أصبح الناس فرقًا وأشتاتًا، يعيش أغلبهم في ظل تجهيل إعلامي وسيطرة رسمية، راضين بالوضع الذي يعيشونه دون حراك فعلي نحو تغيير مرتقب، فظهر فريق من المسلمين يدعو إلى التخلي عن أي قيمة تاريخية أو اجتماعية أو دينية عربية أو إسلامية، مُرجعًا جميع أسباب التخلف في العالم العربي إلى تمسكه بدينه وقيمه ومبادئه، ومنبهرًا بالغرب وحضارته، وغير قادر على إيجاد حل لما تعانيه الأمة؛ فتعامى عن أسباب الفشل الحقيقية، إما استسهالًا للحل، وإما لهدف وغاية ذاتية بعيدة عن الموضوعية، وإما لنظرة جزئية قاصرة عن الحقيقة وكشف أغوار السبب الحقيقي المؤدي إلى تخلف الأمة، أو أثرة للسلامة والدعة وتسايرًا مع الخط الرسمي الذي ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبِلِه العذاب، والذي لبس ثوب الغرب والتطور إيهامًا للناس بالتحديث؛ فدعا إلى التزام خط الغرب والسير على سنته وانتهاج نهجه؛ فلا سبيل في نظر هؤلاء للخروج بالأمة من أزمتها إلا باتباع الغرب تبعية كلية من قبيل: «لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه».
ومن هذا المبدأ كان لزامًا على المؤسسات المعنية بشؤون التعليم في عالمنا العربي أن تراجع خططها من جديد؛ فليس صحيحًا ما نراه من ابتعاد كثير من هذه المؤسسات هجرها تعليم القيم الدينية والاعتقادية السليمة؛ والتي من شأنها المحافظة على الجيل من الانخراط خلف الشعارات الزائفة اللي يرفعها كثير من المنتسبين، للإسلام؛ والإسلام منها براء.
ولما رأى الدكتور طالب بن أحمد بن محمد المعمري، ذلك القصور الواضح في فهم مؤسسات التعليم في العالم العربي في الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، وابتعاد المناهج في عالمنا العربي كل البعد عن القيم الإسلامية والعربية، واعتمادها على أنظمة مستوردة من الخارج لا تتناسب وطبيعة الحياة الاجتماعية العربية أراد أن يقدم مقترحات ترشد إلى الوسطية المطلوبة في الموازنة بين متطلبات الدين والقيم الاجتماعية العربية، وبين متطلبات التحديث والتطوير.
موقف الإسلام من التحديث
نقطة الخلاف التي تجعل كثيرًا من الدارسين، ومؤسسات الحكم؟، والمؤسسات التربوية والاجتماعية في عالمنا العربي تدعوا إلى البعد عن الدين كمسير للحياة؛ النقطة الجوهرية التالية: الدين؛ أمع التحديث أم ضده؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب تجلية أمر مهم جدًا، وهو أن كثيرًا من الذين حكموا على الإسلام بأنه العقبة في تطور الأمة؛ ربطوا الدين الإسلامي بتعاليم الكنيسة التي كانت سائدة في القرون الوسطى، والتي كانت تقف حجر عثرة في وجه كل رأي يخرج عن نطاقها؛ لأنها كانت تتحكم في مصائر الناس حتى بعد موتهم؛ بمنحهم صكوك غفران لدخول الجنة في الدار الآخرة، هذا القياس غير المتعقل والذي انبنى على القياس لمجرد المشابهة والمشاكلة في أمر واحد وهو الدين، دون النظر إلى الأبعاد الأخرى التي تميز كل دين عن الآخر.
ومن هنا فإن نظرة الإسلام تختلف تمامًا عن نظرة الدين المسيحي الذي كان سائدًا في أوروبا إبان القرون الوسطى؛ فمن دراسة الخطاب الإسلامي دراسة موضوعية محايدة والوقوف على أبرز عناصره نجد الفرق يتضح في أمرين؛ الأول: دعوة الإسلام للعلم وحثه على البحث والتفكير والتأمل، والثاني: تشجيعه على الحرية الفكرية، وحرية الاستقلال والاجتهاد والمعارضة وإبداء الرأي.
فالإسلام حث على العلم، وأكد على طلبه، وجعله فريضة دينية توصل إلى مرضات الله والجنة، ولا يقتصر العلم في الإسلام على علوم الدين فحسب، بل يشمل جميع مناحي الحياة فيما ينفع الناس، ولما فهم المسلمون الأوائل ذلك المعنى طلبوا العلم من كل جهة، وأتوا به من كل حدب وصوب؛ حتى أبدعوا في مجالاته كلها، وما خلفوه من علم واكتشاف في تلك القرون الأولى؛ لشاهد على التغيير الذي أحدثه الإسلام في نفوسهم.
وعند تأمل الخطاب الإسلامي في هذا الشأن نجد أن الإسلام قام على الدعوة على العلم من أول كلمة تأسس عليها ذلك الخطاب؛ فأول ما أنزل على الرسول الكريم ﷺ: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1- 5)، وقد قدس الله أداة العلم؛ القلم فقال: {ن والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ} (نون: 1- 2)، ولا يقسم الله إلا بعظيم، كما مجد سبحانه العلماء ورفع من شأنهم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18)، والأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى، وتطبيق المسلمين لتلك الأدلة، وبراعتهم في شتى العلوم والفنون؛ دليل واضح على عناية الإسلام بالعلم، واعتباره ركيزة أساسية من ركائز بناء المجتمع المسلم.
وعند تمحيص الخطاب الإسلامي والوقوف على تلك النصوص المشجعة على صناعة الذات الإنسانية ومنحها استقلاليتها في الاختيار والتفكير؛ نجد أن الإسلام منح الإنسان حرية مطلقة في اختيار دينه ومنهج حياته في الدنيا بعد أن أوضح له السبيل وأنار له الطريق؛ وذلك تشجيعًا له على الإبداع وحثًا على التفكير؛ فلا يقبل الإسلام من الإنسان إلا التأمل والتفكير المفضي إلى القناعة التامة بما يعتقده، وقد أعلن الخطاب القرآني ذلك جليًا واضحًا لا لبس فيه؛ يقول سبحانه وتعالي: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ...} (البقرة: 256) في إشارة واضحة لمنح الإنسان حريته في التفكير والاختيار حتى في الدين الذي أنزله الله؛ فالله سبحانه قد بين طريق الخير والشر، وأعطى الإنسان إرادة الاختيار التي من دونها لا يملك الإنسان أن يحمل فكرًا أو دينًا بالشكل الذي يرضي الله، لأن الله أراد من الإنسان الإيمان الخالص القائم على الفهم والاقتناع، وعليه فإن المسلمين قد فهموا ذلك المعنى، فعاشوا في ظل الحضارة الإسلامية مذاهب شتى وعقائد مختلفة في أمن وأمان، بل التاريخ يشهد أن تلك الطوائف قد ساهمت مساهمة فاعلة في بناء الحضارة الإسلامية.
وفي سيرة الرسول الكريم ﷺ وسيرة صحبه الكرام- رضي الله عنهم- ما يدل على ذلك دلالة واضحة، نستعرض بعضًا من تلك الأدلة لإيضاح الفرق بين الخطاب الإسلامي الداعي لاحترام الفرد وفكره وقبول رأيه، وبقية الأديان المحرفة الأخرى والتي تحجر على الإنسان مجرد التفكير:
- عن نافع عن عبد الله قال: نادى فينا رسول الله ﷺ يوم انصرف من الأحزاب، ألا لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة قال: فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون لا نصلى إلا حيث أمرنا رسول الله ﷺ وإن فاتنا الوقت، قال: فما عَنَّفَ واحدًا من الفريقين».
- خطب عمر رضي الله فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله ﷺ، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
- عن تميم الداري قال: قال رسول الله ﷺ: «إنما الدين النصيحة، إنما الدين النصيحة، إنما الدين النصيحة، فقيل: لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المؤمنين وعامتهم» في نموذج عالٍ من إتاحة الفرصة للشعب أن يمارس حقه في النقد البناء، ويشارك في البناء.
- عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله ﷺ حين رمى الجمرة، قيل: يا رسول الله أي الجهاد أحب إلى الله، قال: كلمة حق تقال لإمام جائر»، وفي الحديث توجيه إلى مهمة الإنسان التي لا تقف عند حدود التفرج، بل التفاعل وإن كان ذلك بالتضحية بالنفس.
- قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما تولى الخلافة: «أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني» معلنًا مبدأ المعارضة الصادقة في المشاركة في البناء وتقويم الأخطاء.
- وقد عاتب الله رسوله في رجل أعمى من أمته لم يصغ إليه بسبب انشغاله بوظيفته السامية هداية الناس لدين الله؛ إعلانًا لمبدأ احترام الذات في المجتمع العربي الإسلامي: {عَبَسَ وتَولَّى (1) أَن جَاءَهُ الأَعْمَى} (عبس: 1- 2).
ومن تلك الأدلة ومن الممارسة الفعلية في المجتمع الإسلامي الأول ومن بروز المسلمين في شتى مناحي الحياة وتفوقهم في جميع عناصر العلم وفنونه يبرز لنا الفارق جليًا بين الإسلام وغيره من الأديان المحرفة في الغرب والتي كان لزامًا على الناس هجرها والخروج من هيمنتها التي كانت مانعًا لأي علم وفكر ومعرفة.
ولذلك فإن النظرة الفاحصة للدين الإسلامي وخطابه لا شك في أنها تستنتج أن الإسلام مع التحديث والتطور وبناء الأرض والسير فيها وفق شرع الله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وإلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15).
كما أن الإسلام جعل للفرد حريته في المعارضة والممانعة وإبداء الرأي والاجتهاد، والعمل على ما ينفع المسلمين من أمر الدنيا والآخرة؛ فأيد القرآن عمر في ثلاثة مواقف وخالف الرسول ﷺ؛ في حادثة أسرى بدر، وحجاب نساء الرسول ﷺ، والصلاة على المنافقين؛ إعلانًا لمبدأ الاختيار لما ينفع الأمة، وتثبيتًا لمبدأ الشورى في المجتمع الإسلامي، وقد أخذ النبي ﷺ بمشورة أصحابه في أمور كثيرة من أبرزها حفر الخندق في معركة الأحزاب، فالنظام الإسلامي نظام مرن، ما يميزه الحرية الفكرية واحترام الإنسان، وإنصاف المخالف.
ومن خلال استقراء الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ يقترح الباحث بأن تراعي المناهج الدراسية في العالم العربي العنصرين التاليين:
جاء الدين الإسلامي وسطًا بين الأديان والعقائد سواء السماوية المحرفة أم الدنيوية المبتدعة؛ فبين من يدعي وجود آلهة متعددة، ومن ينكر وجود الخالق؛ دعا الإسلام إلى عبادة خالق واحد لهذا الكون؛ تتوحد جميع الأمم تحت عبادته في تساوٍ تامٍ، وعدلٍ مطلق، لا فضل لأحد على أحد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
وجعل من أمة الإسلام أمة وسطًا بين كل المذاهب والطوائف؛ وخاصة في التوازن بين متطلبات الروح والجسد، ومتطلبات الدنيا والآخرة؛ فأتى الإسلام وسطًا بين من ترهبن؛ فترك الدنيا؛ وبين من أفرط في الأخذ بشهواتها وملذاتها؛ ولهذا ذم الرهبانية: {... ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ..} (الحديد: 27)، وحث على التوازن ببن متطلبات الدنيا والآخرة: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: 77)؛ ولذلك روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا»، ومن ذلك دعاء النبي ﷺ: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي»، وروى أن الليث بن سعد كان فقيهًا غنيًا متمتعًا بزينة الدنيا، فأرسل له الإمام مالك رسالة، يقول فيها: «سمعنا أنك تلبس الرقاق وتأكل الرقاق وتمشي في الأسواق» فرد قائلًا: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
وهذه الوسطية التي حث الإسلام عليها يجب أن تراعى في مناهج التعليم؛ حتى لا ينشأ عنها انحراف إلى طرفي النقيض، فما يتوجب أن تراعيه المناهج الحديثة؛ هو محاولة الربط بين عناصر التحديث والتكنولوجيا والتطور، وبين قيم الدين الحنيف وأخلاقه السامية، حتى لا نرى من يعادي الحداثة، ويقف منها موقف الخائف الضعيف، ولا نرى كذلك من ينجرف وراء الحداثة بكل ما فيها من قيم هتكت ستر الأخلاق والقيم الإنسانية، وامتطت مطية المادة المقيتة التي جففت منابع الأخلاق والرحمة، وزرعت قيم التنافس الجائر؛ مستهترة بكل قيم الإنسانية في سبيل السيطرة والتولي، فأصبح الإنسان أداة لملئ جيوب كبار المستثمرين دون رحمة ولا شفقة، وأداة لتنفيذ خطط الأقوياء، حتى نشب الصراع بين طوائف الإنسانية وما راح ضحيته سوى الأبرياء، فلا بد والحالة هذه من منهج يراعي القيم الإنسانية ويحث على التربية السليمة القائمة على التضحية، وحب الناس، والعمل على مصالحهم، والسير في خدمتهم؛ ليعود العالم إلى منبع الحب والفضيلة، ولن يتم ذلك في عصرنا هذا إلا عن طريق منهج محكم يقوم على الوسطية الإسلامية في التعامل مع القضايا المختلفة.
وكان رسول الله ﷺ وسطًا في التعامل مع الطوائف الأخرى من الأديان؛ فلما وصل المدينة لم يلزم اليهود الدخول في الإسلام، ولم يرفض التعامل معهم، بل شاركهم الحياة كلها واختلط معهم في أسواقهم، وزارهم في بيوتهم وأكل طعامهم، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي ﷺ، ولم يحاربهم إلا عندما أظهروا به الغدر، وهددوا كيان الأمة الإسلامية، وكان شفيقًا رحيمًا بكل البشر حتى من آذاه؛ ليعلم الأمة أن الرحمة والعطف في التعامل مع الناس مقدم على الشدة والقوة والجبروت، وكان شفيقًا حتى على غير المسلمين، فقد ورد في البخاري مما رواه أنس رضي الله عنه أن غلامًا يهوديا كان يخدم الرسول ﷺ، فلما مرض، عاده الرسول الكريم فقعد على رأسه، وقال له: « أسلِم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم»، فأسلم الغلام، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار»، ولم يمنع الإسلام الإحسان إلى غير المسلم فها هي زوجة الرسول ﷺ صفية- رضي الله عنها- لما ماتت أوصت لابن أختها بالثلث من مالها وقد كان يهوديًا، وقد ورثت مائة ألف درهم، وكان ﷺ يزور اليهود ويقبل دعوتهم ويأكل من طعامهم؛ فقد روى الإمام أحمد وابن سعد وابن أبي شيبة عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن يهوديًا دعا رسول الله ﷺ إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه»، وكان ﷺ يستدين من غير المسلم فيطالبه الدائن وهو رسول الله فينصفه ويصبر على أذاه؛ فعن علي بن أبى طالب أن يهوديًا كان له على رسول الله ﷺ دنانير، فتقاضى النبي ﷺ فقال له: ما عندي ما أعطيك، قال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني، قال: إذًا أجلس معك، فجلس معه فصلى النبي ﷺ الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة وكان أصحاب النبي ﷺ يتهددون اليهودي ويتوعدونه، فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك؟ قال منعني ربي أن أظلم معاهدًا ولا غيره، فلما ترجل النهار أسلم اليهودي، وقال: شطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة، محمد بن عبد الله مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا متزين بالفحشاء ولا قوال للخنا».
ولما دخل الرسول ﷺ مكة فاتحًا منتصرًا، وقد أسر خلقًا كثيرًا، وهم الذين عادوه وطردوه من بلده الحبيب إلى قلبه، وحاربوه حتى في مهجره؛ قال لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».
ومما تجدر الإشارة له أن مفهوم الوسطية ليس معناه تعليم الناشئة مبدأ الخضوع المطلق للآخر، بل معناه العمل على ترسيخ مبدأ الجماعة، والحفاظ على القيم، والانطلاق من الذات، وليس من المستورد القادم، مع الإفادة قدر الإمكان من هذا القادم في خدمة الخطط والسياسات التي ينبني عليها فكرنا في تصور الحياة.
يتوجب على واضعي المناهج في عالمنا العربي أن يراعوا عدة عناصر مهمة عند وضع المناهـج، والتي من خلالها نستطيع تحقيق التوازن المطلوب بين متطلباتنا العصرية، وبين ثوابتنا الدينية والقيمية والاجتماعية، ونحافظ على النشء من كثير من أمراض العصر وأفكاره الشاذة؛ مثل التحلل الخلقي، والشذوذ الجنسي، وعوامل الهلاك والتدمير مثل؛ التدخين والمخدرات، وعوامل الهدم وضرب الأمن والاستقرار؛ مثل التطرف والإرهاب؛ وتلك العناصر هي:
- قيام المنهج على مبدأ الإصلاح، والقضاء على المفاسد، وغرس قيم الفضيلة، والتركيز على الأخلاق، وحسن المعاملة، وطيب المعشر، وغرس قيم التضحية والإيثار.
- التشجيع على الحرية الفكرية، وإبداء الرأي، والتحفيز على النقد البناء، والتروي في إصدار الأحكام، والتشجيع على قبول الآخر والتحاور معه، والتركيز على سماحة الإسلام: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: 61).
- التشجيع على استغلال اللعب كوسيلة للتنمية واكتساب المعارف، وتقوية الجسد، وخلق جو المنافسة البناء، بجانب وظيفته الترفيهية.
- التركيز على جوانب التطبيق، والتدريب والعمل والتجريب، والتعليم عن طريق القدوة الحسنة.
- ربط المنهج بالحياة، بأخذ عناصره من البيئة التي يعيش بها المتعلم، مع مراعاة التقارب العالمي والتأثير الخارجي.
- الحث على الإبداع، والاختراع، والإتيان بالجديد؛ فيما يخدم الأمة في جميع مناحي الحياة.
- التوازن البناء بين متطلبات الجسد، ومتطلبات الروح؛ لتكوين شخصية متوازنة، وقادرة على التحكم في الذات، ومواجهة مشكلات الحياة.
- قيام المنهج على الدراسات والأطروحات الناتجة من دراسة المجتمع وتحديد متطلباته؛ ليتمكن من صنع جيل قادر على البناء والعطاء، والانتماء لأمته ووطنه.
- الإفادة قدر الإمكان من الطرق الحديثة، والوسائل المفيدة والمتطورة في مجال التعليم.
- التركيز على القضايا المعاصرة، وشرحها، وتوضيح أدلتها، وبيان موقف الشرع منها، ومشاركة المتعلمين بالنقاش البناء، وأخذ الرأي؛ للوصول معهم لحل يقضي على كثير من المشكلات التي تعاني منها المجتمعات؛ مثل المشكلات الأخلاقية: كالتحلل الأخلاقي، وتفشي الرذيلة، ووسائل التخدير، والمستجدات العلمية: مثل قضايا التهجين، والاستنساخ، والتبرع بالأعضاء، ومشكلات العنف والتطرف والإرهاب، والمشكلات الحضارية الناشئة من تقارب العالم وتواصله، وكيفية التعامل مع الآخر والإفادة منه، مع حفظ الشخصية والحفاظ على الذات.
.