عندما أكمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- إلى قريش كتابًا يخبرهم بمسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، ثم أعطاه لامرأةٍ، وجعل لها أجرًا على أن تبلغه إلى قريش، فجعلته في ضفائر شعرها، ثم خرجت به إلى مكة، ولكن الله -تعالى- أطلع نبيه -صلى الله عليه وسلم- بما صنع حاطب، فقضى -صلى الله عليه وسلم- على هذه المحاولة، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة.
والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة، بل هو مِن أولي الفضل منهم، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفا، والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومع كل هذا زلت به القدم في لحظة من اللحظات، وكَمْ للنفس البشرية من زلات، وهذا من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني، ليعلم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسلًا ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ، وهذا الذي عناه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» رواه أحمد .
وقد عامل النبي ـصلى الله عليه وسلمـ حاطبا -رضي الله عنهـ معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل -صلى الله عليه وسلم- من ماضي حاطب سببًا في العفو عنه، وهو منهج تربوي حكيم.
فلم ينظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب -وإن كانت كبيرة-، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه، فوجد أنه قد شهد بدرًا، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم، في مجال الدعوة والخير، والعلم والتربية، والجهاد ونصرة دين الله.
قال ابن القيم : «من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرا ظاهرا، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعْفَى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث».
وإلى ذلك أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله لعمر -رضي الله عنه-: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» رواه البخاري.
إن إقالة العثرة، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة، ليس إقرارا لخطئه، ولا تهوينا من زلته، ولكنها -مع الإنكار عليه ومناصحته- إنقاذ له، بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله، وعطائه لدين الله.
.