Business

تعليم القيم فريضة غائبة في نظم التعليم

 

 

كثيرًا من مظاهر الاضطراب فى المجتمعات المعاصرة يمكن أن يرد إلى غياب الالتزام بنظام متسق للقيم التى تدفع الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول إلى القيام بأنماط معينة من السلوك، يصدق هذا القول على كل المجتمعات، متقدمة كانت أو نامية، غريبة كانت أو شرقية.

فمنذ أكثر من ثلاثين عامًا وصف أحد علماء النفس المرموقين فى الولايات المتحدة الأمريكية العصر الحالى بأنه عصر انعدام المعايير وعصر الفراغ وأنه عصر بلا جذور يفتقد فيه الناس الأمل، ويعوزهم وجود ما يعتقدون فيه، ويضحون في العمل من أجله.

وفى دراسة للدكتور أحمد المهدى عبد الحليم، -1993-، يدعوا إلى بذل جهود منظمة لأن يعتمد الناس فى أقوالهم وأفعالهم على مجموعة من القيم، وقد يختلف الناس فى النعوت التى توصف بها هذه القيم، إلا أنها تبقى -فى التحليل النهائي- الموجهات الأساسية للسلوك، ولذا يجب أن تعنى بها المؤسسات التربوية، وفى القلب منها مؤسسات التعليم النظامى.

 

أولًا، الإطار العام لمعالجة القيم

يستلزم التصديق لمعالجة القيم أن يكشف الباحث عن الصيغة الكلية paradigm أو الإطار العام، الذي تتم فى حدوده معالجة موضوع القيم. والصيغة الكلية –هنا– تعنى الافتراضات الأساسية، والمفاهيم الجامعة، التى يتبناها الباحث بالنسبة للكون، والحياة، وللإنسان، وللعقل، وللعلم والمعرفة.

وأبادر فأقول إن الصيغة الكلية التى يوظفها الباحث فى هذه الدراسة ليست الصيغة السائدة فى الفكر الغربى، وإنما هى صيغة مناهضة، أو قل مناقضة للصيغة الغربية فى كثير من جوانبها.

والقسمات الفارقة بين الصيغة الغربية، والصيغة الإسلامية التى تجرى هذه الدراسة فى حدودها يمكن أن نوجز معالمها الرئيسية فيما يلي:

1- الكون والخالق:

تؤكد الصيغة الإسلامية أن الكون مخلوق لله، وأن كل ما فيه من أشياء، وظواهر، وأحياء، خاضع لسلطان الله الواحد الأحد. {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، [الزمر: 62].

أى أن الألوهية واحدة، لا تتعدد، ولا تقع فيها أية شركة، وفهم الكون على هذا النحو مناقض لما يقول به أنصار الفلسفة الطبيعية.

وتؤكد الصيغة الإسلامية أن الكون عالمان: عالم الغيب، وعالم الشهادة، وهما عالمان يتداخلان ويتفاعلان دائمًا، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، وإن للحياة سننًا تجرى على الأشياء والظواهر والأحياء، سواء فى خلقها وحركتها ونموها وتحولاتها، وأن هذه السنن –فى اطرادها وتخلفها– مرهونة بمشيئة الله وقدره. وهذا يعنى أمرين: أولهما أنه لا موضع للصدفة فى حركة الكون، وثانيهما أنه ليست هناك حتمية طبيعية أو بيولوجية أو اجتماعية كما يقول بعض أنصار الثقافة الغربية وأتباعهم.

 

2- الإنسان:

الإنسان أكرم مخلوقات الله، ميزه على سائر الأحياء بقدرته على إدراك المؤثرات الكونية والانفعال بها، وبما فطره الله عليه من قدرة على التفكير والتأمل، والتذكر، والتوقع، والتخيل، والاختيار الحر المسئول فى الفكر وفى الفعل، ومن قدرة على تجاوز محددات السياق (الزمكانى) واختزان المعارف، واستخدامها، وتوليد معارف جديدة ومتجددة.

واستنادًا إلى هذا التميز فى البناء العقلى والنفسى للإنسان، استخلف الله الإنسان فى الكون لإعماره، وفقًا لعهد الله وميثاقه، ووصولًا إلى تنمية الحياة وترقيتها، والانتفاع بمثرات كل ما خلق الله فى الكون. { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا}. [الأحزاب: 72].

والإنسان بتكوينه الفطرى فيه قابليات، ترتفع به إلى منزلة الملائكة، وتنحدر به إلى درك الحيوان: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) }. [الشمس: 7-8]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) }. [التين: 4- 6]؛ ويتوقف موقعه بين هذين الطرفين على ما يبذل من جهد فى إعلاء ذاته أو تخفيضها، وعلى الأواصر التى تجمع أفراد جنسه لتحقيق غايات الوجود البشرى فى الكون. وأفراد الجنس الإنسانى متساوون فى عبوديتهم لله لا تمايز بينهم إلا بتقوى الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]

ويقر الإسلام اختلاف الأمزجة والطبائع بين البشر، كما يقر تعدد الأنماط والنماذج فى أوضاع الحياة الاجتماعية، ما دامت تجرى فى إطار ثوابت الدين: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ...} [هود: 118 وجزء من 119]

وليس فى الإسلام خطيئة موروثة (Human sinning) {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].

فالمسئولية فى الإسلام فردية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}. [الأنعام: 164].

والمعصية فردية، مقرونة دائمًا بباب مفتوح للتوبة: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، [آل عمران: 135].

 

3- العقل والعلم والمعرفة:

للعقل فى الإسلام مكانة عالية، بوصفه أداة للإيمان، وأداة للعلم، وانحياز الإسلام للعقل تشهد به آيات كثيرة فى القرآن الكريم، جعلت أحد متكلمى المعتزلة، القاضى عبد الجبار الهمدانى يقول: إن الأدلة الشرعية أربعة: أولها دلالة العقل؛ لأن به يميز الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن القرآن الكريم حجة، وكذلك السنة، والإجماع.

وحقيقة الألوهية، وهي جوهر الإيمان بالله، لا سبيل إلى إدراكها إلا بالعقل؛ والقرآن الكريم معجزة عقلية. فالعقل والنقل متلازمان فى التصور الإسلامى، وليسا متناقضين؛ وهذا هو ما سوغ لعلماء (الكلام الإسلامى) أن يجعلوا الشك طريقًا للوصول إلى اليقين فى أصول الدين.

وللعلم فى التصور الإسلامى مفهوم شامل، يتضمن كل معرفة منظمة يصل إليها الفكر الإنسانى من خلال: الإلهام، والنظر والتأمل، والملاحظة، والتجريب.

والعلم فى الإسلام يشمل علوم الدين وعلوم الدنيا، أو علوم النقل وعلوم العقل، و(العقل) هو الحاكم الحاسم فى علوم الدنيا، وهو الدليل الهادى حتى فى أمور الألوهية والدين.

والمعرفة المنظمة ليست قاصرة على معرفة الماهيات Know What ومعرفة الكيفيات know How؛ كما يقول بعض المفكرين؛ ولكن هناك نوع ثالث؛ هو المعارف التى تعين على تحديد الغايات، ورسم المسارات، سواء فى إنتاج المعارف أو فى استخدامها فى النمطين السابقين.

ويطلق علماء الغرب على هذا النوع الثالث من المعارف (Know – Where، ويدخل فى هذا النمط –فى رأيى– المعتقدات الدينية والمعارف النقلية، والقيم الإنسانية، والأخلاق.

وليس لاكتساب المعارف طريق واحدة هى الملاحظة والتجريب؛ كما يقول دعاة منهج (التجريب والتحليل) وإنما تكتسب المعارف بأساليب الجمالية Aesthetic والإلهامية Intuitive والعلمية practical والروحية.

 

4- التنوع داخل الوحدة:

وقد يفيد فى تحديد الإطار العام لهذه الدراسة أن أنهيه بتأكيد أن الصيغة الإسلامية تقوم على وحدة الكون، وتؤمن بالتنوع داخل هذه الوحدة، والتنوع لا يعنى التناقض أو التصادم على النحو الذي نجده فى كثير من الثنائيات التى أفرزتها (الفلسفة الطبيعية) و (الوضعية المنطقية) فى الفكر الغربى؛ فالإسلام لا يتبنى التفكير ذا القطبين -إما...وإما- بحيث لا يرى الدنيا مناهضة للدين، ولا الحياة الآخرة نقيضًا للحياة الدنيا، ولا الفرد مواجهًا للمجتمع، ولا العقل مناقضًا للممارسة العملية، ولا الرجل مناهضًا للمرآة، ولا الماضى قيدًا على الحاضر أو المستقبل ونحو ذلك من الثنائيات المقيتة التى تسيطر على عقول بعض المفكرين. ويقف الإسلام من كل هذه الثنائيات موقفًا وسطًا، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. والوسطية الإسلامية ليست وسطية حسابية؛ وإنما هو وسطية تتسم بالدينامية، وسطية تؤمن بالمثال، وتؤمن فى الوقت نفسه بالواقع، وتحاول أن تحرك الواقع تجاه المثال، ضماناَ لحركة الحياة، ولإعمار الكون. فى حدود الفطرة الإنسانية، ومن هنا يمكن القول: إن الصيغة الإسلامية صيغة (مثالية) –فى حدود ما شرع الله– (واقعية) فى إطار ما هو مهيئٌ للأفراد والجماعات والمجتمعات. وأداء الأمانة التى استخلف فيها الإنسان يتمثل فى أن يحاول –قدر وسعه– أن يسعى إلى تطوير الواقع، وإعادة صياغته من منظور مثالى.

 

ثانيًا، ماهية القيم

القيمة فى اللغة واحدة القيم، وهي ثمن الشئ بالتقويم، وفى القرآن الكريم: {ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] أى المستقيم، والمقوم لأمور الناس. وفيه أيضًا: {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) } [البينة: 2-3] أى ذات قيمة رفيعة؛ لأنها جامعة لما ذكر فى كتب الله جميعًا. وكلمة قيمة مشتقة أصلًا من القيام، ونقيضه القعود، والقيام فى معانيه هو العزم: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] أي: لما عزم.

أما في التعريف الاصطلاحي فيكفينا في تحديد ماهيتها، أن نحدد أبعادها، وذكر شروط تحقيقها، بصورة تميز مفهومها عن غيره من المفاهيم:

● القيمة مفهوم تجريدى، أى أنها معنى عقلى، له وجود ذهنى، ليس الزمان ولا المكان جزءًا فيه.

● ويشير مفهوم القيمة إلى حالة عقل وجدانية، يمكن تعرفها فى الأفراد والجماعات والمجتمعات، من خلال مؤشرات هى: المعتقدات والأغراض، والاتجاهات، والميول، والطموحات، والسلوك العلمى.

 (تدفع الحالة العقلوجدانية) صاحبها إلى أن يصطفى بإرادة حرة واعية، وبصورة متكررة نشاطًا إنسانيًا –يتسق فيه الفكر والقول والفعل– يرجحه على ما عداه من أنشطة بديلة متاحة، فيستغرق فيه، ويسعد به، ويحتمل فى غيره دون انتظار لمنفعة ذاتية.

وتعريف القيم على النحو السابق يعنى أن التحقيق الكامل لماهية (القيمة) يحتم توفرعدد من الشروط، وذلك على الوجه التالى:

(1) الحرية:

أولى الخصائص التى يجب أن تتوفر لتحقيق القيم هى الحرية؛ ولذلك حيث تدل خبرات الأفراد والجماعات والأمم، على أن الأعمال التى تفرض على البشر من سلطة خارجية عن ذواتهم تزول بمجرد زوال السلطة الفارضة. ويستوي فى هذا الصدد أن تلجأ السلطة إلى الإغراء والترغيب أو أن تعتمد إلى التهديد والترهيب. ولعل هذا هو ما جعل علماء الفقه الإسلامى يتفقون على كراهية صلاة الحاقن وصلاة الجائع. أى أن ممارسة الفضائل تحتاج إلى مناخ يسوده الأمن النفسي والأمن المادي.

ودعوة الإسلام إلى ضرورة توفر الحرية فى الاعتقاد، ونفى الإكراه فى أمور الدين ماثلة فى قوله تعالى:

 {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [الأعراف: 175]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا...} [الكهف: 29].

 

(2) تعدد البدائل:

والشرط الثانى لتحقيق القيمة؛ أن يكون اختيار المرء لها اختيارا من بين عدد من البدائل المتاحة، وقديما قال الشاعر العربى ساخرًا: (ومن العفة ألا تجد) . ولكن العفة كل العفة أن تتاح بدائل مختلفة للسلوك؛ فيتجنب المرء البدائل الخبيثة، ويختار البديل الطيب النافع للناس وللمجتمع. وتعدد البدائل وتفاضلها، هو الاختيار الحقيقى للطبيعة البشرية، التى عبر عنها القرآن الكريم بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) } [الشمس: 7/10] فالنفس البشرية ذات قابليات متساوية للخير وللشر، للهدى وللضلال. والذكي هو من يزكى نفسه، ويرتفع بقيمة الإنسان، ويختار نجد الهدى والحق، ويعف عن نجد الضلال والباطل: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) } [البلد: 8-10].

 

(3) العقلانية:

من خصائص القيم الإنسانية أنها عقلانية، فإذا كان الشرطان السابقان ينفيان الجبر والقسر والإكراه، وتحديد السلوك فى مسار واحد تنعدم معه فرصة الاختيار الحر المسؤول؛ فإن هذا الشرط يعنى أن القيمة لا تنشأ عن تقليد أعمى، ويؤكد الإسلام على إعمال العقل فى أمور الدين وأمور الدنيا على السواء، وأن يختار الإنسان من بينها أكثرها خيرًا، وأعظمها نفعًا للجماعة وللمجتمع: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } [محمد: 24].

 

(4) التكرار والاستمرار:

ومن الخصائص الأساسية فى القيمة تكرار حدوثها بصفة مرة أو مرات لا يوصف بأنه فاضل فى سلوكه؛ وإنما تتأكد القيمة وتبرز الفضيلة الخلقية فى سلوك الإنسان إذا تكرر حدوثها بصورة تجعلها عادة مستحكمة، أو جزءًا من النسيج العقلى والسلوكى لصاحبها، وعنوانًا لهويته.

ومن هنا كان تنديد القرآن بأولئك الذين لا يثبتون على اتباع طريق الهجى والحق، ويتراوح سلوكهم بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137) } [النساء: 137].

 

(5) اتساق العمل مع العقل:

ومن المحكات الأساسية لاختبار القيمة فى السلوك الإنسانى أن تترجم المقولات اللفظية التى تعبر عنها إلى سلوك عملي، وذلك حيث تدل المشاهدة على أن كثيرًا من الناس يتحدثون بأفواههم عن الفضائل الخليقة كالصدق والأمانة ورعاية الصالح العام، فإذا خلوا إلى أعمالهم أو إلى شياطنهم، كان سلوكهم مناقضًا لما يتحدثون به، ويمثل ضربًا من النفاق والتناقض اللذين نهى عنهما القرآن الكريم، وجعلهما صفة تهدد الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) [الصف: 2، 3] واقتران الإيمان القبلى بالعمل الفعلى دعوة مؤكدة فى كثير من آيات القرآن الكريم: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) } [الكهف: 88].

 

(6) الاعتزاز بالقيمة:

ومن المحكات الأساسية التى تميز القيمة، أن يعتز بها أصحابها، وأن يسعدوا بها، وأن يسعوا إلى إشاعتها بالعمل الدائب، وبالحكمة والموعظة الحسنة. وقد يصل هذا الاعتزاز إلى النضال فى سبيل تأكيد القيمة، وتثبيتها فى واقع الحياة، وتحمل الأذى فى سبيلها. تلك كانت سنة الله فى نشر دعوات الإصلاح ممثلة فى الأديان السماوية. ومن أمارات عدم الإيمان الارتياب والتردد، والقعود عن إشاعة الفضائل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) } [الحجرات: 15].

 

(7) الإيثار:

ولعل آخر شرط أو خاصة تميز القيمة عن مجرد العمل المشروع هو إيثار الآخرين، فسعي الرجل على رزقه ورزق عياله عمل مطلوب ومشروع، ولكنه لا يشكل قيمة؛ لأنه مراد به منفعة الذات، ورعاية الأهل الأقربين ومجرد أداء العمل واستيفاء متطلباته الشكلية أمر مطلوب ولكنه يختلف عن القيمة وهى إتقان العمل، وإيثار الآخرين على النفس مع حاجتها إلى ما يبذله صاحبها يمثل قيمة رفيعة، وكانت هذه القيمة دعامة من دعامات بناء أمة الإسلام؛ حيث تخطى الأنصار فى المدينة المنورة ما هو غريزى فى البشر، وآثروا المهاجرين على أنفسهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) } [الحشر: 9]. فالإنفاق يجب أن يراد به وجه الله، ومنفعة الجماعة: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 273].

 

ثالثًا، القيم التى يجب أن تعلم فى المدارس

حديثى عن القيم التى ينبغى أن تنهض المدارس بتعليمها يستند على عدد من المسلمات أوجزها فيما يلي:

(1) مصادر القيم:

أول مصدر للقيم هو الدين، والإسلام خاتم الأديان، وذلك حيث يحدد الوحي الإلهي الحلال والحرام فى صورة حاسمة، ويحدد السلوك بوصفه طاعة لأوامر الله؛ وتوجيهًا للإنسان الذي استحلفه الله فى إعمار هذا الكون. وفى هذا الصدد يلجأ إلى القرآن الكريم، وإلى السنة النبوية قطعية الثبوت قطعية الدلالة.

وثانى هذه المصادر هو العقل الجمعي (يلاحظ أن معظم الآيات القرآنية التى وردت فيها مادة: يعقل، جاءت بصيغة الجمع مثبتة (يعقلون) و (تعقلون) ومستفهم عنها على سبيل الإنكار (أفلا تعقلون) ، وتلك قرينة على أن يكون الاعتماد فى التدليل العقلى على عقل الجماعة وليس عقل الفرد.

 وثالث هذه المصادر هو الخبرة التاريخية التى مرت بها الأمم، وفى القرآن الكريم تفصيلات كثيرة عن قصص الأمم السابقة. وفى الدراسات التاريخية والاجتماعية للأمم والشعوب زاد يمكن أن يستفاد منه فى تحديد القيم.

 ورابع هذه المصادر هو التراث العربى الإسلامي.

 وخامس هذه المصادر هو المجتمع الذي يراد تعليم القيم لأبنائه.

 

(2) مسؤولية تعليم القيم:

أفترض –لأغراض هذه الدراسة– أن مسؤولية تعليم القيم مهمة يجب أن تعنى بها كافة القوى التربوية فى المجتمع: الأسرة، والمدرسة، ومؤسسات المجتمع المختلفة؛ السياسية، والإدارية، والإعلامية. ومن الضروري أن تنسق كل هذه القوى التربوية فى أهدافها وأنشطتها بحيث لا تناقض مؤسسات المجتمع مثلًا ما تقوم به المدرسة أو تناهضه.

وفى ضوء هذه المسلمات أنتقل إلى المهمة الأصلية لهذا القسم من الدراسة، وهي تحديد القيم التى يجب أن تُعلٌم فى مؤسسات التعليم النظامي وتشمل المدارس والجامعات. وفى هذا الصدد أقدم الاقتراحات التالية:

الاقتراح الأول، حقوق الإنسان فى الإسلام:

فى 21 من ذى القعدة 1401 هجرى (19 ستبمبر 1981) أصدر المجلس الإسلامى الدولى للعالم وثيقة جعل عنوانها (البيان العالمي عن حقوق الإنسان فى الإسلام) . وهي وثيقة تعون فى إعدادها نخبة صالحة من كبار مفكرى العالم الإسلامى. واستخدام فى الوثيقة مصطلح (حقوق) دون ذكر للواجبات استنادًا إلى أن (حق) كل فرد هو (واجب) على فرد آخر، أو جماعة أو هيئة أخرى. وقد صدرت الوثيقة بمدخل يبين الأصول العامة والمبادئ الإسلامية التى صيغت الحقوق فى ضوئها، كما يتضمن هذا المدخل تصورًا شاملًا لكل من الفرد والمجتمع فى نظر الإسلام.

وسوف أورد فيما يلي قائمة بهذه الحقوق، ولن أحدث فى هذه القائمة أى تعديل سوى أنى سوف أستبدل كلمة (قيمة) بكلمة (حق).

 (1) قيمة الحياة: بمعنى أن حياة الإنسان مقدسة لا يجوز الاعتداء عليها أو سلبها إلا بسلطان الشريعة، وأن للإنسان كيانًا ماديًا ومعنويًا تحميه الشريعة فى حياته وبعد مماته.

 (2) قيمة الحرية: بمعنى أن الحرية صفة طبيعية يولد بها الإنسان، ويجب ألا يعتدى عليها، ويجب توفير ضمانات كافية لحماية حرية الأفراد والشعوب.

 (3) قيمة المساواة: بمعنى أن الناس سواسية لا تمايز بينهم، وأن تفاضلهم يجب أن يكون وفقًا لأعمالهم، وتتجلى المساواة فى حق الانتفاع بالموارد فى المجتمع دون تفرقة بين من يبذلون جهدًا واحدًا.

 (4) قيمة العدالة: بمعنى حق كل فرد فى أن يتحاكم إلى الشريعة، وحقه فى أن يدفع الظلم عن نفسه، وواجبه فى دفع الظلم عن غيره. هذا بالإضافة إلى حق الفرد وواجبه فى الدفاع عن حقوق الآخرين وحق الجماعة.

 (5) قيمة المحاكمة العادلة: بمعنى أن البراء هو الأصل، ولا تجريم إلا بنص شرعى، ولا تجريم إلا بأدلة قطعية تقررها هيئة طبيعية قضائية، وألا يؤخذ إنسان بجريرة غيره، ولو كان من ذويه الأقربين.

 (6) قيمة حماية الفرد من تعسف السلطة أيا كانت.

 (7) قيمة الحماية من التعذيب.

 (8) قيمة حماية عرض الفرد وسمعته.

 (9) قيمة كفالة حق اللجوء للمضطهدين والمظلومين.

 (10) قيمة حماية حقوق الأقليات على الوجه الذي أصلته شريعة الإسلام.

 (11) قيمة المشاركة فى الحياة العامة: بمعنى حق الفرد فى المعرفة بما يجرى فى مجتمعه، وحقه فى تولى المناصب والوظائف وحقه فى أن يختار حاكمه بإرادة حرة.

 (12) قيمة حرية التفكير والاعتقاد والتعبير: بمعنى حق كل فرد فى التعبير عن فكره ومعتقده بحرية كاملة وحقه فى التعبير عن رفض الظلم، وحقه فى نشر المعلومات ما دامت لا تمثل خطرًا على أمن المجتمع والدولة، وواجبه فى احترام مشاعر مخالفيه فى الدين.

 (13) قيمة الحرية الدينية: بمعنى حرية الاعتقاد وحرية العبادة وفقًا لمعتقد الفرد.

 (14) قيمة الدعوة والبلاغ: بمعنى حق إنشاء المؤسسات اللازمة للدعوة إلى الحق، وحق الفرد وواجبه فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

 (15) القيم الاقتصادية: بمعنى الانتفاع بثروات الطبيعة وواجب عدم إفسادها.

وقيمة العمل والإنتاج، وقيمة الملكية الخاصة، وحق الفقراء فى مال الأغنياء، وتوظيف مصادر الثروة ووسائل الإنتاج لمصلحة الأمة، وترشيد النشاط الاقتصادى عن طريق منع الغش والضرر والجهالة، والاستغلال، والتغابن، والاحتكار، والربا، ورعاية مصلحة الأمة والتزام قيم الإسلام بعامة.

 (16) قيمة حماية الملكية: وعدم انتزاعها إلا بتعويض مناسب.

 (17) قيمة العمل وإتقانه.

 (18) قيمة استيفاء الفرد لكفايته من مقومات الحياة مادية كانت هذه المقومات أو صحية أو عقلية.

 (19) قيمة بناء الأسرة: بمعنى الحقوق والواجبات فى بناء الأسرة وحقوق الأفراد وواجباتهم داخلها.

 (20) قيمة الزوجية: بمعنى أن حق الزوجة فى الإسكان وفى الإنفاق عليها، وحق الزوجية فى إنهاء عقد الزواج وديًا، وحقها فى طلب التطليق أمام القاضى، وحقها فى الميراث، وواجب كل من الزوجين فى حفظ غيبة صاحبه.

 (21) قيمة التربية: بمعنى حق الأولاد على الآباء فى التعليم، وحق جميع المواطنين فى التعليم فى إطار سياسة تتكافأ فيها الفرص.

 (22) قيمة حماية: خصوصيات الإنسان بمعنى تحريم التسور والتجسس، وتتبع عورات الناس.

 (23) قيمة إتاحة حرية الارتحال والإقامة: بمعنى حرية الحركة والتنقل وتجريم الإبعاد عن الوطن، واعتبار أن الإسلام يمثل دارًا واحدة.

هذه قائمة من القيم يمكن أن تكون موضوعات للتعليم فى المؤسسات التعليمية، وتحتاج هذه القائمة إلى توزيعها على مراحل التعليم المختلفة، ملائمة ما يقدم منها فى كل مرحلة لمستوى نضج المتعلمين، وللمطالب الملحة فى كل مجتمع من رصيد القيم التى تضمنها هذا البيان.

 

الاقتراح الثانى، جعل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية محورًا لتعليم القيم:

قدم الدكتور عادل العوا (1987) تصورًا عن (قضايا القيم) فى دراسة أعدها لكتاب (الفكر التربوى العربى الإسلامي.. الأصول والمبادئ) ذكر فيه أن النظرة الإنسانية فى الإسلام قائمة على المساواة بين الناس، وأنه لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، وألمح إلى أن بعض القيم الإسلامية يسهل اشتقاقها من آيات القرآن الكريم. وذكر مثلًا لذلك الآيات من (13-37) فى سورة الإسراء ابتداء من قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} إلى قوله تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، وحين يتأمل المرء هذه الآيات الكريمة يجد أنها تتضمن مجموعة القيم التالية: قيمة المسؤلية الفردية، وقيمة الاعتقاد فى الحساب، وقيمة حرية الاعتقاد، وقيمة طاعة الوالدين، وقيمة صلة ذوى القربى والمساكين، وقيمة الحياة ونقيضها قتل النفس، وقيمة المحافظة على مال اليتيم، وقيمة الوفاء بالعهد، وقيمة الأمانة، وقيمة عدم اتباع الهوى، وقيمة مجانبة التكبر والعدوان (العوا، 1987، 229- 230) ثم أضاف قيمًا أخرى تشتق من القرآن الكريم ومن السنة المشرفة، وهى قيم: عالمية الإسلام، والحرية، والسلام والتعاون على البر والتقوى والتكافل، الصدق، والاستقامة، والعفو، ونصرة المظلوم، واتقاء شح النفس.

وأعتقد أن هذا التصور هو الذي يجرى عليه العمل الآن فى تعليم مادة التربية الدينية، وأن معلمينا غير مؤهلين لاستنباط القيم من الآيات على النحو الذي قدمناه هنا. هذا بالإضافة إلى أن جعل النص القرآنى، أو نص الحديث النبوى هو البداية يغري بعض المعلمين بالتركيز على المعانى اللغوية والتفسيرات اللفظية دون الاهتمام بتعليم القيم على نحو يمكن أن يعمقها فى نفوس المتعلمين بطريقة حوارية على الوجه الذي سوف أعرضه فى مكان تال بهذه الدراسة.

 

الاقتراح الثالث، تصور أهل التصوف

عنى أبو حامد الغزالى باستخلاص القيم الإسلامية من نصوص القرآن الكريم وحده، وخصص فى كتابه (جواهر القرآن) قسمًا مستقلًا سماه كتاب (الأربعين فى أصول الدين) وفيه عرض لما سماه الأعمال الباطنة، وقسمها إلى أخلاق مذمومة يجب تزكية النفس منها وهي عشرة: شره الطعام، وشره الكلام، والغضب، والحسد، وحب المال، وحب الجاه، وحب الدنيا، والكبر، والعجب، والرياء. وإلى أخلاق محمودة وهي عشرة: التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والصبر، والشكر، والإخلاص، والصدق، والتوكل، والمحبة، والرضا بقضاء الله.

ويرى صاحب كتاب (الدر المنثور فى تفسير أسماء الله الحسنى بالمأثور) أن الله سبحانه وتعالى قد وضع الجنس البشرى سبعة معان، تمثل كل واحدة منها قيمة من القيم العليا، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، كما وضع سبحانه فى الصورة الإنسانية أضداد هذه القيم وهي على الترتيب: الموت، والجهل، والعجز، والإباء، والصمم، والعمى، والبكم.

وتمثل هذه المحاولات الصوفية محاولات مبكرة جدًا فيما يسميه علماء المناهج مراكز تنظيم المنهج organization centers، وتقديم هذا التصور بالإضافة إلى الاقتراحين السابقين أردت به أن أدلل على أن هناك محتويات كثيرة يمكن أن تعلم فى إطار ما تتحدث عنه هذه الدراسة وهو (تعليم القيم) .

والواقع هو أن الفكر التربوى فى المستوى العالمى وفى المستوى المحلى قد أهمل أمر تعليم القيم إهمالًا كبيرًا ووجهت العناية فى التعليم إلى الجانب المعرفى الوسيلي، وأعنى بذلك المعارف التى يوظفها المتعلمون فى كسب الرزق، وإلى جانب مهارات الأداء المختلفة، أما الجانب الوجدانى، وتقع القيم فى التصميم منه، فقد أهمل؛ إلى درجة يظن معها أن (تعليم القيم) يمكن أن يكون ناتجًا ثانويًا عارضًا لتعليم المواد الدراسية، أو أمن يترك أمره لمؤسسات أخرى هى: الأسرة ودور العبادة (المساجد والكنائس) ، وقد ذلت مشاهدات عامة الناس وخاصتهم على أن الاعتماد على الأسرة ودور العبادة وحدها فى تعليم القيم عمل قليل الجدوى.

وأنتقل الآن إلى الإجابة عن السؤال التالى من أسئلة الدراسة وهو: ما المواقف المدرسية التى يمكن أن تتيحها المدرسة لتعليم القيم؟

 

 رابعًا، المواقف المدرسية التى يمكن أن تستغل فى تعليم القيم

من الحقائق الثابتة الآن فى مجال التعليم أن مناهج التعليم تنقسم إلى منهجين: أحدهما صريح معلن، والثانى ضمني مستتر. والمنهج الأول هو الصورة الرسمية التى تقررها السلطات المسؤولة فى هيئة مواد دراسية ذات أهداف معينة ومحتويات تغطى جوانب المعرفة البشرية المتاحة؛ اللغات، والإنسانيات والعلوم الطبيعية والحيوية والرياضيات وهكذا. أما المنهج الثانى فيعنى المعايير والقيم والمعتقدات غير المعلنة، والتى تستند إليها القواعد والإجراءات التى تشكل الأعمال النمطية، والعلاقات الاجتماعية، داخل المدرسة، وفى الفصول الدراسية.

واستنادًا إلى فهم المنهج على هذا الوجه فإن المواقف التى يمكن أن يتم فيها تعليم القيم داخل المدرسة يمكن تصورها موزعة على الوجه التالى:

(1) التعليم العابر غير المقصود لذاته:

ويتكفل بهذا النوع من التعليم –بصورة واعية أو غير واعية– التنظيمات الإدارية والعلاقات الاجتماعية داخل المؤسسة التعليمية الدراسية. وسوف أكتفى فى هذا الجانب بذكر أمثلة لهذه المواقف وللقيم التى يتشربها المتعلمون منها:

● تركيز السلطة داخل المدرسة فى فرد واحد أو فى عدد محدود من الأفراد يترك فى نفوس التلاميذ شعورًا بأن قيمة (القيادة) محكومة بالتعيين، دون نظر إلى المعرفة والخبرة، ولاستفادة من جميع العقول المتاحة فى بيئة المدرسة.

● نمط العلاقات السائدة بين إدارة المدرسة والمعلمين يمكن أن يكون استبداديًا أو ديمقراطيًا أو متسيبًا، ويتعلم التلاميذ قيمة كل نمط من هذه الأنماط من خلال متابعتهم للنشاط اليومى فى المدرسة.

● يختلف نوع التفاعل الذي يحدث داخل الموقف التعليمى ذاته. وقد دلت نتائج عدد من البحوث أن التلاميذ يتعلمون من سلوك معلميهم داخل الفصل الدراسى أو خارجه القيم التالية:

- الود والتعاطف أو ما يقابلهما من تباعد عن الناس وانطواء على الذات.

- فهم المسؤوليات وإنجاز متطلباتها بناء على تخطيط سابق، أو ما يقابل ذلك من قيمة احترام الآخر وتشجيعه، فى مقابل إهانته والتقليل من شأن إنجازاته. (rayans ,1964,67-1027) .

هذا بالإضافة إلى أن المدارس ومؤسسات التعليم عامة تنظم أنشطة اجتماعية ورياضية وكشفية ورحلات علمية وترفيهية، ومن خلال تنظيم هذه الأنشطة والممارسات التى تتم فى كل منها يمكن أن يتعلم التلاميذ قيمًا كثيرة منها: التعاون، والتكافل، والضبط الذاتى، وإنجاز الواجب فى حينه، وإتقان العمل، ورعاية صالح الجماعة، وإيثار الآخرين، ونحو ذلك.

ويلاحظ على هذا النوع من التعليم أنه عابر، وغير مقصود لذاته؛ وإنما يتم بصفة عارضة، دون أن يتأمل المتعلمون المواقف البديلة المتعددة التى يمكن أن تتاح فى كل موقف، وما ترتب على كل منها. وهذا النوع من التعليم مرغوب فيه ومطلوب، ولكنه غير كاف، ونتائج هذا التعليم العابر –فى مثل المواقف التى أشرنا إليها– تستوي فيها مؤسسات التعليم ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، ورعاية الأحداث، والسجون.

 

(2) تعليم القيم من خلال المواد الدراسية المختلفة:

يتيح تعليم المواد الدراسية المختلفة فرصًا شتى لتعليم القيم، ففى تعليم المواد الطبيعية والبيولوجية تتاح مواقف كثيرة يمكن أن يتعلم منه التلاميذ قيمة (العلم) فى اكتشاف أسرار الكون وقيمة (المحافظة على البيئة) وقيم (ترشيد استخدام الموارد) .

وفى الدراسات التاريخية تتاح مجالات كثيرة لتعليم قيم (العدل) فى مقابل الظلم، و(الديمقراطية) فى مقابل الاستبداد، وقيمة الهجرة فى طلب الرزق، وقيمة (السلام) فى مقابل الحرب ونحو ذلك.

وفى الدراسات الأدبية: الشعر والنثر (القصة والمسرحية والرواية ونحوها) يمكن أن يتوقف الطلاب والمعلمون أمام النماذج البشرية التى تعرض فى هذه المواد، والقيام بتحليل مقولاتها، واتجاهاتها وأفعالها، وتحديد القيم البارزة التى تتصف بها كل شخصية كالعدل، والصدق، والأمانة، وإيثار الآخر، ورعاية الصالح العام ونحو ذلك.

وتقديم مقررات التربية الدينية فى المدارس عليه مآخذ كثيرة: منها الاعتماد – فى المقام الأول – على الحفظ والتلقين، وإعطاء أولوية للتحليلات اللغوية والأدبية فى النصوص، وشبه الانقطاع بين ما يعلم فى التربية الدينية وما تزخر به وقائع الحياة العملية فى المجتمع الذي يعيش فيه الطلاب.

 

(3) تعليم القيم بصورة مباشرة مقصودة:

أتى على التعليم فى مصر حين من الدهر كانت تتاح فيه للمعلمين والطلاب فى بعض مدارس التعليم (تحديدًا: مدرسة الأورمان النموذجية، ومدرسة النقراشى النموذجية) فرصة للتنور، والتدرب على إصدار الأحكام؛ حيث كان يحدد فى الجدول المدرسي الأسبوعي ساعتان للمناقشة والحوار بين المعلمين والطلاب تحت اسم (التعليق على الأحداث الجارية) وفى هذا الصدد كان المعلمون والمتعلمون يتعاونون فى جمع المعلومات عن الأحداث الجارية عالميًا ومحليًا، من الصحف والمجلات والإذاعات، وكانت هذه الأحداث تتراوح بين الصراعات والنزاعات الدولية مما هو مناسب لمستوى نضج الطلاب؛ أذكر منها مثلًا محاولة مصدق تأميم بترول إيران والأحداث الداخلية مثل: اغتيال أمين عثمان، واغتيال النقراشى، واغتيال حسن البنا، وتزوير الحكومة للانتخابات، وما يجرى فى مجلس النواب المصرى آنذاك، وحوادث القتل والسرقة ومظاهر السلوك المنحرف الأخرى التى كانت تنشر فى المصحف، وكانت المناقشات فى (التعليق على الحوادث الجارية) تجرى بين مجموعة من الطلاب وفريق من المعلمين (مدرس مواد اجتماعية، ومدرس لغة عربية، ومدرس علوم) وكان الهدف من هذه المناقشات أن يكتشف الطلاب من خلال حوار صريح بينهم وبين معلميهم بعض القيم الخلقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى توجه سلوك خاصة الناس وعامتهم.

أعتقد أن التنظيم الذي أشرت إليه كان يمثل محاولة لتعليم القيم الاجتماعية بصورة مباشرة، تتسم بالعقلانية، وتهدف إلى تدريب الطلاب على التحليل، وإصدار الأحكام الخلقية، وتحفزهم على إعمال مقتضيات القيم فى سلوكهم.

ومن أمثلة التعليم المباشر للقيم مشروع تم تنفيذه بمعرفة إدارة التعليم فى ولاية كاليفورنيا فى الولايات المتحدة الأمريكية. (california state department of education ,1988)

كان الهدف منه معاونة الطلاب على فهم الآخرين، وتصعيد القيم الاجتماعية فى وجداناتهم وسلوكهم. واتخذت مادة الأدب والقراءة محورًا مع التركيز على القيم وفهم الآخرين من خلال النماذج البشرية التى تعرض فى الأدب وفى برنامج تعليم اللغة فى المرحلة الابتدائية.

وقد استخدمت فى تقديم هذا البرنامج خطة شاملة ضمت إجراء مقابلات مع الطلاب، وتطبيق استبيانات عليهم للكشف عن الاتجاهات والقيم والمهارات الاجتماعية، وملاحظة سلوك الطلاب فى جامعات صغيرة للعمل، وفى الفصل الدراسى، وفى الملاعب.

وقد دلت ملاحظة سلوك الطلاب الذين انتظموا فى ذلك البرنامج –مقارنة بسلوك آخرين مناظرين لهم فى كل المتغيرات ولم ينتظموا فى البرنامج– على أنهم قد أصبحوا أكثر استغراقًا فى معاونة بعضهم لبعض، وأكثر تعاونًا فى إنجاز الأعمال الجمعية، وأنهم يتسمون بالتعبير المتكرر عن حب بعضهم بعضًا، وعناية بعضهم بعضًا، وعناية بعضهم ببعض، ودعم بعضهم بعضًا، وتبادل التشجيع فيما بينهم.

ومن أبرز ما تؤكده الأدبيات المنشورة عن هذا البرنامج ما يلي:

● عناية المعلمين بتعليم التلميذ كيف يكون عادلًا ومهتمًا ومسؤولًا فى الفصل الدراسى.

● إتاحة فرصة كافية للتلاميذ كى يفكروا ويناقشوا معنى القيم الاجتماعية الأساسية.

● إتاحة فرص للممارسة ما تدعو إليه القيم فى الفصل بخاصة، وفى المدرسة بعامة، وفى المنزل والمجتمع بوجه أعم.

● تأكيد أن مزيجًا من التعليم المباشر، والممارسة الفعلية للسلوك، وتأمل عواقبه يمثل طريقة فعالة فى تعلم القيم.

● تأكيد أن تعليم القيم يحتاج إلى مناخ آمن ودود داخل المدرسة وفى الفصل الدراسى وداخل الأسرة.

● وأخلص من عرض خبرتى الشخصية القديمة فيما يعرف باسم (التعليق على الأحداث الجارية) ومما عرضته بإيجاز عن مشروع ولاية كاليفورنيا إلى تأكيد أن القيم يمكن تعليمها بطريقة مباشرة ومقصودة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو كيف يكون ذلك.

 

خامسًا، طرق تعليم القيم

أنتقل الآن إلى الحديث عن كيفية تعلم القيم؟ أشرنا في المبحث السابق إلى كيفية استغلال المدرسة في تعليم القيم بطريقة 1- مباشرة و2- غير مباشرة، ونضيف لهما:

3- الموقف القيمى:

يمكن أن يحدد الموقف القيمى بأنه موقف تعليمى هادف، يتم تخطيطه بعناية؛ بحيث تبرز فى مكوناته أنماط للسلوك، تختلف فى دوافعها، وفى أحداثها، وفى عواقبها؛ هدفه أن يتبادل المتعلمون فيما بينهم التأثير والتأثر فى بنيانهم المعرفية، وفى نظام القيم ومؤشراته، وفى السلوك العلى. وفى عبارة أخرى يمكن القول إن المواقف القيمية مواقف تستدعى اتخاذ قررات يحكمها نظام القيم.

وتتطلب هذه المواقف إعدادًا سابقًا، يكفل أن تتوافر فى عناصرها سمة الصراع فى نظام القيم؛ بحيث يبرز فيها التباين فى السلوك وفى دواعيه ونتائجه، وأعرض فيما يلي مثالًا لهذا الموقف فى صورة حالة الطالب (أمين صادق) . وتلك هى إحدى الصورة التى تقدم بها المواقف، ويمكن أن تقدم على شريط فيديو يعرض على الطلاب. كما يمكن أن تعد أفلام تعليمية هدفها تعليم القيم.

(أمين صادق) كان طالبًا فى كلية (الشريعة والقانون) بجامعة (الصلاح) وأثناء أدائه امتحان (الليسانس) ضبطه أحد المدرسين وهو يغش، وحاول المدرس أن يسحب منه ورقة الامتحان، ولكن أمين تشبث بها بشدة؛ فتركه الأستاذ، حتى لا يفسد على بقية الطلاب الجو الهادئ الذي يجب أن يتوفر لأداء الامتحان.

وحينما انتهى الوقت، وقام أمين بتسليم ورقة إجابته للمدرس وتساقطت منها أوراق صغيرة مطوية (برشام) فالتقطها المدرس بسرعة. فصاح أمين منزعجًا وقال: هذا البرشام ليس ملكًا لى، فرد المدرس بأنه سيرفع الأمر إلى عمادة الكلية للتصرف فيه، وحين سمع الطالب ذلك هدد الأستاذ بأنه سيقتله وسمع المدرسون الآخرون والطلاب هذا التهديد، وما لبث أمين أن انخرط فى بكاء عميق نقل بعده إلى المستشفى. وقرر الأطباء المعالجون أن الطالب مصاب بانفصام بسيط فى شخصيته، وقرر مجلس التأديب الذي عقدته الجامعة للطالب فصله من الجامعة، والتوصية بعدم قبوله طالبًا فى أية جامعة حكومية.

أما زملاء (أمين) فإنهم لم يخفوا سعادتهم ما حدث، حيث قال بعضهم هذا الجزاء الغشاش، وقال آخرون: نحمد الله أننا لم نضبط ونحن نغش.

 

خاتمة الدراسة

فأود أن أختتم هذه الدراسة بإيراد بعض المقولات ذات العلاقة بما قدمت فيها، وأوجزها فيما يلي:

(1) أن التسليم بماهية القيم، وبأهمية تعليمها على النحو الذي عرضه الباحث هنا يسوغ أن تعليم القيم فريضة غائبة فى نظم التعليم العربية، وأنها غائبة أيضًا فى كل محاولات التطوير التى تضطلع بها وزارات التربية والتعليم فى بعض البلاد العربية (مثلًا: مصر، والأردن).

وأن برامج التنمية بعامة، وبرامج تطوير التعليم بخاصة إذا لم تؤسس على أعمال مقصودة تهدف إلى تنمية القيم لدى الناس عبث لا جدوى منه، ومضيعة للوقت وللجهد وللمال؛ لأن القيم هى الموجهات الأساسية لكل ما يحرز المتعلمين فى مجالات العلوم، والتطبيقات التقنية.

 (2) هناك حقيقة يجب تأكيدها، وهي أن تعليم القيم فى معاهد التعليم يحتاج ألا تتناقض مجريات الأمور فى المؤسسات العامة بالمجتمع مع القيم التى يراد تعليمها؛ فالحرية لا تعلم فى مدارس مجتمع يستبد حكامه بالناس، والعدل لا يعلم فى مجتمع تنتشر فى ممارسات مؤسساته مظاهر الظلم السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وقيمة (الاستقلال) وهو (الاعتماد على الذات) لا تعلم فى مجتمع تزداد فيه مظاهر التعبية السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية.

ولا أعنى بهذه المقولة أن تكف نظم التعليم عن تعليم القيم حتى تتوفر القيم فى المجتمع العام الذي تخدمه هذه النظم، وإنما أعنى بها إبراز هذا التناقض الذي يجب أن يؤخذ فى الاعتبار عند التخطيط لتعليم القيم.

 (3) إن ما قدمت فى هذه الدراسة يمثل جهدًا متواضعًا، أردت به أن أستنفر المعنيين بالتعليم –حكومة، وجماعات وجمعيات مهنية، وأفرادًا– ليبذلوا جهودًا عقلانية مقصودة ومتسقة، فى سبيل تنمية البشر، وتجديد طاقاتهم فى إطار القيم الإنسانية العليا. وأرجو فى هذا الصدد أن تنظر الجمعية العربية للتربية الإسلامية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي فى الإعداد لمؤتمر موسع تدعى للمشاركة فيه نخبة من علماء الدين والسياسة، والقانون، والاقتصاد، والاجتماع، والتعليم والثقافة والإعلام ويكون موضوعه (القيم الإنسانية فى الحضارة الإسلامية: من المنظورات إلى التطبيقات)، ولدى تصور لأهداف مثل هذا المؤتمر والإجراءات التى تتخذ بشأنه، والقضايا والمشكلات التى تناقش فيه يمكن أن أعرضه فى الوقت المناسب.

 (4) أعتقد أن جوهر ما تدعو إليه هذه الدراسة يمثل تغييرًا جذريًا يجب أن يحدث فى أهداف التعليم، وبناه ومضامينه، وأساليب تقديمه. وأن الحكمة تقتضي أن تبدأ كليات التربية، ومعاهد إعداد المعلمين فى جعل موضوع (تعليم القيم) أحد المساقات الرئيسية فى برامجها، وأن تتسابق هذه الكليات والمعاهد فى توفير الطرق والوسائل التى تكفل حسن إعداد المعلمين للقيام بمسؤليات تعليم القيم فى مراحل التعليم المختلفة، وفى أنواعه المتعددة.

ويتوازى مع هذا الجهد عمل مماثل يجب أن تضطلع به مراكز تدريب المعلمين فى أثناء الخدمة.

 

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم