يعد دور الأسرة من أهم الأدوار في التنشئة الاجتماعية والتربوية للفرد فمنها يستمد أصول قيمه وعاداته وثقافته وهويته، ونظرا لهذا الدور فقد تم تناول الأسرة من قبل مختلف الهيئات والمؤسسات والأطر لمحاولة التأثير فيها كل طبقا لأهدافه.
وفى دراسة للباحث التربوى د. رشاد عمر الدسوقى، بعنوان: (الأسرة المسلمة بين الاتفاقات الدولية والمقاصد العليا للشريعة) 2009، يتناول محاولات استهداف الأسرة ودورها التربوي من قبل المنظمات والهيئات التي تعمل على نطاق أممي وذلك طبقا لمفاهيم الحضارة الغربية بآلياتها العلمانية المعادية للدين.
والأمة التى تفقد تمايزها بدينها عقيدة وشريعة، أخلاقًا وسلوكًا، فكرًا ومنهاجًا تفقد عناصر مكوناتها الحضارية. ولا تستطيع أن تكون أهلًا للشهادة على الأمم الأخرى التى أراد الله أن يشهدها عليها كما جاء فى قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (البقرة: 143). والأمل فى إنقاذ الأمة من الهلاك هو عودتها إلى تعديل مسارها وتفعيل مقاصد الشريعة على جميع مستوياتها، لتتماشى مقاصد المكلفين فيها أفرادًا وجماعات مع مقاصد الشريعة العليا.
أضرار الحركة النسوية العلمانية على الأسرة:
1- إقحام مفاهيم غير شرعية باسم حقوق الإنسان
الأسرة هى النواة الصلبة، والقلب النابض، والمحور الذي ترتكز عليه بقية المحاور، والحصن الصامد للأمة الإسلامية والقيم الإنسانية. واستهدافها هو جزء من الموجات العاتية، لفرض المبادئ النسوية عليها باسم (المساواة بين المرأة والرجل) وباسم (حرية المرأة وتحررها) من الأغلال وذلك بدءا بإعادة صياغة وترويج المفاهيم المنافية للشريعة التى نتج عنها تحجيم النموذج الأسري الإسلامي المتميز في دول العالم جميعها. فالزواج بأركانه المعتبرة وصورته الشرعية الوحيده التى عرفها المسلمون هى بين المرأة والرجل من أجل إقامة الأسرة المسلمة ومحورها عبادة الله تعالى لتحقيق مهمة الاستخلاف فى الأرض وإقامة الدين والمحافظة على عقيدة وأخلاق الذرية المسلمة، ومن المفاهيم التي تم إقحامها:
1) حق الشذوذ الجنسي:
تحول مؤتمر بكين 1995، إلى مؤتمر للشذوذ من قبل محركي منظمة بيللا أبزوج، وقد أيد بنود الشذوذ مسيرة جابت أرجاء ساحة المؤتمر وعدد أعضائها 7000 عضوة سحاقية أو مؤيدة لحق السحاق. وغنى عن القول بيان الحكم الفقهى فى السحاق وهو الزنا بين النساء، وهو حرام بإجماع الفقهاء، فقد روي عن الرسول الكريم قوله: «السحاق زنى النساء بينهن»، وقوله: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد». أما الشذوذ فقد حدد عقوبته فقهاء الأمة، من المالكية والشافعية بالأدلة الشرعية وهو يتراوح بين قتل الفاعل والمفعول به أو توقيع العقوبة التعزيرية. والشاذ المحصن يقتل عند الشافعية وغير المحصن يجلد وعقوبته هنا كحد الزنا، فاللواط كالزنا، ويقتل المحصن وغير المحصن عند المالكية. أما عن إشاعة الفاحشة، وخلق الفوضى الأخلاقية، والعمل على محاربة الفضيلة، ونشر الجريمة، وخلخلة الأمن، ومحاربة القيم، وانهيار المجتمع، والإفساد فى الأرض، فالحد حد الحرابة.
إن تغيير وتبديل مرجعيات الأمة بالمنظومات النسوية الإباحية هو صدمة حضارية تصيب مفاهيم الأمة وتصدر لها مرض الميوعة الذي ينسيها خصوصيتها وثقافتها الإسلامية ويحدث لها الارتباك الفكرى والخلط القيمى، ويسرب لها التخبط فى التعابير والمصطلحات التى تصطدم بالدين الإسلامي بكل ما يحتويه.
ومعلوم حين تصطدم حضارتان أو ثقافتان فإن الأقوى تطرد الأضعف وتحجمها ثم يتبع ذلك فقدان الثقة بها من قبل أهلها وتتوقف عن التعامل مع الواقع. وهذا يعنى أنه بالقوة القسرية يجبر المسلم على هجر تعاليم الإسلام. إن الدين، للإنسان المسلم، هو منهج حياة، ولأن الحركة النسوية لا دين لها فهى ترى الإباحية نوعا من التحرر الفكري الذي لا علاقة له بالدين. وفى النهاية إن فرض تغليب المنظومة العلمانية على المسلمين هو صد عن مقاصد الشريعة فى حفظ الدين عقيدة وأخلاقا وسلوكا.
2) حق الثقافة الجنسية فى المدارس:
ويستمر استهداف الأسرة المسلمة باستهداف الأطفال والشباب فى المدارس باسم استقلالية الأطفال ومنحهم الحرية فى الممارسات وانتشار الثقافة الجنسية. وقد طبق ذلك فعلا فى الولايات المتحدة وقام بعض الآباء والأمهات من المسلمين بتقديم طلبات إعفاء أولادهم من مقرر وحدة الأسرة فى المدارس العامة لمخالفته تعاليم دينهم، فهذا المقرر يتعامل مع مفهوم الشذوذ على أنه أمر طبيعى. كما اعترضت منظمات الأسرة الأمريكية على ذلك.
وقضية ترويج الشذوذ فى المدارس هى غيض من فيض مما تهدف إليه الثقافة الجنسية التى تدفع بالإباحية والانحراف وممارسة العلاقات الحميمية خارج نطاق الأسرة الشرعية التى يحلم بتكوينها مستقبلا الشاب المسلم. هذا السلوك عرفه المسلمون من خلال شريعتهم الغراء، باسم جريمة الزنا. والزنا يزهد الشباب فى الزواج الشرعي ويجعله يستعيض عنه بالفواحش والمعاصي والرذيلة التى تمرُّ بلا عقوبة شرعية.
وهذا الاستهداف يؤدي إلى تفريغ المجتمع من بنيته التحتية المتمثلة فى شباب الأمة الحاملة لمهمة الرسالة الاستخلافية وإعمار الكون بمبادئ وأخلاق الإسلام. فلا مستقبل لإسلام رغب الشباب فيه عن الزواج الشرعي الذي يجسد الطاعة لله واستعاض عنه بالزنا الذي يغضب الله. وهكذا نرى أننا بصدد منظومة ثقافية وافدة تحمل جراثيم الانحلال والإباحية وتشكل أمراضا إجتماعية تفتك بكيان المجتمع. إن تغليب هذه الثقافة هو إيذان بإنهاء الثقافة الإسلامية التى إذا فقدها المرء ماتت ثقافته الدينية. وما نشر ثقافة الشذوذ الجنسي والصحة الإنجابية بين الأطفال والشباب إلا صد عن مقصد الشريعة فى حفظ العقل المناط بالتكليف. فتغييب إرادة العقل المكلف بنبذ الشرع يعطله عن فهم الدين وتنزيله على الواقع لحماية الإنسان من ارتكاب الآثام. ناهيك عن تخدير العقل واحتوائه وغسل أدمغة العامة والشباب بالزخم الإعلامى المستمر والمسخر لخدمة تلك المفاهيم الوافدة.
3) تقوية حقوق الأبناء برفع سلطة الآباء عنهم:
وهذه الأجندة ما هى إلا استكمال لأجندة أخرى صدرت فى مؤتمر (حقوق الطفل) الذي أعلنت وثيقته فى نوفمبر 1989م تحت شعار محاربة القسوة والتمييز ضد الأطفال ونتج عنه إعطاء الطفل سلطة مستقلة عن الآباء. واستمر هدف تقوية الأبناء على الآباء فى ميثاق المرأة فى بكين حيث نصت الوثيقة على تحجيم دور الآباء وتهميشهم. وفوق ذلك أعلنت منظمة اليونيسيف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) أن (كل الأطفال أطفالنا) وأعطت نفسها حق سن القوانين الدولية لإثبات هذه المقولة كما أن الحكومات التى وافقت على الوثيقة أعطي لها الحق فى حضانة أي طفل إن شاءت. وقد كررت وثيقة بكين (1995) حقوق الآباء اثنتان وعشرين مرة تناقصت إلى ثمان مرات عند نهاية المفاوضات على الوثيقة. لقد حجم دور الأب فصار إرشاديا فقط وألغيت سلطته التربوية.
ولقد تم فعلا تنفيذ جميع ما ورد عن الصحة الإنجابية لتدمير الشباب المسلم؛ فقد وضع مكتب صندوق الأمم المتحدة للسكان مفهوم الصحة الإنجابية موضع التنفيذ وفقا لبرنامج عمل مؤتمر السكان والتنمية كجزء من سياسات الصحة العامة في البلاد المسلمة بمساعدة صندوق وزارات الصحة والسكان تحت مسمى التوازن بين الجنسين وتتضمن مفهومي الحقوق الإنجابية والصحة الإنجابية وتأمين وصول خدمات الصحة الإنجابية المتيسرة والمأمونة لجميع فئات السكان وخاصة الشباب (اليافعين)، وقد نجح المكتب في تأمين 3.0 ملايين دولار فى إحدى الدول بما في ذلك 2.4 مليون دولار أسهمت بها حكومتها في الصندوق الاستئماني. وتستمر الجهود لتأمين أموال إضافية تلزم من أجل مشاريع مكونات قيد الإنجاز تستهدف اليافعين والممارسات التقليدية الضارة.
وفى الأعوام المنصرمة، رصدت الأمم المتحدة ثمانية مليار دولار لإباحة الممارسات الجنسية الفوضوية. وقد سخرت جميع وسائل الإعلام من أجل الترويج لتلك السياسة وسبل تنفيذها، وبالثقل الإعلامي الناتج عن تكريس تلك الوسائل اكتملت استراتيجيات القضاء نهائيا على مجرد تخيل الرغبة فى تكوين أو محاولة تكوين أسرة شرعية.
2- استهداف العلاقات الأسرية:
1) فرض الإباحية على أفراد الأسرة
وقد وصل مروجو الصحة الإنجابية والعلاقات الإباحية فعلا إلى الكيان الأسري واستهدف علاقة المرأة بزوجها وأطفالها. فالمرأة بالذات فرد أساس وركن داعم للبنية الأساسية للأسرة. وكان الهدف هو تخليها عن مهامها الأسرية واستهداف أولادها فى برامج الصحة الإنجابية والبرامج الإباحية، وفوق ذلك مطالبة الوالدين بالتغاضي عن النشاط الجنسي للمراهقين، عن غير طريق الزواج، واعتبار ذلك من الشؤون الشخصية، أو من الحرية الشخصية، التي لا يحق لأحد أن يتدخل فيها. ومع الأخذ فى الاعتبار أن المرأة فى الإسلام قد منحها الله عز وجل جميع الحقوق التى تصبو إليها نساء العالم الآن بما فيها حق التمثيل السياسى وتقلد الوظائف الملائمة لطبيعتها لخدمة المجتمع والنهوض به إلا أن استهداف أنوثتها وأمومتها ووظيفتها كزوجة حانية وكأم مربية سيؤدي إلى الاضطراب فى هيكل الأسرة المسلمة المعاصرة كوحدة أساسية ونواة للمجتمع.
2) استهداف الأمومة وإجارة الأرحام:
ثم نادت الوثائق بحق آخر باسم (حرية التحكم فى الجسد) بإجارة رحم المرأة، فقد وردت صراحة فى بنود بكين +5 (بند 79) وأباحت الوثيقة جميع أشكاله. فالمعترف به شرعا أن كل صور تبادل الإخصاب غير شرعية ما عدا ما هو بين الزوج والزوجة الشرعيين. ولا يجوز تبرع الزوج لإخصاب أى امرأة غير زوجته الشرعية ولو كانت عاقرًا. والجائز علاجها أو إخصابها صناعيًّا عن طريق زوجها (IVF). ما ورد فى الوثائق هو إباحة التلقيح الخارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل (متبرع)، وبويضة من امرأة ليست زوجتة (متبرعة)، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة متزوجة (وهي غير المتبرعة بالبويضة). وهذا حرام شرعًا.
وقد فتحت الوثيقة الباب على مصراعيه لعقود إجارة الأرحام وهو عقد تتعهد بمقتضاه امرأة بشغل رحمها، بأجر أو بدون أجر، بحمل ناشئ عن نطفة أمشاج مخصبة صناعيا لزوجين استحال عليهما الإنجاب لفساد رحم الزوجة. ولصاحبة الرحم أسماء متعددة: (الأم الحاضنة)، (الأم البديلة)، (أم بالوكالة)، (ذات الرحم المستعار) أو (البطن المؤجر) أو(الرحم المؤجر)، (والبيع حسب الحالة المستقبلة من أجل أجنة بالوكالة) . و(تأجير الأرحام) هو الاسم الأكثر انتشارا في أوروبا وأمريكا. وقد يتشابه عقد إجارة الأرحام في بعض خصائصه مع بعض العقود كعقد الإيجار والبيع، والعمل، والوديعة، والعارية، والزواج، والرضاع، والتنازل، غير أن عقد إجارة الرحم مناف للشرع شكلًا وموضوعًا. وقد أصبحت عمليات الأرحام المستأجرة في أوربا وأمريكا منظمة في شكل شركات ووكالات لتأجير الأرحام كجمعية (الأمهات البديلات)، ويتوافد عليها عدد كبير من الأزواج القادرين على دفع آلاف الدولارات للنساء الراغبات في استضافة أجنة لهم في أرحامهن بسبب الفقر. وهذا نذير بما تحمله الوثائق الموقعة من برامج متكاملة ومترابطة طبقت فى البلاد التى التزمت بالتوقيع على تلك الوثائق وغرر بها لعدم وضوح المصطلحات. والغزو الوثائقي يكمل زحفه على مجتمعاتنا الإسلامية.
لمواجهة لهذه الأفكار يجب:
- التصدى الفكرى لانهيار القيم الأخلاقية.
- نشر الأبحاث والمقالات فى الصحف عن تغير القيم فى مجتمعنا.
- التصدى للخطاب السلبي عن قيم الأمومة والأسرة.
- عمل برامج كاملة لتدريب الأمهات والآباء وتقوية ثقافاتهم عن مسؤولية التربية.
- دعم ورش عمل تدربهم على حل المشاكل بين الأب والأم وبين الآباء والأبناء.
- حل أسباب الخلافات الزوجية وخلق الجو الأسري الملائم لاحتضان الأطفال دون ضغوط نفسية تنعكس عليهم.
- حماية جو الأسرة حتى لا ينفر الأطفال من محيط الأسرة.
- عمل جدول لأفراد الأسرة تمكنها من قضاء وقت أكبر تقوى فيه العلاقات الأسرية.
- تنظيم ورش عمل تدرب الآباء والأمهات على علاج مشاكل الطفل والتدريب على كسب ثقته ومصاحبته.
- إذا كانت المرأة مضطرة للعمل فلابد من توعيتها بعدم ترك الأطفال إلا مع الجدات أو من هم أقرب للأم أو الأب لضمان حسن الرعاية.
3- تفعيل آليات إفقاد الأسرة وظائفها الأساسية:
1) الطعن فى القوامة:
لقد عملت المواثيق على إفقاد الأسرة وظائفها الأساسية. ويتضح ذلك بتحليل العوامل التى أثرت على العلاقات الأسرية بين الزوج والزوجة أي التى أثرت فى كيان الأسرة الداخلي. وهي تبدأ بالطعن فى المعنى الشرعي للقوامة. فقد روجت الحركة النسوية بالإعلام المكثف والأدبيات المنتشرة غربًا وشرقًا تشويه معنى القوامة وطمست صحة مبادئها واستغلت سوء فهم معظم الرجال لمعنى القوامة الحقيقى، واستدلت على ذلك بسوء المعاملة داخل الأسر فأثرت على النساء وصدرت لهن فهمًا سقيمًا عن الحرية والاستقلال وحثتهن على رفض ذلك المفهوم وخلطت الأمر بالشرع وليس بسوء فهمه أو تطبيقه، ومن ثم حثت العامة من النساء على رفض المبادئ الدينية بعد نشرها بشكل مغلوط وادعاء أن الله يفضل الرجال على النساء.
غير أن الشريعة كلها عدل وكلها رحمة. ومقاصدها فى الزواج هى تكوين وحدة تسودها المودة والرحمة، يتعامل فيها الأب والأم على أنهما من نفس واحدة، يحترم كل منهما الآخر، ليحققا المقصد الأول وهو حفظ الدين ثم النسل أو الذرية وتعليمها ذلك الدين. كما أن من مقاصدها فى الزواج الحفاظ على العرض. فالإعفاف والإحصان وتبعل كلا الزوجين للحفاظ على علاقتهما الحميمية من خلال الشرع هو وظيفة لتسهيل الاستمتاع المشروع، وهو مسؤولية لحماية الفضيلة وليس رفاهية أو واجبًا يستهان به فى أجواء تنازع فيه القوى الخارجية الزوج والزوجة وظيفتهما الأسرية بمعناها الشمولى. وحتى المحافظة على الفضيلة فى الكيان الأسرى كانت مستهدفة فى وثيقة بكين. فحق الفراش، الذي هو حق ناتج عن علاقات طبيعية بين الزوج والزوجة، سمته الوثيقة (اغتصاب الزوج)، بمعنى أن طلب الإعفاف من قبل الزوج الشرعي، المستقيم، حاربته الوثيقة واستبدلته بممارسة الحريات الجنسية من خلال مفاهيم الصحة الإنجابية والإجهاض واستئجار الأرحام.
2) إدماج الزوجة الأم فى التنمية بهدف الإضرار بواجبات الأمومة:
وبعد تقوية الأبناء على الآباء حثت الوثيقة بثقل شديد على التمكين للمرأة فى القوى العاملة كى تزيد من الدخل القومى. وهو ما أسمته The Empowerment of Women وهو مفهوم فى ظاهره يعنى دعم مشاركة النساء فى الحياة الاقتصادية والسياسية. واعتمدت سياسة التمكين الاستخدام الكثيف للسلطة فى بلاد المسلمين وارتبطت مساحة المكون القمعي فيه بمقدار التخلف ودرجة المقاومة للتغييرات التى تسعى إليها الدولة المعينة. إلا أن سياسات التمكين لم تتوقف عند حد الأدوات الدستورية والقانونية بل تضافرت مع مختلف القوى الإعلامية والسياسية الأخرى.
وحين استجابت المرأة لهذا النداء كان ذلك له أسوأ الأثر على أسرتها. والضغط كان شديدا على عامة النساء للخروج إلى العمل، لضرورة أو لغير ضرورة، فى وسط هذا الخضم الهائل من التشويش الإعلامي الذي حثهن على التكسب ومنافسة الرجال فى قوامتهم أو الاستقلال عنهم، أوالوصول إلى مركز مرموق فى المجتمع يرفع من شأنهن ويسد فراغهن المادي والعاطفي والثقافي. وبهذا تحولت المرأة إلى آلة منتجة تعمل خارج البيت ثم تعود منهكة لتعمل داخله بتقصير لا إرادي. فلننظر على سبيل المثال إلى المرأة فى مصر حيث تعمل أكثر من اثنين وعشرين مليون امرأة، تمثل 49% من التعداد السكاني، كما تمثل أكثر من اثنتين وعشرين بالمئة من نسبة العمالة. ولقد زادت هذه النسبة من 1999م إلى 2005م بحوالي مليون.
إن المرأة الآن بعملها خارج بيتها لم تحل أزمة الاقتصاد المصري (لقد ارتفعت الأسعار 30% مؤخرا مما زاد من الأزمة) بل حلت محل الرجل فى وظائف عديدة ومن ثم أدت إلى تخليه عن وظيفته الشرعية وهى مهمة القوامة والإعالة كما أرادها الشرع. وتظل نسبة البطالة 10% فى هذا البلد.
هذا إلى جانب حرب المرأة الرجل فى سوق العمالة والتزاحم والتنافس. ورغم كل ذلك لم ترق كفاءة الرجل أو المرأة فى سوق العمل. كما أنها لم تنجح فى الاقتراب من الهدف المعلن لها وهو تكافؤ الفرص. واستجابة لأجندة بكين، واستجابة لسياسة التمكين للمرأة، تفخر النساء المصريات بالعدد الكبير الذي يتقلد المناصب السياسية، ولم يسأل أحد (من يرعى أزواج وأولاد اثنين وعشرين مليون امرأة فى سوق العمل؟) فليس المقصد الأعلى للشرع فى بناء الأسر توفير المادة للمحافظة على الأجساد فقط أو تقلد المناصب المرموقة للتفاخر بالمستوى الاجتماعي أمام الناس. إن التنشئة والرعاية مهمة الأم أساسًا بمساعدة الأب ولم تكن ولن تكون أبدًا مهمة المجتمع أو المدرسة أو الخادمات أو البيئة المحيطة المليئة بالموبقات والتي تنشر الفوضى القيمية والتربوية والصحة الإنجابية والإباحية والشذوذ واستئجار الأرحام.
3) تغييب دور الأب:
نتج عن غياب الرجل القوام، الاضطراب فى العلاقات والقيم سواء بسبب إفساح الزوج المجال للزوجة لتحمل عبء الإنفاق (حوالى75% من الأسر المصرية تقوم على دخل المرأة)، أو لفقدانه الشعور برجولته الحقة، أو لعدم وعيه بمهمته كراع مسؤول عن رعيته ليقي نفسه وأهله نارًا بتعليمهم الصلاح والاستقامة، أو بسبب اللامبالاة نتيجة تراكم المصائب على الأسرة ففقدت إتجاهها الربانىي وأصابها التخبط. وكل هذا يدلنا على انفصام عرى العلاقة بين الزوج والزوجة، الأب والأم، والتى تحولت إلى علاقة غير طبيعية انقلبت فيها الموازين وأصابها التوتر بسبب الجفاء والبعد والغياب عن الحصن الأسرىي التراحمي، منبع السكن والقرار.
لقد حققت وثيقة بكين القضاء على معنى وقيمة القوامة بنشر مفاهيم المساواة بالطريقة التي تواكب المنظومة المعرفية العلمانية والتي كانت نتاج حرمان المرأة فى الغرب العلماني من حقوقها التى لم تحصل عليها إلا في القرن الماضى. واستطاع الإعلام المؤيد لهذه المنظومة والمروج لها أن يحدث انقلابا فى الأسر المسلمة بتخلى الأب عن قوامته ورعايته أسرته وحمايتها من الناحية القيمية بغيابه عن بيته هربًا من تلك المسؤولية الثقيلة والسعي للكسب خارج البلاد وترك الأسرة بحجة جلب المال، وفى ذات الوقت تخلت المرأة عن أمومتها ورعايتها ودورها التربوي. ونتج عن هذا انتشار التفكك الأسري وارتفاع معدلات الطلاق فى المجتمع المصري والتى بلغت ستًا وخمسين ألف حالة (2007).
4- نتائج إفقاد الأسرة وظائفها:
1) ارتفاع معدلات الجريمة
كما ارتفعت معدلات الجريمة فى الشارع المصري نتيجة غياب الدور التربوي للأسرة. فطاعة الله عز وجل وممارسة الدين كمنهج حياة فى البيئة الأسرية الداخلية كمقدمة للطاعة والغائية فى المجتمع الخارجى، والتنشئة الأسرية على قيم وأخلاق الإسلام والاستقامة والفضيلة هى صمام الأمان للمجتمع. وتغييب دور الأسرة وتفككها نتيجة قضايا رفع التمييز والتمكين للمرأة أدى إلى انهيار أخلاق الشارع المصرى فى المعاملات حيث فقد الشباب النشأة الإسلامية التى تنجيهم من الانحراف وارتكاب الجرائم التى صارت تهدد المجتمع وأمن البلاد فقد ورد عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية دراسة أجرتها الدكتورة فادية أبو شهبة أستاذ القانون الجنائي أوضحت خطورة ظاهرة الاغتصاب الجنسي وهتك العرض والتي بلغت أكثر من ثلاثين ألف حالة اغتصاب سنويًا بمعدل جريمة اغتصاب كل ثلاثين دقيقة.
كما كشفت التقارير أن 90% من مرتكبي هذه الجرائم من العاطلين مما يؤكد أن البطالة الناتجة عن إحلال المرأة محل الرجل فى سوق العمل أدى فى النهاية إلى ارتفاع معدلات الجريمة. أما عن المخدرات فهناك ستة ملايين مدمن للمخدرات يشكلون 8% من الشعب المصرى. وطبقًا للإحصائية التى وثقتها وزارة العدل، تداولت المحاكم المصرية مليونا و896 ألفًا و594 قضية خلال عام 2004 بزيادة قدرها مليون و326 ألف قضية عن تلك التي نظرتها قبل أقل من عشر سنوات.
2) فرض الوصاية الدولية على الأسرة
أضف إلى هذه المشكلات المتلاحقة والمتشابكة أن المواثيق الدولية قد أعطت نفسها حق إقحام نفسها كطرف أساسى فى العلاقات الأسرية، وهيمنت على تلك العلاقات بفرض وصايتها عليها لتفقدها وظيفتها باستهداف أعضائها فردا فردا. (والأسرة (هى) الأساس الأول أو الوحدة الأولى في البناء الإنساني، والمركز الرئيس للتدريب على العلاقات الاجتماعية وتوريث القيم، والنقل الثقافي. فهى النواة، وهي محضن النمو والتنمية والتنشئة والتربية، فمنها ينمو العدد ويمتد، وفيها تنمّى الخصائص الفردية والاجتماعية، وتحدد قسمات الشخصية الإنسانية، وتزرع البذور الأولى لمستقبل الحياة السلوكية). لقد بدلت الوثائق مفهوم المجتمع للأسرة بكل ما يحمل ذلك من مفردات تلك الثقافة الشاملة التى هى جزء لا يتجزأ من المرجعية الشرعية للأمة.
3) غياب الصورة الطبيعية لهيكل الأسرة ووظائفها
وبتبديل ثقافة الأمومة بثقافة (الحرية) يغيب عن الأسرة التى وقعت ضحية للمواثيق النسوية تمحورها حول الله عز وجل والعمل لابتغاء مرضاته. كما يغيب عنها أسوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاملاته التى تتميز بالمودة والرفق والرحمة مع الزوجة والأطفال والأحفاد. فغياب الغائية فى الأفعال هو غياب أو تغييب لمقصد المكلف من العبادة. فالأسرة المسلمة وحدة متلاحمة يزداد أفرادها تفاعلا لقربهم واتحاد هدفهم. وركون كل من الزوج والزوجة للآخر يخلق علاقة تكاملية، يتبادل فيها الرفيقان الحنان والرغبة فى العطاء والرعاية. وهى مزيج من القوة والاحتياج، القوة فى العطاء والاحتياج للعطف الداعم لهذا العطاء. وفى النهاية، الكل يعمل من منطلق مرضاة الله ومن أجل ذلك.
ونستنتج من كل ما سبق أن الحركة النسوية قد أحدثت من خلال الوثائق والإعلام المصاحب لها تشويشا على معنى الأمومة لإنهاء تلك الوظيفة. وبهذا حققت الحركة النسوية، التى صاغت الوثائق، هدفها بإخراج المرأة من حصن الزوجية إلى الشارع. لهذا زهدت معظم الأمهات فى تلك الوظيفة التى فطر الله عليها أمهات العالم. فباسم (الحرية) تساوت المرأة مع الرجل وأعطيت حق السحاق! وباسم (الحرية دعوها لاستئجار رحمها ضد فطرتها التى كانت عليها. وكان الله تعالى قد أعطاها ذلك الحق الفطرى وتلك الهدية لرحمته بها؛ تحمل كرها، وتضع كرها، وتستمتع بحملها وهنًا على وهنٍ وتحتسب ذلك عند الله وترضع حولين كاملين إن أرادت إتمام الرضاعة باختيارها ليتكامل معنى الأمومة كما أرادها الله عز وجل. ثم تقوم بدورها فى التربية استكمالا لمهمتها الاستخلافية فى الأرض. ولهذا حث الله عز وجل أبناءها على الإحسان إليها ويلحق بهذا رفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها ثلاث درجات فوق الأب لتحملها مشقات الأمومة.
4) تغييب الأمومة الحقة:
وحين خرجت الزوجة الأم لسوق العمل تكبدت الجهد والمشقة ونفقات أخرى بددت ما أتت به من دخل لنفسها أولأسرتها لتسد فراغ غيابها كنفقات الخادم والحضانة. كما تكبدت نفقات على مظهرها فى العمل بالملبس اللائق، ومصاريف التنقل اليومية فى المواصلات العامة، التى إلى جانب تكلفتها تجبرها على مخالطة الرجال فى أوضاع الزحام والتحشر مما ينافى ضوابط الاحتشام والعفة، وإذا تفادت ذلك الوضع بالمواصلات الخاصة ارتفعت نفقاتها على وظيفتها التى كان من المفروض أن تساعد على التنمية فى المجتمع. وحين تخلت الزوجة الأم عن وظيفة الأمومة نسيت التنشئة والتربية بمفرداتها وتفاصيلها وسبلها من الصبر والمثابرة والتؤدة لإكمال المهمة الربانية.
وتلك المهمة تستغرق وقتا طويلا منذ اللحظة الأولى حين ترزق بالذرية فتزرع نواة القرآن فى قلوب الأبناء وتحفظهم إياه وتعلمهم تدبره، وبحنانها وعطفها تحتويهم وتؤصل فيهم ما يشرح صدورهم ويهديهم، وترويهم من نبعه العذب، ليذوقوا حلاوته، فتراهم كالزهور اليانعة، النورانية، المتفتحة بربيعه وتستمتع بثمارحبهم له والعمل به. كما تعلمهم حب نبيهم واتباع منهاجه وتطبيق القيم الأخلاقية الإسلامية الرفيعة والراقية فى المعاملات اليومية وتجهزهم للتعامل الملائم مع المجتمع الخارجى. وهى الأم الواعية بتغيرات عصرها الخطير، والساهرة على أولادها تحصنهم من الجراثيم الدخيلة التى تهاجم عقولهم وكيانهم الثقافى والقيمى، كزملاء السوء، وثقافة الإباحية، والانحلال، والتمرد على الوالدين. وهى التى لا تكل ولا تتعب فتمضى الوقت معهم تسمع شكواهم وآلامهم وتعينهم على حل مشاكلهم. فحين يقضى الولد أكثر ساعات يومه فى بيئة مليئة بالموبقات لابد أن يجد الصدر الحنون والحصن الآمن يلجأ إليه طالبا الحماية والعون.
وهذه الأمور الخاصة بحفظ الأرواح والقلوب والعقول والخاصة بالتنشئة والتثقيف تأخذ وقتا طويلا ورعاية ممتدة من الأم العارفة بدينها والمتفانية فى خدمته، لكن معظم الأمهات تعانى من الجهل بهذه الآليات البدائية للتربية. والجهل بثقافة الأمومة وعدم الوعى بالدين هو الأمية الدينية بعينها. فالأمومة ليست مجرد التواجد فى البيت بل هو ممارسة ذلك الدور باستمتاع واحتساب. وقد غاب ذلك عن الأم بقصد أو بدون قصد. واستثمر تلك الأمية المنادون بالصحة الإنجابية والتماثلية وتجارة الأرحام. فكيف لها أن تتخلى عن إيداع الرسالة المحمدية الخالدة فى صدور أبنائها حتى لا تضيع الأمانة التى حملها الله كل مكلف مستخلف فى الأرض؟
5) تغييب دور الأب وتذويب العلاقات الزوجية:
ولن تكتمل وظيفة الأم بدون وظيفة الأب ومعاونته وهو الحانى الحامى لكيان تلك الوحدة التراحمية. فعلاقة الزوج والزوجة لا يمكن أن تكون شكلا بلا مضمون، أو مظهرًا دون جوهر، أو تواجدا بلا تفاعل، أو جسدًا بلا روح، أو أطرًا فارغة، أو رسميات دون مشاعر عميقة، حية، تنبض بالود والتفاهم. فالزوج والزوجة هما مزيج متكامل يقوى بعضه بعضا ويؤازر بعضه بعضًا ويتدافع قدمًا لتحقيق هدفه ونجاحه وما ذلك النجاح إلا نجاح الأسرة كوحدة متماسكة، تكاملية، مبصرة بهدفها الأسمى والأرقى فى مرضاة الله. فالوئام والثقة والارتياح لذلك الرفيق والاطمئنان إليه وائتمانه على مكنون نفسه، داخل ذلك الصرح البالغ الخصوصية، هو ما يدعم الشعور بالإنتماء.
وتلك الألفة والانسيابية فى العلاقات تمنح الوليف الشعور بصداقة متينة تزداد قوة بمرور الوقت والرعاية المستمرة، وتخلق احترام وتقدير الوليف لآراء وليفه حتى ولو كانت لا توافق ميوله وأهواءه. فالتجانس الذهنى ييسر الاتفاق ويضفى الليونة فى التعامل ويمنع الاستهزاء أو السخرية بذلك الرفيق الذي يحافظ على شعوره ويتألم لألمه ويفرح لفرحه. ذلك الرفيق المؤتمن الذي أصبح سترًا وغطاء فى حضور رفيقه أو فى غيابه. فضلًا عن أن جميع الأعضاء يشعرون بوجود ملجأ وملاذ وحصن يحتمون فيه وقت الشدة وعند الابتلاء والأزمة التى لا تخلو منها الحياة بمتاعبها. والاستقرار بين الزوج والزوجة يعينهم على خلق الجو الهادىء وتكوين النموذج الطيب والقدوة الصالحة للأبناء التى بغيرها تصبح محاولات التربية والتقويم ضربا من العبث.
لقد أدت البطالة بسبب دفع المرأة للاندماج فى التنمية إلى إحلالها محل الرجل فى سوق العمل. وكما أن غيابها يحدث شرخًا فى الكيان الوجدانى للأسرة، فإن بطالة الرجل تشعره بالإحباط نتيجة عدم القيام بدوره فى الإنفاق، وما يتعلق بذلك من رعاية وحماية، وهو ما فضله الله تعالى به وهو دوره الطبيعى. وينتج عن ذلك الشعور بفقدان ربان السفينة. إلى جانب أن البطالة تثبط طموحات الأسرة وتوقعات أعضائها وتؤثر على علاقاتهم وتقف فى سبيل تحقيق أهدافهم بأكملها، وينعكس ذلك على علاقة الأسرة كوحدة إجتماعية تتفاعل مع باقى الوحدات فى المجتمع.
والنتيجة الطبيعية لهذه الظروف المفروضة على الكيان الأسرى، أن ينتهى دور القوامة. فالآية: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: 34)، توضح أن القوامة تعنى مسؤولية الرعاية والحماية والإنفاق على الأسرة. فقد أوضح ابن حجر فى فتح البارى فى (كتاب النفقات على الأهل والعيال) أن المراد بالأهل هو الزوجة وعطف العيال عليها من عطف العام بعد الخاص أو المراد بالأهل الزوجة والأقارب وكذلك الخدم وقد ذكرت الزوجة مرتين تأكيدا لحقها. ومن السنة حديث جابر عند مسلم: «...ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (ويوضح ابن حجر أنها محبوسة عن التكسب). وهذا تكريم لها ومراعة لما تتحمله من مشقة الحمل والولادة والرضاعة وليس لزوجها أن يجبرها على التكسب وعليه أن يترك لها فرصة رعايته وتربية الأطفال بمعاونته.
وتحمل القوامة أيضا فى طياتها معنى الكرم والجود والعطاء، فمعنى القوامة الشرعية يحمى المرأة من احتقار الرجل لها إذا لم تستطع العمل بسبب مهامها الأسرية أو أن يعتبر ذلك عجزا منها عن زيادة دخل الأسرة. إن المنظومة المعرفية المبنية على القرآن والسنة تتمايز عن المنظومات الأخرى التى تعطى معنى الغطرسة أو السيطرة أو التحكم بالمال فى الزوجة، كما يستحيل أن تكون الدرجة بمعنى التمييز العنصرى بين الرجال والنساء لإعلاء الرجال فوق النساء. لقد ألغى الإسلام التميز والتمييز والتعالي والكبر والتظالم، وأُلغيت جميع الفوارق القسرية كاللون والعرق والجنس والذكورة والأنوثة كما جُعلت هذه العلاقة منبت الإنسانية وسبيل امتدادها وتشكلها وانتشارها من رحم واحد، وحمّلت العابثين بالأرحام والظلم في العلاقات الإنسانية مسؤولية كبرى.
وحضور الأب، الذي غيبته المنظومة النسوية، له أهمية عظيمة فى تماسك وتشابك وتقوية العلاقات الأسرية. وعليه أن يشعر الجميع بقربه منهم، وأنه معهم يشاركهم فيما يهتمون به ويتعرف على ما يرغبون فيه، إن واجب الرجل نحو أسرته ليس مقصورًا على الإنفاق المادي. فالقوامة التي منحها الله للرجل تعني المسؤولية بمفهومها الشامل، ولا تشغله أعماله، مهما تكن، عن الرعاية التي فرضت عليه لكل أفراد أسرته، وليكن قدوته في ذلك الأب والزوج الكريم النبي محمد ابن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وحنان الأب وعطفه على الجميع يجعله متداخلا فى نسيج العلاقات وليس منفصلا عنها. وغيابه بسبب انشغاله بمجالسة أصدقائه وخروجه معهم للترفيه المتكرر، أو السهر خارج البيت لساعات طوال، أو غيابه أو سفره بعيدا لإدارة الأعمال أو حتى الدعوة إلى الله يعرض أسرته للضياع؛ لأنها فقدت الراعي، ويسرت للذين يتلقفون الأبناء من أصدقاء السوء أن يزينوا لهم وسائل الفساد. إن عدم فهم الزوج لدرجة القوامة يجعله يقصر في واجباته نحو زوجته وأولاده، وقد يعتقد بمقتضى هذه القوامة أن له الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء دون أن يراجعه أحد من أفراد أسرته، وهذا السلوك من الزوج يرتد على الأسرة بالاضطراب وفتور العلاقة الزوجية، وقد يصل الأمر إلى الشك الذي يدمر هذه العلاقة.
والأخطر من كل هذا، عدم فهم الأب لدرجة القوامة التى يظن أنها تخوله الحرية المطلقة في أن يتصرف دون أن يراجعه أحد فيتعالى على أفراد الأسرة ولا يستشير أحدا ويتصرف وكأنه السلطان الذي لا يرده راد ولا يراجعه مراجع. فليس لأي من الأفراد اتخاذ قرارات مستقلة، ولكن الزوجين يفكران ويقرران معًا، فإذا اتخذت قرارات مشتركة حول موضوعات، كالميزانية والإنفاق أو تربية الأطفال، فإنها تؤدي إلى تكامل الحياة الزوجية، أما إذا تمت القرارات بطريقة (أوتوقراطية) أو فردية فإنها تضعف الزواج.
نتائج تآكل وظائف الأسرة
إن برامج المواثيق الدولية أرادت أن تتآكل الوظائف العديدة للأسرة التى أوضحت جانبا واحدا فقط منها. وقد أذابتها المرجعيات النسوية الوثائقية فى هياكل مستغربة مستحدثة فى خبثها، كلها تنافى مقاصد الشريعة. وأرادت المواثيق أن تؤصل النـزعة الفردية حتى تتسلل فى كل مكان بزيادة تباعد أفراد الأسرة الواحدة فى برامج مستقلة إيذانا بتحلل العلاقات الاجتماعية وجفاء المعاملات وسيادة المادة. فهذه المواثيق وبرامجها التنفيذية تشكل طابورا للفساد تشل به إرادة المرأة والشباب وتضع الرجال فى متاهه بين أسرة مفككة وبطالة وفراغ وإهدار للطاقة.
وذريعة انخراط المرأة فى التنمية أثبتت فشلها. فكيف لأسرة انقطعت أوصالها وانفصمت عراها باستقطاب كل فرد فيها على حده فى برامج إنحلالية أن تساهم فى رقى المجتمع أو تحقق إنتاجا ناميا أوإنجازات حضارية دون حصن يحتويها ومأوى يحميها وسند يقويها؟ خاصة وقد انشغل كل فرد بمشكلاته الشخصية عن مسؤولياته الاجتماعية، وبدلًا من أن يكون رافدًا منتجًا في المجتمع يصبح فردًا محبطًا يحتاج إلى جهود تبذل لمساعدته لتجاوز تلك المشكلات التي تواجهه، وكان بالإمكان صرف تلك الجهود في نواحي أخرى هي بحاجة لتلك الجهود. وكما قال أحد الباحثين في موضوع التنمية: «تظل إنتاجية المجتمع المحور الأول والمحصلة النهائية لما يعايشه المجتمع ويعيش فيه من مظاهر وسمات، وما يربط أفراده من روابط وصلات».
واقع الأسرة وأهلية المكلفين
وللنظر الآن إلى مقاصد الشريعة العليا بتنزيلها على واقع الأسرة وما يجب أن يكون حالها. إن مهمة الأسرة فى الأرض غائية استخلافية تعبدية بالدرجة الأولى. إن وظائف الأسرة، المفصلة فيما أسلفت، تعكس الصورة التى يجب أن تكون عليها حين يكرس المكلفون فيها طاقاتهم للقيام بوظائفهم الطبيعية لمواكبة مقاصد الشريعة بكلياتها الخمس. فعمارة الأرض لا يمكن أن تعنى فقط بناء المبانى الشاهقة وناطحات السحاب أو الدور للسكنى. فالمقصود من الوجود عبادة الله بكل الوسائل المتاحة وتفعيل مقاصد الشرع وتنزيلها على الواقع. (يقصد المكلف من عمله بالتكاليف الشرعية المقاصد التى وجه الله عباده إليها وارتضاها لهم فالله سبحانه وتعالى شرع لعباده الأعمال التى تضمنها دينه).
ولكن المطلوب من المكلفين دور أكبر وأعظم مما نعرفه عن تلك الكليات. فحصر المقاصد العامة للشريعة فى الكليات الخمس فيه تقصير فى حق الشريعة التي لها مقاصد عالية تتمثل فى تحقيق عبادة الله وإنجاز مهمة الاستخلاف من خلال الإيمان ومقتضياته: (من العمل الصالح المحقق للسعادة فى الدنيا والآخرة، والشامل للنواحى المادية والروحية والذي يوازن بين مصالح الفرد والمجتمع، والذي يجمع بين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال المستقبلة، كل ذلك بالنسبة للإنسان والأسرة والأمة والإنسانية جمعاء). وهذه الكليات الخمس كلها متداخلة ومترابطة. فمقصد حفظ الدين، قد تم بكون الله حفظ القرآن من التحريف وأنزل الرسالة الخاتمة. ولكن الدين يشمل العقيدة والأخلاق والأعمال وتطبيق الشرع. ولن يتم تفعيل حفظ الدين إلا بالتزام العبد به واتخاذه منهاجا لحياته. وحفظ الدين يقوم على التحذير من فعل المنكرات والترهيب منها لإبعاد الناس عن التخبط فى العقائد وعدم الوقوع فى الانحراف والضلال ولينقذ الناس من الطقوس الزائفة وعبادة الأشخاص من دون خالقها.
وحكمة البارى فى حفظ النفس عظيمة، فقد كرس الله لها كل ما يحفظها وحرم ما يضرها، وغلظ فى عقوبة القتل لعلو النفس وسموها وتكريمها وتسخير الكون لها ولكونها الوعاء الذي يحفظ الدين ويقيمه. وحفظ النوع أو النسل لايكون إلا بالزواج الشرعى الذي حث الله عليه بأركانه وسلامة عقده، وعدل شهوده، وغلظة ميثاقه، والنهى عن التبتل والعنوسة والعزوف عنه، وتحريم جميع السبل التى تخالف معنى ومقصد الزواج الشرعى على الدوام. وقد حرم الله الأنكحة الفاسدة والبغايا وهتك الأعراض والعلاقات الآثمة وغلظ فى حدود جريمة الزنا تأكيدا على حفظ الأنساب من الاختلاط والضياع. وحفظ العرض يلحق حفظ النوع أو النسل .
والمال ضرورة لا تُحمد إلا فى خدمة الدين فلابد أن يكون حلالًا طيبًا. ونهى عن الإسراف وتبديد المال أو إنفاق المال فى غير موضعه أو فى الحرام، وحرم المشاريع الفاسدة التى تؤدى إلى ضياع الخلق. فالمسلم عليه تفعيل المقاصد الشرعية فى العقيدة والثقافة والاقتصاد والحياة الاجتماعية. وعليه ألا يقف موقف المتفرج منها ويدع الثقافات الدخيلة تحجم دوره كمسلم مكلف يبتغى مواكبة قصده فى العمل قصد الشارع. وحال الأمة الآن أنها تتصدى لمن يريد أن يفرض قيما ترفضها لأنها مخالفة لطبيعتها وثقافتها. فزرع القيم الأخرى هو مرحلة من مراحل تبديل ثقافة الأمة وحضارتها الأخلاقية القيمية التى تمنحها الهوية. وذلك لتصبح القيم المفروضة هى الثابتة مع غفلة الأمة ونسيانها أو تناسيها ثقافتها الأصيلة وعدم امتلاكها الوسائل النافذه إعلاميًّا وتنفيذيًّا لتوقف هذا الاستعمار الثقافى.
1) إغفال مآلات الأفعال
وأهم قاعدة من القواعد المقاصدية المنهجية هى إعطاء الوسيلة حكم المقصد. فالمشرع يجب أن يضع نصب عينيه ما يترتب على إعمال الوسيلة من المصالح والمفاسد. فتقويم مآلات الأفعال لمصلحة تجلب أو مفسدة تدرأ هو مقياس الإقدام على فعل ما أو الإحجام عنه. وهذا المقياس الشرعى يطبق على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة أي بدءًا من الوحدة الصغيرة إلى الوحدة الأكبر بطريقة تصاعدية. فالمفسدة التى يتوقف عليها العمل تجنب العبد التخبط فى الوحدة الصغرى وهى الأسرة ثم تجنب أفراد المجتمع التخبط فيه ثم تجنب الدولة مبالغ باهظة للتحكم فى الفساد والجريمة التى انتشرت فى المجتمع. فقصد الشارع من المكلف أن يكون قصده من العمل موافقا لقصد الشارع من التشريع. فعلى هدى مقدمة المصالح والمفاسد ومقدمة اعتبار موافقة قصد المكلف قصد الشارع نفهم اعتبار مآلات الأفعال. (لقد وُضعت الشريعة لتكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع (لا العكس)، ولقد وسع الشارع على العباد فى شهواتهم وتنعماتهم بما يكفيهم ولا يفضي إلى مفسدة ولا إلى مشقة).
فقد يكون الفعل مشروعا، كإعطاء المرأة حقوقها المشروعة ورفعتها فى المجتمع ولكنه رغم أنه مشروع فهو يؤدى إلى مآل غير مشروع لفقدانه ضوابط الشرع وعدم تغليب مصلحة الأسرة على المصلحة الفردية الظاهرة فى المساواة مع الرجل والكسب المادي. وتعليم المرأة والناشئة الإباحية والشذوذ ونزع الحياء والفضيلة هو مفسدة عظيمة تؤدى إلى انهيار مجتمع بأكمله نتيجة هذه الأفعال الوافدة من منظومة غير شرعية أصلا ومن علمانية فى الفكر والتطبيق دون اعتبار لشرع الله عز وجل. إن التعاون على الفاحشة لا يمكن أن يكون تعاونا على الخير ولا يمكن أن تغلف الأفعال المحرمة بغلاف الصلاح أو الإصلاح.
2) فقدان وظيفة الاستخلاف التعبدى:
كما أن تخلى المرأة الزوجة عن وظائفها يخالف منظومة الاستخلاف التعبدى من خلال العلاقة الزوجية التراحمية والأمومة الحانية. وقد أحدثت هذه الإندفاعات العشوائية أو الفوضوية سلوكيات عامة غير مدروسة أدت إلى خلل عام وفقدان للرؤية ومن ثم طغيان المصلحة الفردية المادية على المصلحة العامة للأسرة. كما أحدثت خللا فى ميزان القوى العاملة فى المجتمع بصفة عامة كالبطالة الزائدة من جراء منازعة المرأة الرجل وظائفه فى سوق العمل، وهو المناط والمكلف بالقوامة وتحمل أعباء الأسرة من الناحية المادية وضمان استقرارها وسكنها ليمكنها من التفاتها لمهامها الشرعية ومقاصدها الغائية. كما أدت إلى انتشار الجريمة بسبب تآكل وانقراض المساحة التربوية فى المجتمع وهجرة الأزواج خارج مجتمعاتهم بحثا عن الرزق.
3) فقدان الدور التربوى الإرشادى:
وقد أدت هذه الفوضوية بالتالى إلى تخلى كلا الوالدين عن الوظائف والاختصاصات الاستخلافية والعلاقات التراحمية والواجبات الإرشادية والتثقيفية التربوية للأبناء. وكما اتضح من التحليل المفصل للبحث أنه قد تسنى للخطاب النسوى وآلياته الفاعلة التزيين التدريجى لهذا الخلل السلوكى والإجتماعى عن طريق التفعيل التدريجى للمصطلحات ذات الصدى الإعلامى الموجه لخدمة النسوية ثم تذويب ما بقى من الشكل الأسرى بإقناع المرأة بـ "الحرية" و"الاعتماد على الذات" ثم انسلاخ الزوجة الأم وإدماجها فى "التنمية." والقصد من ذلك عزلها عن المجتمع وعن المساهمة فيه بقواها الفاعلة من أجل خدمة دينها والمصلحة العامة لنساء المسلمين بتقلد الوظائف المفيدة كالطب، والتمريض، والعلم، والفقه، والتدريس، على سبيل المثال لا الحصر. وليس الهدف من توظيف مواهبها أن ندفعها باسم تنمية زائفة أو للتنافس والتسلق فى ميدان العمل لتحصيل مكانة مماثلة لـ (سيدات الأعمال) مثلًا. ومما سبق نرى أنه قد تم اكتساح مساحات أوسع من المجتمع من قبل جحافل النسوية العلمانية والتحديث والعولمة.
وفى النهاية نجمل معارضة وثائق الأمم المتحدة المستحدثة لجميع المقاصد العليا كحفظ الدين والعقل بتبديل المرجعيات والمنظومات الشرعية، وعرقلة الخضوع والاستسلام لله، وتذويب مهام الاستخلاف التعبدى فى المجتمع، والحيلولة دون مواكبة مقاصد المكلفين لمقاصد الشارع. كما عارضت مقاصد حفظ النفس بإفسادها وإضلالها عن الطريق المستقيم فغلبت الأهواء والمصالح الشخصية على المصلحة العامة للأسرة والمجتمع. وعارضت مقاصد الشارع لحفظ العرض بفرض حق إجهاض حمل السفاح. وهذا بذاته يؤدى إلى تشجيع انتهاك الأعراض.
كما أنها تسعى لفرض استئجار الأرحام ونشر الشذوذ والفاحشة والثقافات الجنسية المؤيدة لانهيار الخلق. وعارضت مقصد حفظ المال بالتشجيع على تبديده. وأوقفت التنمية بتحطيم النواة الأسرية وإقحام المرأة فى ميادين العمل وتكبيدها الجهد والمشقة والوقت ونفقات الخادم والحضانة والملبس والتنقل وضياع ذريتها وأسرتها. كما عارضت مقصد الشارع حفظ العرض باستباحة خلط الأنساب واستئجار الأرحام لخلق الأم البديلة والحاضنة. وعارضت مقصد حفظ النسل بضياع النسل كله بتغييب دينه، وعلمنة ثقافته ومنظومته المعرفية، وتغييب عقله عن فهم عقيدته وتطبيق الشرع الحنيف.
.