
  3. من أجل هذا عنون البخاري في صحيحه لباب من أبوابه باب «حق الجسم في الصوم»، وأورد حديثًا لعبد الله بن عمرو الذي أراد أن يقوم الليل كله ويصوم الدهر كله ولكن النبي ﷺ عاد به إلى حالة الاعتدال وقال له: «صُم وأفطر، وقُم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينيك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزورك عليك حقًّا….».
  4. تحريم الوصال في الإسلام وهو صيام الدهر لأن هذا يضعف الجسد، والنبي ﷺ يقول ذلك في صراحة تعود بالإنسان إلى حد الاعتدال في التعبد لله تعالى حيث يقول لعبد الله بن عمرو أيضًا: «إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، فقلت نعم، قال: إنك إن فعلت ذلك هجمت له العين، ونفهت له النفس، لا صام من صام الدهر…».
    فالنبي ﷺ يخشى على كل مسلم أن تهجم العين إلى الداخل من طول القيام وكثرة الصيام، ثم تتعب النفس وتكلّ من العبادة، وهو معنى قوله ﷺ «هجمت له العين، ونفهت له النفس»، فهذا يدل على الحرص البالغ على صحة الجسد وبخاصة العين.
  5. وقد راعى النبي ﷺ ذلك في نفوس أصحابه، وفي هذا يروي ابن ماجه بسنده عن أبي مجيبة الباهلي عن أبيه أو عن عمه قال: أتيت النبي ﷺ فقلت: «يا نبي الله أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول. قال: «فمالي أرى جسمك ناحلاً». قال: يا رسول الله ما أكلت طعامًا بالنهار، ما أكلته إلا بالليل فقال ﷺ: «من أمرك أن تعذّب نفسك….».
    هكذا يرد النبي ﷺ هؤلاء المتعمقين المتشددين المغالين إلى سماحة الإسلام ويسره، فلا يصح أن يشادّ الإنسان هذا الدين فيغلبه، بل يأخذ بعزائم الأمور ورخص الشريعة دون تحلل من التكاليف أو إزهاق للروح وإرهاق للجسد بالزيادة منها.
  6. تخفيف الصيام في رمضان عن المسافر ويقضيه بعد ذلك؛ حتى لا تجتمع على جسده مشقة عناء السفر وآلام الجوع والعطش، وتخفيف الصيام عن المجاهد حتى يفرغ للجهاد، ويقوى على النزال، وتخفيفه عن الحامل والمرضع حتى لا يجتمع على الجسد بذل خلاصة الجسم للجنين أو الوليد، وحرارة الجوع والعطش، والفطر للحائض حتى لا تجتمع عليها آلام الطمث، ونزول الدم، مع آلام الجوع، أما المريض المزمن والشيخ الهرم فقد راعى الإسلام حاجة الجسد لديهما إلى الغذاء والسقاء والدواء بشكل متتابع فوضع عنهما الصيام وأحل مكانه الفدية.

هذا يدل على مدى مراعاة الإسلام لقوة البدن وحيوية الجسم في كل الظروف التي يمر بها أي مسلم أو مسلمة. وهذه بعض الآثار والمقاصد التي تضمنها تشريع الصيام الذي يصنع الإنسان يحمل صبغة الله في روحه وخلقه وعقله وبدنه.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم