Business

صفحات تربوية من حياة المربي عليّ الطنطاوي

 

على مدى ما يَقْرُب من ثلاثَةِ عقودٍ منَ الزَّمان، تَحَمَّل علي الطنطاوي عبْء التربية والتوجيهِ لِشرائحَ مِن جماهيرِ الأُمَّة، من الذين شغُفوا بالاستماعِ إليه، وخاصَّة في برامِجه (مسائلُ ومشكلات)، و(نورٌ وهداية)،و(على مائدةِ الإفطار).

ولقد شَهِدَ لِحُسْنِ منطقه وجودة حديثه كثيرون ممن عاصروه، واستمعوا إليه، وتابعوه، ففي ذلك يقول الأستاذ محمد بن لطفي الصباغ: «الأستاذ الطنطاوي مُتحدث ناجح في الإذاعة والتلفاز؛ فقد شَهِدَ له الخبراء المخْتَصُّون بأنه أنجحُ متحدث في هاتين الأداتَيْن من أدوات الإعْلام، ويمتازُ بإلقائه الجميل المحبَّب إلى النفس».

وفى دراسة للدكتور عبدالعظيم بدران بعنوان (علي الطنطاوي مربِّيًا) -2009-، يرى أن الشيخ أبلى بلاءً حسنًا؛ كَمُرَبٍّ فاضل وأسْتاذٍ مُعَلِّمٍ، ولم يكْتفِ في مسيرة حَياتِه بالنَّقْدِ والتَّوْجيهِ النَّظَرِي، وله تُراثُ تربوى مكتوب، فقد قدَّم منه للصغار والكبار (سبْع حكايات من التاريخ)، وهي من أدَبِ الأطفال، و(في سبيل الإصلاح)، و(رسائل الإصلاح)، و(مقالات في كلمات – مجموعتين)، كما تعرَّض في ذكرياته لقضايا تربوية كثيرة، ومن أشهرِها قضايا التربية والتعليم قديمًا وحديثًا، ومن ذلك ما كتبه بعنوان: (خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم)، و(ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثْرَ رُسوخًا رغم مساوئه؟)، و(من ذكرياتي في تعليم التلاميذ وتربية البنات).

 

التعريف بالشيخ على الطنطاوي

برز اسم الشّيخ علي الطّنطاوي رحمه الله كواحدٍ من أهمّ رموز العمل الإسلامي والدّعوي في القرن العشرين، فقد تميّز الشّيخ علي الطّنطاوي بعلمه الغزير في مجال الأدب والتّاريخ والقانون والعلم الشّرعي، كما كان له حضوره الكبير في المؤتمرات الشّعبيّة والمظاهرات السّياسيّة التي طالبت بانسحاب الاستعمار الغربي من ديار المسلمين.

 

ولد الشّيخ علي الطّنطاوي في سوريا سنة 1909 ، وقد نشأ في بيت علم فأبوه مصطفى الطّنطاوي ويعتبر من علماء الشّام الأجلاّء حيث كلّف بأمانة الفتوى في دمشق، كما كان أخوال الطّنطاوي كذلك من عائلة الخطيب مشهورين بالعلم والأدب، ومن بينهم خاله محبّ الدّين الخطيب الذي كان متواجدًا في مصر وأسّس فيها صحيفتي الزّهراء والفتح التي شارك في تحريرها الشّيخ علي الطّنطاوي.

 

انتظم الشّيخ علي الطّنطاوي صغيرًا في المدارس النّظامية في دمشق، كما تلقّى العلوم الشّرعية واللّغة العربيّة على يد مشايخ الكتّاب، وبعد دراسته في المدراس الابتدائيّة التحق بمكتب عنبر الذي كان يمثّل الثّانويّة العامّة في دمشق أو البكالوريا حيث تخرّج سنة 1928م بتفوّق، ليفكر بعد ذلك بالسّفر إلى مصر لإكمال دراسته العليا في كلية دار العلوم، ولكنه ولأسباب معيّنه قرّر الرّجوع إلى دمشق ليلتحق بجامعتها ويمضي فيها ما يقارب أربع سنوات حيث تخرّج منها سنة 1933 حاصلًا على شهادة البكالوريوس في القانون.

اهتم الشّيخ علي الطّنطاوي بالكتابة في الصّحف والمجلات حيث نشط في هذا المجال منذ أن كان في السّابعة عشر من عمره، وقد شارك مع خاله محبّ الدّين الخطيب في تحرير جريدتي الفتح والزّهراء، كما كان مديرًا لتحرير جريدة الأيّام في فترةٍ من فترات حياته.

بعد إغلاق صحيفة الأيام التحلق الشّيخ علي الطّنطاوي بسلك التّعليم، حيث أمضى فيه فترة تقارب عشر سنوات معلّمًا وموجّهًا وتربويًّا قلّ أن يرى مثله.

ساء السّلطات الحاكمة في ذلك الوقت ما كان يتحدّث فيه الشّيخ علي الطّنطاوي من أمور الأمّة الإسلاميّة أمام الطّلبة فقرّروا نقله إلى سلك القضاء الذي استمر عاملًا فيه وقاضيًا فترةً تقارب خمسة وعشرين سنة ومتنقّلًا ما بين قضاء النّبك ودوما ودمشق، ليستقر به الحال مستشارًا لمحكمة النّقض في دمشق، وقد ساهم في تلك الفترة في وضع قانون الأحوال الشخصيّة وكذلك وضع مناهج الأوقاف.

انتقل الشّيخ علي الطّنطاوي في أواخر حياته إلى السّعودية، حيث عمل في المعاهد والكليّات الشّرعيّة وكان يلقي الخطب والمواعظ ويعقد المجالس العلميّة حتّى توفّاه الله تعالى في مكّة المكرّمة سنة 1999 ميلادي.


مُرَبٍّ فاضل وأسْتاذٍ مُعَلِّمٍ

على المستوى العائلي حيث التوجيهُ والتربيَةُ المباشرة، يَجِدُ نفسه مسؤولًا عن أسرته، التي تُوفِّي عنها عائِلُها، ولمَّا يَبْلُغْ عليٌّ ابنه الأكْبَرُ الثامنَةَ عَشْرَةَ من عُمْرِهِ، وفي حديثه عن تربية بعض إخوته، يقول: «أمَّا ناجي، فاشتركَتْ في تكْوِينِه تربيةُ أبيه، وآثارُ مدرسته، وما علمته أنا، وأمَّا عبدالغني، فتَوْجِيهي أنا، وأَثَرُ المدرسة أقْوَى فِيه من أثر أبي- رحمه الله- وأمَّا سعيد، فكنت أنا العامِلَ الوحيدَ فِي تَرْبيَتِه الدينِيَّة، والسلوكِيَّة، والثَّقافِيَّة، صنعتُ له- والفَضْلُ لله لا لِي- أكْثَرَ مما صنع لِي أبِي- رحمه الله- كان أبي مشغولًا أحْيانًا عَنِّي، وكنتُ أنا دائمًا معه، وسيَّرَني أبي في طريقِ العِلْم فقط، وسيَّرْتُه فِي طريقِ العِلْم وطريق الأَدَبِ معًا، حتَّى صار فِي يوم منَ الأيَّام كأنَّه صورةٌ منِّي، ونُسْخَةٌ عَنِّي».

وإذا كان الطنطاوي يَقْصِدُ أنَّ أخاه قد صار نُسْخَةً منه في مرْحَلَةٍ معيَّنَةٍ، ثُمَّ تَبَلْوَرَتْ شخصيَّتُه المستَقِلَّة ‏فيما بعد، فلا بَأْسَ بِهذا المعْنَى، أمَّا إذا كان يعني أنَّه يعْتَزُّ بهذه النسخة التي خَرَجَتْ طِبْقَ الأصل- تقريبًا- فإن اعتزازَه هذا يأتي في غَيْرِ موْضِعِهِ؛ إذْ من المتَّفَقِ عليه أنَّ خَيْرَ المعَلِّمينَ هو مَنْ لا يَصْنَعُ تلميذَه على قالَبِه؛ فإنَّ التقليدَ ممجوجٌ، حتَّى ‏وإنِ اجْتَهَدَ المقلِّد في التَّطَابُقِ مع الأصْلِ، والميْزَةُ الحَقيقيَّةُ للرِّجالِ العُظَماءِ هي في سَبْقِهِم غَيْرَهم وتميُّزِهم ‏عنهم، لا في تقليدِهم؛ وعلى هذا قد تُفهم الحكْمةُ السَّائِرَة:‏

فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ    إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلاحُ

أيْ: إِنْ لم تكونوا مِثلَهم فِي خَوْضِ لُجَجِ الحَيَاةِ، والتَّغَلُّبِ على مصاعِبِها، والإتْيانِ بالجديدِ، فتشَبَّهوا ‏بِصِفاتِهم، وهذا يَعْنِي أنَّ التَّشَبُّهَ يأتي في درجَةٍ أدْنَى، أيْ: بعْدَ العَجْز عن الوُصولِ إلى مراتبِ العَظَمَةِ.‏

ويحكي علِيٌّ بعْضَ تَصَرُّفاتِه التي هُدِيَ إلَيْهَا مع أخيهِ سَعيد، فيقول: «لَمَّا عَرَضَ له فتعَثَّر في النُّطْقِ، وجرَّأ عليه رُفَقَاءهُ فِي المدرسة؛ استَخَرْتُ الله، وأخْرَجْتُهُ منها، وخِفْتُ أنْ ينقطع عن الْمُطالَعَةِ، ثم يَبْتعِد عنِ العِلم، فَهَدَانِي اللهُ فاشْتريْتُ لَهُ قِصَّةَ عَنْتَرَة، في ثمانيةِ مُجَلَّدات، وهي موْضوعَة وأشْعارُها مَصْنوعَة، ولكن فيها أخْبارُ الجاهِلِيَّةِ كُلُّها، وفيها أسْماءُ أبْطالِها وأنْباءُ رِجالِها، وكان ذَكِيًّا من أذْكَى الناسِ، فَحَفِظَ أخْبارَها وأشعارَها... ثم خلَّيْتُ بينه وبين المكْتَبَةِ فَقَرأَ وقرأ، لا يطالَبُ بامْتحانٍ ولا يُكلَّفُ باتِّباعِ مَنْهَجٍ، ثم أعَدَّ نفسَه لامتحانِ الكِفايَةِ، فَدَخَلَهُ ولَحِقَ رِفَاقَ المدْرَسَةِ، فما ضَاعَ عَلَيْهِ شَيْء».

ويدُلُّ هذا الموقف على أنَّ عليًّا قد أوتِيَ مَقْدِرةً تربويَّة عالِيَة، رُبَّمَا اكْتَسَبَهَا جَراءَ عَمَلِهِ فِي التَّدْريسِ لسنواتٍ طَويلَةٍ، إضافَةً إلى ما مَنَحَتْه إيَّاه تصاريفُ الزَّمانِ وتَقَلُّباتُ الأيَّام.

وتُعَدُّ هذه المداخلةُ- قصَّة عنْترة، في ثمانيةِ مُجَلَّداتٍ، وهي موضوعَةٌ وأشعارُها مصنوعة، ولكن فيها ‏أخبارُ الجاهلية كلُّها، وفيها أسماء أبطالِها وأنباءُ رجالِها وأمثالُها- منَ النَّقْدِ العَارِضِ الذي يَسُوقُهُ ‏الطنطاوي بين ثنايا أحادِيثه، مَهْمَا اختلفَ موضوعُها، وهو يكادُ لا يَتْرُك مثْلَ هذه التعليقات، حِينَ يذكُرُ كِتابًا أو شخصًا أو موضعًا أو واقِعَةً ‏تاريخيَّة، حتَّى يُتْبِعها بتعليقٍ من عنده.‏

وفي موضع آخرَ أثْناء حديثه عن إخْوته هؤلاء يقول: «صارَ الولَدُ الثاني، يعني: ناجي الطنطاوي قاضِيًا، وصار أديبًا شاعِرًا مُصَنِّفًا؛ والثالثُ، يعني: عبدالغني الطنطاوي أستاذًا كبيرًا في الجامعة، وأوَّلَ مَنْ حَمَلَ لقبَ (دكتور) في الرياضيات في سورية؛ والرابع، يعني: محمد سعيد الطنطاوي مدرِّسًا موفقًا وداعيَةً وأديبًا؛ أمَّا الولدُ الأكبَرُ- يقْصِدُ نفْسَه- فلا أقولُ عنْهُ شيْئًا؛ لأنَّ شهادتِي فيه مردودةٌ؛ فهو صديقي الذي لا أُفارِقُه أبَدًا، والذي أكون معه لَيْلِي ونَهارِي، وأراه كلَّما نظرْتُ في المرآة، وهو فوق ذلك يَحْمل اسْمًا مِثْلَ اسمي».

ويُجمل عليٌّ خلاصَةَ التَّجْرِبَةِ التربوية لأُسْرتِه في كَلِمَتِه السابِقَة، ويعلن نَجاحَها، وارتياحَهُ لَها، ورِضاه بما آلَتْ إليه نَتيجَتُها.

 

مع أبنائه وأحفاده

يُرَبِّي علي الطنطاوي الأبُ أربَعَ بناتٍ، ويربِّي علي الطنطاوي الجدُّ عددًا من الأحْفادِ تربِيَةً كَريمَةً، حتَّى جَمَعَتْ حفيدَتُه (عابدة المؤيد العظيم) الكَثِيرَ من مواقِفِهِ التَّرْبَوِيَّة، التي تَجلَّت فيها نَظَرِيَّاتٌ تربوِيَّةٌ حديثةٌ في إطارٍ إسْلامِيٍّ أصيل، فِي كتابٍ لَها بِعُنوان (هكذا رَبَّانا جَدِّي علي الطنطاوي)، وعن بعْضِ هذه الْمَواقِفِ تقول: «وكان جدِّي يوجِّهُنا- أيضًا- إلى وُجوبِ الانْتِباه إلى عدَدِ الحاضِرِين وإلى كَمِّيَّةِ الطَّعام؛ فإذا كانت بعْضُ الأصناف قليلةَ الكَمِّيَّة، وَجَبَ علينا أن نَسْتعينَ بالرِّياضِيَّات، فنقسم كميَّةَ الطعام على عدد الموجودين؛ لِنعرِفَ حصَّتَنا من ذلك الصِّنْفِ القليل الكمية، فنأكلها ولا نزيد عليها؛ لِكَيْ نتيحَ الفُرْصَةَ لغيرنا؛ ليتذوق ذلك الصِّنْفَ، ولنتجنَّبَ الأنانِيَّة؛ لذلك كنَّا نتعفَّفُ عن آخرِ قطْعَة مِن أيِّ صِنْفٍ، التي صِرْنا نسَمِّيها مِن بابِ الفُكاهَةِ: القِطْعة المُقَدَّسَة، فتظل بغيْرِ صاحبٍ، وتبْقى على الطاولة».

وتُظْهِرُ كلمَةُ (عابدة) عنْ طريقَةِ جَدِّها فِي التَّرْبِية، وأنَّه كان يثبِّتُ فِي أذْهان أولادِه وأحفادِه بَعضَ المعاني الأخلاقيَّة، ويَرْبِطُهَا بمصطلحاتٍ خاصَّة وطريفَةٍ، يسهل عليهم حِفْظُها، وتستدعي الابْتِسامَ عند تَذَكُّرِها فيما بعد، وتُخَفِّفُ من حدَّة الموقف إذا وُجِدت، وهو فِي الحقيقة أسْلوبٌ تربوِيٌّ فائقٌ وعظيم.

وفي شكواه التي حمَّلها معنى وصياغةً قريبين مما اشتُهر في مجتمعاتنا العربية، يقول علي: «كنت وحيدًا خفيفًا، وكان لِي جناحانِ منْ أحْلامي وأمانِيِّي، فأثْقَلَ ظَهْرِي بناتِي الأربعُ، وأمُّهُنَّ، وعماتُهن، وعمَّةُ أبيهن، واصْطَدَم جناحايَ بأَرْضِ الواقِعِ، فكيف يطير بغير جناحَيْن مَنْ يَحمل هَمَّ ثَمانِ نساء؟».

 

التربية غير المباشرة

أمَّا التَّوْجيهُ والتَّرْبِيَةُ غيرُ المباشرة، فلا يعدم قارئُ الطنطاوي دُرَرًا وفوائِدَ متناثرة في كتاباته وخطاباته على مَدَى سَبْعينَ عامًا.

ففي بعض خطاباته وإشاراته للآباء يقول: «رجُلُ الغَدِ الذي ينْفَعُ نفْسَه والنَّاسَ بعلْمِه وخُلُقِه، وعلى الأب أنْ يُمَهِّدَ لطفْلِه بحسن التربية طريقَ السعادةِ فِي الدارَيْن، والنَّجاةِ فِي الحياتَين». وينطلق عليٌّ في خطابِه القصيرِ هذا من القاعدة الإسلاميَّة الصَّافِيَةِ، مُتَّخِذًا إيَّاهَا منْهجًا للتوجيه والخطاب.

ويرجو الطنطاوي أوْلِياء أُمُورِ التلاميذ أن يَتَرَفَّقوا بهم في مسيرة حياتِهم الأولى، ويُحَذِّرُ من آثارِ القَسْوة المفْرِطة على مسْتَقْبلِ الأولاد والمجتمع، فيقول: «كان من المناظِر المألوفة كلَّ صَباح، مَنْظَرُ الولد العاصي، وأهله يجُرُّونه، والمارة وأولاد الطريق يعاونونَهم عليه، وهو يتمسك بكل شيء يَجِدُه، ويرتبط بالأرض، ويتمَرَّغُ بالوَحَلِ، وبكاؤه يُقَرِّحُ عينيه، وصياحُه يجرح حنجرته، والضرباتُ تنْزِل على رَأْسِه، يساق كأنَّه مجرم عاتٍ، يرى نفسه مظلومًا، ويرى الناسَ كلَّهم عليه حتى أبويه، فتَصَوَّروا أَثَرَ ذلك في نفسه، وعمله في مسْتَقْبَل حياته».

وتحمل كلمته القصيرة هذه شعورًا فيَّاضًا، يَحمِلُ قارئه على التَّأَثُّر الفوريِّ الناتج عن جلاء الصورة الحرَكِيَّة الدِّراميَّة أمام ناظِرِيه بكلمات قلائل.

ولأنَّ عليًّا كان ممن يحْرصون على تَطْوير وإصلاح الحياة التعليمية التربوية، فقد كُلف بتخطيط مناهجِ التعليم الشرعي في مرحلَتَيْه المتوسِّطَة والثانَوِيَّة، وكان له الفضل في أنْ أدْخلَ مادةَ (أَعْلامِ الإسْلام)، وهي تدرس التاريخَ من خلال رِجالِهِ الذين كانوا وراء الحركات الكبرى المؤثرة.

وكان من خلالِ تَدْريسِهِ المناهِجَ في المدارس قد اطلع على جوانبها الإيجابيَّة والسلبيَّة، ولاحَظَ انصِرافَ الطلاب منَ النَّثْرِ إلى الشِّعْرِ، فتَفَكَّرَ فِي السَّبَبِ، وعلم أن (الذي تُقَرِّرُ المناهِجُ تدريسَه في النَّثْرِ العرَبِيِّ في مصر والشام والعراق، لا يَخرج في جملته عن رسائلَ ميِّتة لا روح فيها، أو فِقرات جامدة مُسْجَعَة أو غير مسجعة، ليس فيها وصْف يهزُّ القلبَ، أو معنى يوقِظُ الفكرة).

ويقترح أن تؤخَذَ نصوصٌ من كُتُبٍ أخرى مثل (صَيْد الخاطر) لابن الجوزي؛ فإنَّ فيه من السلاسَة والسهولة والمسائلِ النَّفسية والاجتماعية والدينيَّة ما يُغْنِي عن غيره، كما قدَّم للمناهج المدرَسِيَّة أكثرَ من كتابٍ، ومنها (التحليلُ الأدبي)، و(المحفوظات).

وذكَرَ عليٌّ- أيضًا- أن من بواعثِ تأْلِيفِه (تعريفٌ عامٌّ بدين الإسلام) إلحاحَ الطلاب عليه في وضع كتاب يعرض الإسلامَ بصورة شامِلَة ومبسطة؛ كما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يَعْرِضُه على الأعرابي فيفهمه في يوْم أو عدة أيَّام.

وربط الطنطاوي المعَلِّم تلاميذَه بواقع أمَّتِهم المعاصر، فإذا درَّس لهم قِصَّةً أو شِعْرًا أو رواية، فإنَّه يُلقي بظلالها على ما يعيشُه الناسُ حينئذ، يقول عن ذلك: «كان من أكْبَر أمانِي تلاميذِنا في بغداد- إذا قرؤوا قصَّةَ الوَحْدة الإيطالية والوَحْدة الألمانية- أنْ يكونَ العراقُ (بيه مونت أو برسيا)، فيحقق الوحدة بيديه معًا: يَدُ الشَّعب بعواطِفِه ورغباتِهِ، ويدُ الحكومة بسياسَتِها وسلاحها، فكيف تبدَّلَتِ الحال حتى صار ذنْبُنا عند حكَّام العِراق أنَّنَا خَطَوْنَا الخُطْوة الأولى في طريق الوَحْدة؟».

ويترك عليٌّ الإجابة عن سؤاله الأخير لقارئ الأحداث والتاريخ.

 

بعض آرائه وتوجيهاته التربوية

يخط الطنطاوي منهَجَه في التربية، فيقول: «يجب على المعلمين أن يَدُلُّوا التلميذ على الطريق السوِيِّ والخطَّة المستقيمة، وأنْ يعلِّمُوه: من أجدادُه؟ وما حضارَتُه؟ وأن يصبُّوا في نفسه أخْلاقَ العروبة وآدابَ الإسلام، وأن يُحَبِّبوا له العلم؛ حتى يُقْبل عليه بلذَّةٍ وشغف، لا لنيل الشَّهادَةِ والنَّجاح في الامتحان، بل ليستفيدَ في ترْقِيَةِ حياتِه وحياة أمَّتِه، وخدمة بلاده وقومه، وأن يفَهِّموهُ حقائقَ الحياة»، إنَّها كلمات معدودة ومكثَّفة، لا يمكن أن تَصْدُر إلاَّ عن دِرايَة طويلةٍ، وخبرة عريضةِ، وانشغال فكري حقيقي بهذا المجال الحسَّاس.

ويوصي برعاية الأطفال، ورفع الظُّلم عنهم، فيقول: «ارفعوا الظُّلم يرتفع الإجرام، وأَذْهِبُوا البؤْس يذهب الخطر، واعلموا أنَّ هؤلاء المجرمين الذين تمتلئ بِهم السجون كانوا يومًا أطْهارًا، وأنَّ هؤلاء الأطفال المهمَلين المظلومين سيصيرون يومًا مجرمين أشرارًا، وأن رأس الإجرام ومنْبَعَ الشَّرِّ هو الذي ظَلَم هؤلاء الأطفال».

ويُسأل عن ضَرْبِ الأطْفال، فيُجيبُ: «يا سيدي، المسألة ما فيها (نعم) للجميع أو (لا) للجميع، المسألة مرتَبِطة بالشخْصِيَّة والحدث، فبعض الأخطاء ينبغي أن يُضْرب الطفل عليها، وقد يكون هناك طِفْلٌ آخر يكفيه التوبيخُ، وضرب المعلم للطفل في المدرسة ينبغي أن يكونَ مثل ضرب الأب له».

وجدير بالذِّكْرِ- هنا- أن تربويات الطنطاوي التي أودعها تراثَه، قد نالت حظًّا من الدراسة الأكاديمية في صورة رسالة ماجستير بعنوان (بعض الآراء التربوية للشيخ عليّ الطنطاوي)، للباحث عبدالله بن جبريل، بجامعة أم القرى، 1420هـ، 1999م.

 

الطنطاوي وثقافة الطفل

حَرَص (عليٌّ) على تزويد الطِّفل بالثَّقافة المناسبة لمرحلته العُمْرِيَّة، بعيدًا عن المجَلاَّتِ المترجمة والمقتبسة، وتلك التي تُشَجِّع على السَّرقة والاحتيال، يقول حين رأى مرَّةً مَجلَّة من هذا النوع في يد أحد التلاميذ: «فجعلت أفَكِّرُ في هؤلاء الأطفال المساكين، كيف يكونون رجالًا صالحين ذوي إرادة وعزم وفهم للواقع وحب للاتحاد، إذا كانت المجلات المدْرَسِيَّة، التي تنشأ لتوجيههم إلى الخير والفضيلة، إنما توجههم إلى الغش والاحتيال؟».

ويقَرِّر حقيقةً تربَوِيَّة، تراءت له بعد طول مِرَاسٍ، وقَدِ اتَّخَذَها العالم الغربي أساسًا في مسيرته التعليميَّة المعاصرة؛ إذ يقول: «المعلِّم الابتدائي هو الأساسُ، والبناء الذي حدثونا عنه في أمريكا وقالوا: إنَّ فيه مائة طبقة، مائة دَوْرٍ بعضها فوق بعض، لا يقوم ولا ينتفع به إِنْ لم يحْملْه أساسٌ متين غائض في الأرض، والأساس لا يُرَى، ولكنَّ البناء لا يقوم إلا عليه، هذا الأساس هو التعليم الابتدائي، لا يراه الناسُ على حقيقته ولا يقدرونه قدره، ولو كان بيدي شيء من الأمر، أو كان لرأيي قليلٌ من الوزن، لاقترحت أن يشترط في معلم الابتدائي الشهادة الجامعيَّة، وفوقها دورة في التربية وتعليم الصغار، وأن يُعطى مثلَ راتب أستاذ الشهادة الثانوية، نطالبه بالكثير بعد أن نُعْطِيَه الكثير، إنَّ ضعْف معلم الابتدائي لا تصلحه قوَّة مدرس الثانوي ولا أستاذ الجامعة».

وفي حديثه عن المدْخَل التربوي الثقافي المحبب للأطفال، يقول: «لا أدري لِمَ لَمْ ينتفع المعلمون والمربون بهذا الميل المستقر في كلِّ نفس، فيجعلون دروسهم ومواعظهم حكايات وقصصًا؟ ولِمَ يَدَعُون الميدان كلَّه لهؤلاء المفسدين، الذين يستغلون وحدهم هذا الميْلَ، فينشرون في الناس القصص المفسدة للخُلُق، من قصص (أرسين لوبين) وأشباهها، أو المفسدة للعقل كقصص السحرة والعفاريت».

 

خاتمة الدراسة

إن طول فترة عمل الطنطاوي معلمًا، وتنقله بين البلدان الشامية والجزيرة الفراتية، ثم إلى الجزيرة العربية، قد أكسبه من الخبرات العميقة ما يندر أن يتيسَّر لغيره من المربين؛ لذلك فإن ما أودعه تراثه العلمي عن جوانب التربية وطرائقها جديرٌ بالالتفات إليه قبل غيره.

وقارئ الطنطاوي يدرك جليًّا أنه اتخذ في طريقته التربوية أساليب عديدة، منها: ضرب الأمثال، وإيراد الحجج والبراهين، وسرْد القصص الاجتماعية والواقعية، والحكايات التاريخية، وأسلوب الحوار والاستجواب، ومخاطبة العاطفة مع العقل، واستخلاص العبر من المواقف، وتوجيه الخطاب للكبار، وكذلك للصِّغار في الموقف الواحد.

وهكذا يستطيع الآباء، والمربون، والباحثون، والمصلحون أن يحصلوا من هذا التراث على خلاصاتِ خبيرٍ تربويٍّ، وأديب تاريخِيٍّ، أودعها أسْفارَه بأسلوبه الغني وصياغته الأدبية الرائقة؛ مما يصعب أن يعثروا على مثيل لها لدى غيره.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم