خلق الله الحياة الدنيا وجعلها حلوة خضرة ليبلوا عباده بالخير والشر، وأمرهم بحسن عبادته وتحقيق الغاية في نفوسهم دون أن ينشغلوا بهموم الحياة والتي تكفل بها رب العالمين في نظير حسن التعبد لله والتقرب له: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق المتين» (الذاريات: 56-58)، ولم يترك الله عباده تتخاطفهم الدنيا بزخرفها فأنار لهم الطريق وأرشدهم عليه فقال: «وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» (الأنعام: 153)، وقال: «ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها»، فكيف كان استقبال العباد لهذا التكليف الرباني، منهم من آمن ومنهم من كفر، وكان الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين جنوده، يريد كل فريق أن يبسط نفوذه على مجريات الأمور، فكان البلاء والصراع والتدافع منذ خلق الله آدم حتى قيام الساعة.
وحينما ينظر الناظرون يجد أن أنصار الباطل كثر وأنصار الحق قلة، بل يروا أن الباطل في معظم وقته في علو، وإن كانت هذه الأمور من سنن الكون ليبلوا الله عباده المحسنين فيتمسكون بدينهم وبالحق الذي عليه قائمون ويعود جنود الباطل عن غيهم أو يمهلهم فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، سواء بعذاب في الدنيا أو بسوء خاتمة وعذاب أليم في الآخرة يشفى به صدور المظلومين في الدنيا.
ولهذا أيها الأحباب أشعر بما تشعرون به وأحس بنبض قلوبكم المكلومة، من جراء المحن والابتلاءات التي نزلت بنا، ومن اضطهاد وتكالب الجميع علينا، وإن كان هذا ليس بجديد على أصحاب الدعوات، فقد سبقكم بها النبيون والمصلحون وكل من حمل في قلبه ذرة إيمان، فاعتقال الطلبة والنساء والأطفال، واعتقال رجالٍ هم من خيرة رجالنا ومصادرة أموالهم وتحويلهم للمحاكمات العسكرية وقتل وإعدام آخرين -ناهيكم عن قوائم الأسماء المعدة للاعتقال- كل هذا يوجهه النظام لأصحاب الدعوات –وفى هذا التوقيت خاصة- ليشغلنا بالجزيئات عن الكليات، واستنزاف طاقاتنا فى ردود الأفعال حتى ننشغل عما يحاك للإسلام والمسلمين في كل وطن وفي كل شبر من هذه المعمورة.
لقد أعطت أمريكا الضوء الأخطر لإطلاق السهام من كل حدب وصوب على كل ما يمت للإسلام بصلة بعد أن تخلت عن المطالبة بتطبيق الديمقراطية في دول الشرق الأوسط لأنها وجدت أنها أتت بالإسلاميين؛ ففلسطين جاءت بحكومة حماس وفى مصر وفى الكويت والبحرين فاز التيار الإسلامي وفي غيرها من الدول، فأعطت الضوء الأخضر لحكام البلاد فى الشرق الأوسط عن التخلى عن الديمقراطية والعودة لسياسيتهم القديمة التعسفية للحد من زيادة نفوز التيار الإسلامى.
لكن أيها الأحباب هذا دأب أصحاب الدعوات الصادقة، فرسولكم -صلى الله عليه وسلم- حوصر فى شعب أبى طالب ثلاث سنوات، وصهيب الرومى فقد كل ماله مرضاة لله ونصرة لدين الله «ربح البيع أبا يحيى»، وتاريخ الأنبياء مليء بهذه الصور، وما قصة أصحاب الأخدود ومؤمن آل فرعون بخافية عليكم.
وهذه مواقف تعمل على تزكية قلوبنا، وتربية نفوسنا، حتى لا نظن بالله الظنونا فذكرنا الله بذلك: «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» {سورة الحديد}.
في مثل هذه الظروف أخى الحبيب وأختى الفاضلة... ابحث عن قلبك ونفسك وحالك مع ربك وتدبر كم بقي من عمرك وهل ما ادخرته عند ربك يكفيك لنيل رضوانه.
لا تظن أن الله يظلمك حينما يبتليك ولكن ليعلى درجتك في الدنيا والآخرة.. إنك تظن أن الدنيا تكالبت عليك والظلم بلغ منتهاه وأن الدنيا ضاقت عليك بما رحبت، فاحمد ربك أنه لم يُسكت لسانك عن ذكره.. وقدمك عن السعي للوقوف بين يديه في محراب الصلاة وقلبك ما زال راضيا بقدره.. فهي نعم تكاد تختفي من قلوب الساخطين على قدر الله.. وما على ذلك لابد لنا من الوحدة ومجابهة الظالمين بالوسائل التي شرعها الله فهذه فرصة لنزداد قربا من الله.. كما أنها فرصة لنتمسك بتعاليم ديننا الحنيف وقرآننا المجيد.. وفرصة لنربى أفرادنا تربية إسلامية شاملة صحيحة.. وفرصة أن نوجد فينا جيلا يحب دعوته ويرضى بقضاء ربه دون ذلة أو انكسار.
أيها الأحباب فليراجع كل منا نفسه، ولننصب أقدامنا لله خمس مرات في صلوات الجماعة لا يشغلنا عنها شىء مهما تكن الظروف، ولنحافظ على أورادنا من القرآن قراءة وحفظا وعملا، ولنحافظ على أعمالنا ولنوطد العلاقة بيننا بالتزاور والسؤال، ولنوطد العلاقة بيننا وبين مجتمعنا ونعرفه بما ينفع الوطن وما يضره، ولنجدد الثقة في منهجنا وطريقنا، ولنتميز في مجالاتنا الحياتية.
ولنتذكر دائمًا قول الإمام جعفر الصادق: «عجبت لمكروب كيف يغفل عن أربع:
- عجبت لمن أصابه غم كيف يغفل عن قول: «لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» [الأنبياء: 87]، فقد أتبعها الله بقوله: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» [الأنبياء: 88].
- عجبت لمن جمع له الناس كيف يغفل عن قول: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» [آل عمران: 173]، فقد أتبعها الله بقوله: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» [آل عمران: 174].
- عجبت لمن كاده الناس كيف يغفل عن قول: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ» [غافر: 44]، فقد أتبعها الله بقوله: «فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ» [غافر: 45].
- عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قول: «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» [الأنبياء: 83]، فقد أعقبها الله بقوله: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ» [الأنبياء: 84].
فلنلجأ إلى الله بالدعاء أن يفرج عنا وعن إخواننا الكرب.
أيها الأحباب. فلنتذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في أشد وقت الضيق يبشر بوعد الله بالنصر، ففي الهجرة عندما تبعه سراقة ولحق به، وغاص فرسه في الرمال، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ارجع يا سراقة ولك سواري كسرى».
وفي غزوة الأحزاب التي وصفها الله عز وجل بقوله: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا» [الأحزاب: 10، 11] ففرج عنهم الله الكرب، وهزم الأحزاب0 «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا» [الأحزاب: 25].
وقد قال الشهيد حسن البنا: «وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم فى سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف فى وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل فى طريقكم .... وستدخلون بذلك -ولا شك- فى دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2]. ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف].
ولنذَّكر أتباع السلطة ومن سار على منهجهم في ظلم العباد بقوله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (167) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة].
ويقول الشاعر أحمد مطر:
قطفوا الزهرة..
قالت: من ورائي برعم سوف يثور.
قطعوا البرعم..
قالت: غيره ينبض في رحم الجذور.
قلعوا الجذر من التربة..
قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور.
كامن ثأري بأعماق الثرى
وغداً سوف يرى كل الورى
كيف تأتي صرخة الميلاد
من صمت القبور.
تبرد الشمس.. ولا تبرد ثارات الزهور!
هل من سبيل؟
أيها الأحباب: مهما طالت ظلمة الليل فلابد أن يأتي الفجر، ومهما علا الظلم فلن يطول علوه وسيأتي اليوم عاجلا أم آجلا أن يعلو الحق وأهله لأن الله تعهد بذلك، قال تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» (الأنبياء: 105) وقال تعالى: «وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»، فلا تحزنوا ولا تجزعوا ولا يتملك أحد منكم اليأسُ والإحباط والقنوط، فوعد الله نافذ ومهمتنا هي الأخذ بالأسباب والعمل وترك النتائج على الله رب العالمين.
ولهذا:
- تمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم لن تضلوا بعدهما أبدا
- وحدوا صفوفكم ولا تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم
- وثقوا عرى الأخوة والتكافل والترابط فيما بينكم تزدد الرابطة بينكم ويعرف كل واحد حق أخيه عليه.
- لا تحزنوا لعلوا الباطل فهى سنة كونية ربانية ليختبر صبر المؤمنين ولكن علينا التدافع ونصرة الحق حتى ننال رضا ربنا.
- استبشروا خيرا فإن الأمور تجري بمقادير يعلمها الله وقد وعد بنصر المؤمنين والمظلومين ولو بعد حين.
- كونوا على يقين وحسن ظن بربكم يهرب الشيطان من بينكم وتيقنوا أن فرج الله آت فكونوا أهلا له.
- انصروا الله في أنفسكم أولا وفي بيوتكم وأولادكم ومن حولكم يرسل الله عليكم خيره.
- عرفوا الناس بما يُحاك للإسلام وعرفوهم أن ما يحدث ليس المقصود به طائفة من الناس فقط بل الحرب على كل مسلم يقول لا إله إلا الله.
- انبذوا الخلاف وليحترم الكبير الصغير والصغير الكبير وأصلحوا ذات بينكم ولا تلهكم الدنيا عما خلقتم من أجله.
.