Business

معالم الفكر التربوي عند الإمام الشافعي

يُعد الشافعي من أبرز علماء الإسلام ذكرا، ومن أكثرهم أثرا، وأبعدهم مدىً، ولا زالت أفكاره محل عناية وتمحيص لأغراض دينية وغايات أدبية، ولعل الجانب التربوي لم يأخذ حظه من الدراسة المنهجية الدقيقة لأن المخيلة العربية تحمل صورة الشافعي الفقيه، ويكاد يعزب عن الأفهام وساحة الإعلام شخصية الشافعي المعلم؛ صاحب الآراء التربوية الرائدة والإبداعات الفكرية الوافرة.

وفي دراسة بعنوان "الفكر التربوي عند الإمام الشافعي رحمه الله" لمكي شريف هداية الله، الباحث بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالسعودية، حاول الباحث تقديم دراسة تخصصية واعية لأحد أعلام التربية الإسلامية وإحياء مسالكه التربوية النافعة لبناء نظامنا التربوي على أساسه في ضوء الموازنة مع معطيات العصر الذي يفيض بالفكر والثقافة والإبداع.

 

التعريف بالإمام الشافعي

هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي بن عبد المطلب بن عبد مناف، وينسب إلى شافع فيقال له الشافعي، كما ينسب إلى عبد المطلب فيقال المطلبي، كما ينسب إلى مكة لأنها موطن آبائه وأجداده فيقال له المكي، إلا أن النسبة الأولى قد غلبت عليه. ولد بمدينة غزة بفلسطين، حيث خرج والده إدريس من مكة إليها في حاجة له، فمات بها وأمه حامل به، فولدته فيها ثم عادت به بعد سنتين إلى مكة.

حفظ القرآن بها في سن السابعة، وحفظ موطأ الإمام  مالك في سن العاشرة. اختلط بقبائل هذيل الذين كانوا من أفصح العرب فاستفاد منهم وحفظ أشعارهم وضرب به المثل في الفصاحة. تلقى الشافعي الفقه المالك على يد الإمام مالك. وتفقه بمكة على شيخ الحرم ومفتيه مسلم بن خالد الزنجي، المتوفى سنة 180هـ، وسفيان بن عيينة الهلالي، المتوفى سنة 198هـ وغيرهما من العلماء.

 ثم رحل إلى اليمن ليتولى منصبًا جاءه به مصعب بن عبد الله القرشي قاضي اليمن. ثم رحل إلى العراق سنة 184هـ، واطلع على ما عند علماء العراق وأفادهم بما عليه علماء الحجاز، وعرف محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وتلقى منه فقه أبي حنيفة، وناظره في مسائل كثيرة ورفعت هذه المناظرات إلى الخليفة هارون الرشيد فسُرَّ منه.

ثم رحل الشافعي بعدها إلى مصر والتقى بعلمائها وأعطاهم وأخذ منهم. ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195هـ في خلافة الأمين. وقد أصبح الشافعي في هذه الفترة إمامًا له مذهبه المستقل ومنهجه الخاص به. واستمر بالعراق مدة سنتين عاد بعدها إلى الحجاز بعد ما ألّف كتابه الحجة الذي رواه عنه أربعة من تلاميذه في العراق وهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفراني، والكرابيسي، ثم عاد مرة ثالثة إلى العراق سنة 198هـ وأقام بها أشهرًا ثم رحل إلى مصر سنة 199هـ أو سنة 200هـ على قول بعض المؤرخين، ونزل ضيفًا عزيزًا على عبد الله بن الحكم، بمدينة الفسطاط، وبعد أن خالط المصريين وعرف ما عندهم من تقاليد وأعراف وعادات تخالف ما عند أهل العراق والحجاز. فكرَّ في إعادة النظر فيما أملاه البويطي، والمزني، والربيع المرادي بالعراق. وظل بمصر إلى أن توفي بها سنة 204هـ.

 

 العوامل التي أثرت في التكوين الفكري للشافعي

عاش الشافعي في العصر العباسي الأول حيث كانت الخلافة الإسلامية قوية الأركان تموج فيها التيارات العلمية وأخذت العلوم النقلية والعقلية تزدهر تحصيلا وتعليما وتأليفا. ونشأ الشافعي فقيراً، في أسرة رقيقة الحال، في مدينة عسقلان بقرية غزة في فلسطين.

والمتتبع لحياة الشافعي يمكن أن يستنبط جملة عوامل ثقافية لعبت دورا حاسما في تشكيل شخصيته، وتكوين عقليته، وبلورة مستقبله. فيما يلي طائفة من تلك العوامل:

1.  كانت والدته محبة للعلم وتحث ولدها على طلبه.

2. حرص الشافعي على اكتشاف وتنمية طاقاته ومواهبه وعمد إلى كل الوسائل المتاحة لتطوير ثقافته.

 3. ترعرع الشَّافِعي كعادة العرب في كنف الطَّبيعة فعاش زمنا طويلا في قبيلة هُذَيْل يعب من أدبها ومعارفها.

4. عصر الشافِعي هو العصر الذَّهبي للدَّولة العبَّاسية حيث الأمن والاستقرار، كما كان الخلفاء يشجِّعون العلماء في شتى الميادين ويحثونهم على المزيد من الإبداع والعطاء.

 5. وضوح رؤية الشافعي لأهدافه من أسباب تفوقه العِلمي إذ حَدَّدَ الشافعي هدفه منذ الصِّغر وذلك بأن يكون مُتخصِّصاً في الفِقه.

6. قام كل من مسلم بن خالد الزّنجي ومالك بن أنس ومحمد بن الحسن ووكيع بن الجراح وغيرهم بإعداد الشافعي إعداداً يليق بعالِم يهدف إلى خدمة الدِّين والمسلمين. لم يكن الزنجي مجرد فقيه بل كان مربيا ومرشدا للشافعي علاوة على كونه معلما، وقال الشافعي عن مالك معلمي وعنه أخذت العلم، وقال عن محمد بن الحسن "وإني لأعرف الأستاذية علي لمالك ثم لمحمد بن الحسن".

7. الرِّحلات العِلْمِية إلى العراق والخبرات السِّياسية في اليمن والدُّروس العِلْمِيَّة في المدينة المنورة ومصر وسَّعت مدارِكه، وَرسَّخت علومَه، وعمَّقت علاقاته مع العلماء ومع طلاب العلم.

8. أخذ الشَّافعي عُلوماً متنوعة وجمع بينها واستفاد من منهج المحدِّثين في قبول الرِّوايات. وكان يسير الليالي مسافرا بحثا عن حديث نبوي شريف.

9. كانت المناظرات تصقل فكر الشافعي وتوسع مداه. وُصف عصر الشافعي بأنه عصر المناظرات المثمرة.

10. التدريس في مكة والعراق ومصر بلور في ذهنه نظرية تربوية منبثقة من وحي الواقع وأساسيات الدين. قال أحد طلاب الشافعي: "ما رأيت مجلساً قط أنبل من مجلس الشافعي كان يحضره أهل الحديث وأهل الفقه وأهل الشعر وكان يأتيه كبار أهل اللغة والشعر فكل يتكلم منه”.

 

أهم أفكار الشافعي في التربية

تقوم العملية التعليمية على عدة دعائم أهمها: المتعلم والمعلم والمنهج ووسيلة التعلم والإشراف الإداري على العملية التعليمية، وهذه الدعائم متضامنة هي الأصل في نجاح كل عملية تربوية، ومن ثم نجد الشافعي قد تناول الكثير من تلك الدعائم عبر إشارات موجزة ومتفرقة في نتاجه العلمي.

لعل أول وأهم فائدة يمكن استنباطها من الإمام البحث عن الحقيقة وحب العلم ورفع مكانة العلماء. اعتبر الشافعي طلب العلم طريق السعادة وأعظم عبادة فلولاه لم يعرف الإنسان الحق من الباطل. وفي هذا المساق قَالَ:"”طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ النَّافلَةِ”". وقال أيضاً: “من أراد الدُّنيا فعليه بالعِلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعِلم”. ومن منظور الشافعي: "العالم يسأل عما يعلم وعما لا يعلم، فيثبت ما يعلم ويتعلم ما لا يعلم. والجاهل يأنف من التعليم ويأنف من التعلم".

وضع الشافعي العلماء في طليعة المجتمع فهم مصابيحه، وكان يقول لا ينبغي لأحد أن يسكن بلدة ليس فيها عالم ولا طبيب. ولأن العلم عميق بحره، طالب الشافعي بأخذ طرف من المعارف (فخذوا من كل شيء أحسنه) لتنويع الثقافة كما أنه أشار إلى أن التوسع في العلم والتخصص فيه يكشف للإنسان مدى جهله فيتواضع ويزداد تعلما. معظم المأثورات الواردة على لسان الشافعي تصب في باب تمجيد العلم. والتربية الحديثة تعتبر القيادة الفكرية القائمة على محبة العلم من أهم ركائز الشخصية. إن محبة العلم عماد الحياة المنتجة فإن المعرفة الصحيحة من المفترض أن تقود لتطبيقات سليمة.

وفي إشارة إلى الفروق الفردية، والحض على طلب العلم، والاعتصام بالإخلاص، قال الشافعي: “والناس في العلم طبقات، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به. فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه". وحذر من التقليد فقال: "وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم”. وفي مجال شروط طلب العِلم قال:

أخي لن تنال العلم إلا بستةِ            سأنبيك عن تفصيلها ببيــان

ذكاء وحرص واجتهاد وبُلْغَة          وصحبة أستاذ وطول زمــان

تلك أركان عملية التعليم، لا يمكن بحال من الأحوال التخلي عن ركن منها، ويرى الشافعي أن الإنسان لا يولد عالما وإنما بالتعلم الذي ينمي الذكاء ويرتقي بالطبع الإنساني. فقال: “الطَّبع أرض، والعلم بذر ولا يكون العلم إلا بالطَّلب، فإذا كان الطَّبع ماثلاً زَكا ريع العلم وتفرَّعت معانيه”.

ولأن المعلم من أركان العملية التعليمية فإن الطالب الذي يعتمد كلية على مطالعة الكتب يضل الطريق، “من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام”.

 

1- في مجال إعداد المعلم

 فحسن الخلق حياته، وشعاره، ولا يمكن بلوغ الغاية من غيره من منظور الشافعي. يوجز الشافعي رؤيته في نصيحة نفيسة يمكن اعتبارها من روائع تراثنا التربوي ومن جوامع الكلم العربي. فقد أدخل الشافعي يوماً إلى بعض حجر هارون الرشيد يستأذن على أمير المؤمنين ومعه سراج الخادم فأقعده عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد الرشيد، فقال سراج للشافعي: يا أبا عبد الله هؤلاء أولاد أمير المؤمنين وهذا مؤدبهم فلو أوصيته بهم، فأقبل على أبي عبد الصمد فقال له: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة فيك، فالحسن عندهم ما تستحسنه والقبيح عندهم ما تركته، علمهم كتاب الله ولا تكرهم عليه فيملوا ولا تتركهم فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجنهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للسمع”. ووضع الشافعي في كلمات قليلة سر قوة المعلم المتفوق؛ القدوة الحسنة، وتوجيه المتعلم برفق نحو القرآن الكريم والعلوم النافعة، والتدرج في التعليم، وإيجاز التوجيهات.

لقد كان الشافعي يتوخى مؤاخاة الطلبة والرفق بهم والتودد إليهم فكان معروفا بمبالغته في الشفقة على المتعلمين والنصيحة لهم.  وكان يزور طلابه كزيارته لأحمد بن حنبل ومحمد بن الحكم.

 

2- على صعيد التربية الاجتماعية والصالح العام

أولى الشافعي أهمية كبرى للصداقة وهذا دليل على وعي اجتماعي متقدم، حيث طالب الشافعي الصديق بالاعتدال في مخالطة الناس، فقال: إن الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مكسبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط. وهنا يرسى الشافعي أساس التوسط بين القبض والبسط في التعاملات الإنسانية. وفي أثر الصحبة قال: “عاشر كرام الناس تعش كريماً ولا تعاشر اللئام فتنسب إلى اللؤم”. ويؤمن الشافعي أن الصداقة ضرورة حياتية:

سَلامٌ عَلَى الدُّنْيَا إذا لَمْ يَكُنْ بِهَا                صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الْوَعْدِ مُنْصِفَا

إن الحديث عن الصداقة والأصدقاء، وعن العلاقات الاجتماعية يشغل صدرا واسعا من ديوان الشافعي. ولعل مرد ذلك يعود إلى اختلاطه بالكثير من أصناف الناس على اختلاف مشاربهم, وتباين طباعهم، في محاولة استشفاف مداخلهم. وقد ساعده في ذلك دراسته أحوال الرواة، ومدى وثوق العلماء بهم، وذلك من خلال جمعه وتصنيفه الأحاديث النبوية.

ولأهمية موضوع الصَّداقة فإنَّ الشافعي في شعره خاصَّة ونثره عامَّة فصَّل القول في خصال الصَّديق الصَّالح وقرَّر أنَّ الصَّديق الصَّادق هو الذي يغض الطَّرف عن العثرات، ويحفظ حق صاحبه في الحياة والممات، ويُرافقه ويوافقه في كل أمرٍ يُريده ما لم يكن الأمر من المحرَّمات، كما يقف الصاحب مع رفيقه في الأزمات. ومن صِفته حب العلم وغني النَّفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، ولبس التَّقوى، والثِّقة بالله على كل حال، والسَّخاء، والتَّواضع، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والمحافظة على حدود الله تعالى، ولين الجانب، ورحابة الصَّدر، وبشاشة الوجه، وخفض الجناح. ولأنَّ الإنسان خطَّاء فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته فهو الصَّاحب المقبول الذي يمكن اختياره.

 

3 - التحصيل الدراسى والأخلاق

كان الشافعي يعلم طلابه وأصحابه العلم والتحصيل الدراسي مقرونا بتعليم مهارات الحياة الأخلاقية، فقال ذات يوم لأحدهم في نصيحة طويلة عن الصداقة جاء في مقدمتها: "إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادر بالعداوة وقطع الولاية، فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقل له: بلغني عنك كذا وكذا، وأجدر أن تسمى المبلغ، فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر، ولا تزيدن على ذلك شيئاً…، وقال رضا الناس غاية لا تدرك، فانظر ما فيه صلاح نفسك في أمر دينك ودنياك فالزمه".

شأنه شأن أي عالم مسلم كان للأخلاق نصيبا واضحا في تعاليم الشافعي فالغاية السامية للتربية تهذيب الأخلاق لترسيخ دعائم العدل، قال الشافعي:

إذا لم يزد علم الفتى قلبه هـــدى         وسيرته عدلاً وأخلاقـه حُسنــا

فبشره أنَّ الله أولاه نقمــــــة               يساء بها مثل الذي عبد الوثنــا

في البيتين السابقين وضع الشافعي هدف التربية الإسلامية بإقامة العدل فالذي يقوم بالقسط يعرف حق ربه عليه، ويعمد إلى الأخلاق الحسنة ليتعامل مع البش. التربية بالعمل الصالح نعمة وبلا عمل نقمة وحجة على صاحبها، فالتربية النافعة تؤثر على كيان وجنان وأركان الإنسان فتهديه لصالح الأعمال وتجنبه المهالك.

لا يستغني الحصيف عن مراجعة الذات، ولعل فلسفة الشافعي التربوية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالبيتين التاليين:

يعيبُ النَّاسُ كلهم الزَّمانا      ولو نطقَ الزمانُ إِذاً هجانا

نَعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا        وما لزمانِنا عيبٌ سوانـا

خير ما يمكن أن نقدمه للناشئة اليوم هو أن الناجح هو الذي يتوقف تماما عن لوم الآخرين، والابتعاد عن لعب دور الضحية والمظلوم حتى لا نخسر المستقبل، وكي لا نضحي بمصيرنا. إن الخطأ ليس في العصر بل في البشر. إننا في الغالب الأعم لا نُدين أنفسنا ولا نحاسبها بانتظام ولكن نلوم للأسف من حولنا وقد نذمهم بانتظام، ولو كان بصرنا حديدا لأبصرنا تقصيرنا أولا، وسوء تدبيرنا ثانيا. إن البصير هو الذي يحاسب نفسه قبل أن يعاتب غيره فمن أصلح نفسه سهل الله دربه وسدد خطاه.

وبناءا على ما سبق، فإن من أهم مفردات تحمل المسئولية محاسبة النفس، وفي هذه المرحلة يفكر المرء بشكل مستمر بما يمكن أن يقدم، وما الميادين التي يمكن أن يخدم بها وكيف يحقق النجاح. من أهم مبادئ الحياة محاسبة النفس لدفعها نحو المزيد من الانجاز. إن تحمل المسئولية من أهم واجبات وحقوق الإنسان، قال تعالى: “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11). يمتلك كل فرد قدرة وإرادة لتهذيب نفسه على مستوى النفس، والاعتقاد، والفكر، والسلوك ولا تنفع الاستطاعة في تغيير المستويات الثلاثة (المستوى الفكري والنفسي والسلوكي) إذا لم تكن رغبة التغيير صادقة، وطرقها صحيحة. وبالعلم والإرادة والإيمان يمكن بلوغ الغايات.

إن الشواهد السابقة وغيرها أكثر تثبت بأن نثر وشعر الشافعي يتضمن الكثير من المبادئ التربوية النفسية والاجتماعية والدينية والثقافية التي لا زالت ذات قيمة في حياتنا اليومية.

 

الوسائل التربوية عند الشافعي

استخدم الشافعي وسائل تربوية عديدة وعمل على تطبيقاتها، منها الصبر، فيقول لأحد تلاميذه "يا ربيع، لو أمكنني أني أطعمك العلم لأطعمتك”. وروى السبكي” كان الربيع بطئ الفهم، فكرر الشافعي عليه مسألة واحدة أربعين مرة فلم يفهم وقام، من المجلس حياء، فدعاه الشافعي في خلوة وكرر عليه حتى فهم، وكانت الرحلة فى كتب الشافعي إليه من الآفاق نحو مائتي رجل، وقد كاشفه الشافعي بذلك حيث يقول له فيما روى عنه أنت راوية كتبي". هكذا كان صبر الشافعي مع طلابه فتحققت مطالبه ونال مبتغاه.

وعلى مستوى طلب العلم، أوجز الشافعي القول في فوائد الرحلة في طلب العلم في بيتين من الشعر فقال عن مكاسب السفر:

تغرَّب عن الأوطان في طلب العلا       وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تَفَرُّج هم، واكتساب معيشــةٍ             وعلمٌ، وآدابٌ، وصحبة ماجــد

ومن جهة أخرى، وجد الشافعي المناظرة وسيلة عجيبة لتوصيل الأفكار وترسيخها في الأذهان. الغرض من المناظرة عند الشافعي البحث عن الحقيقة لا كسب المواقف، والانتصار للنفس، وإفحام الخصم، واستعراض المواهب. قال الشافعي “وددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الله الحق على يديه”. وقال: "المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن". وقال: "ما ناظرت أحداً قط على الغلبة، وفي رواية: ما ناظرت أحداً قط إلا على النصيحة". ومن آداب المناظرة ما قاله ابن الشافعي: "ما سمعت أبي ناظر أحداً قط فرفع صوته". وقال الشافعي: "وددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الله الحق على يديه”. ولأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية نجد الشافعي في نهاية إحدى المناظرة يذكر بهذه القاعدة الذهبية فيقول “ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”. عرف الشافعي أن المراء والمماحكات الكلامية لا تصل إلى خير بل تقسي القلب، وتضيع الأوقات، وتفوت الفرص الثمينة لهذا نجده يرفض تحويل المناظرة إلى حلبة تصارع فيوصي بحسن الخلق خاصة ساعة المناظرة فيقول:

أُحبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ جُهْدِي * وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا

قيل للشافعي: أخبرنا عن العقل يولد به المرء؟ فقال: لا ولكنه يلقح من مجالسة الرجال ومناظرة الناس”. إن المناقشات الرصينة، والحوارات الهادفة ذات قيمة رفيعة في عصرنا وجميع العصور لأنها توسع الأذهان وترتقي بها، وتدرب الفرد على تلاقح الأفكار، وتكسبه مهارات التحدث والمناقشة تزيد من ذكائه اللغوي. قيل للشافعي: "من أقدر الناس على المناظرة؟ فقال من عود لسانه الركض في ميدان الألفاظ ولم يتلعثم إذا رمقته العيون بالألحاظ، ولا يكون رخي البال قصير الـهمة فإن مدارك العلم صعبة لا تنال إلا بالجهد والاجتهاد، ولا يستحقر خصمه لصغره فيسامحه في نظره بل يكون على نهج واحد في الاستيفاء والاستقصاء لأن ترك التحرز والاستظهار يؤدي إلى الضعف والانقطاع”. “أحسن الاحتجاج ما أشرقت معانيه، وأحكمت مبانيه، وابتهجت قلوب له سامعيه".

وللشافعي نصيب وافر في فنون الوعظ والنصح فلقد وظف بيانه الساحر في ترقيق القلوب ونشر الفضيلة. ومن مواعظه "وكن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً، واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج غداً مع الناجين". وقال: "من كان فيه ثلاث خصال فقد أكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر به ونهى عن المنكر، وانتهى عنه، وحافظ على حدود الله تعالى…”. وقال له رجل أوصني فقال: "إن الله تعالى خلقك حراً فكن حراً  كما خلقك". وقال: "من سمع بأذنه صار حاكياً، ومن أصغى بقلبه كان واعياً، ومن وعظ بفعله كان هادياً”. هذه المواعظ وغيرها تتضمن معاني غاية في الروعة كقوله إن الله تعالى خلقك حراً فكن حراً  كما خلقك فلا ريب أن هذه المعاني تزرع العزة في نفس المتعلم فلا يذل نفسه لأحد سوى الله، ويجاهد من أجل حريته الصحيحة وحرية بلده وأمته. كانت مواعظ الشافعي تتدفق حتى عندما كان في مرض موته ودون طلابه معظم تلك المواعظ. وليس كل ما يعرف يقال في الملأ لهذا قال الإمام: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.

وفي ظل السياق السابق، استخدم الشافعي القصة أيضا ورغم قلة قصص الشافعي إلا أنها ذات قيمة عالية لا سيما تلك الروائع التي رواها عن طلبه العلم، فإن قصص الشافعي عن طلبه للعلم في طفولته وشبابه من القصص التعليمية الجيدة في الأدب العربي. وقص كذلك محنته وأزمته السياسية في اليمن من جهة، وما حصل له في رحلاته من مواقف طريفة من جهة أخرى. ومن ذلك قوله “كنا في سفر في أرض اليمن، فوضعنا سفرتنا لنتعشى، وحضرت صلاة المغرب، فقمنا نصلي ثم نتعشى، فتركنا السفرة كما هي، وقمنا إلى الصلاة، وكان فيها دجاجتان، فجاء الثعلب فأخذ إحدى الدجاجتين فلما قضينا الصلاة، أسفنا عليها، وقلنا حرمنا طعامنا فبينما نحن كذلك، إذ جاء الثعلب وفي فمه شيء كأنه الدجاجة فوضعه، فبادرنا إليه لنأخذه ونحن نحسبه الدجاجة قد ردها، فلما قمنا جاء إلى الأخرى وأخذها من السفرة وأصبنا الذي قمنا إليه لنأخذه فإذا هو ليف قد هيأه مثل الدجاجة".

وفي نطاق العقاب البدني كوسيلة تربوية، فإن الشافعي يرى أنه يمكن تأديب الأطفال من غير الضَّرْبِ. يعتقد كثير من الخبراء أن العقاب البدني كاختيار أخير غالبا لا يحل المشكلات بل يعقدها، فلا يتحسن السلوك. قال الإمام الشافعي في كتابه الأم وهو يتحدث عن الحياة الزوجية: "وَلَوْ تَرَكَ الضَّرْبَ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ }”. وقال “الاختيار ترك الضرب”. إن أساليب التهديد والوعيد والعقاب والضرب ثبت بطلانها في الغالب بل إن أساليب العقاب البدني عموما ما تضر بنفسية الطفل وتأتي بآثار عكسية، وتسبب المزيد من الإمعان في عناد الطفل وتعنته وسوء سلوكه.

قال الشافعي في كتابه الأم: "فإذا بلغ الغلام الحلم والجارية المحيض غير مغلوبين على عقولهما أوجبت عليهما الصلاة والفرائض كلها، وإن كانا ابني أقل من خمس عشرة سنة وجبت عليهما الصلاة وأمر كل واحد منهما بالصلاة إذا عقلها، فإذا لم يعقلا لم يكونا كمن تركها بعد البلوغ وأدبهما على تركها أدبا خفيفا”. والشافعي يفضل الابتعاد عن العقاب البدني لقوله في كتابه الأم “ومعلم الكتاب والآدميين مخالف لراعي البهائم وصناع الأعمال لأن الآدميين، يؤدبون بالكلام فيتعلمون وليس هكذا مؤدب البهائم، فإذا ضرب أحداً من الآدميين لاستصلاح المضروب أو غير استصلاحه فتلف كانت فيه دية على عاقلته والكفارة في ماله والتعزير ليس بحد يجب بكل حال"، وهكذا ضيَّق الشافعي من مجال العقاب البدني فالمعلم ضامن لسلامة المتعلم ومسئول عن عواقب العقاب البدني.

 

التوصيات

أوصت الدراسة:

1. دراسة رواد الفكر في إطار التراث التربوي العالمي، والحذر من عزل التراث وتفسيره في دائرة ضيقة وأدبيات محدودة.

2. تقديم دراسات تربوية موسعة باللغة الأجنبية عن الشافعي ونشرها على شبكات الانترنت للتعريف بإبداعات الحضارة العربية الإسلامية وبصانعي الفكر الإسلامي.

3. تقديم دورات تدريبية للمعلمين والمعلمات لبيان أفكار الشافعي وسبل توظيفها في رفد الواقع التعليمي والتربوي.

4. تعريف الناشئة بأخلاقيات طالب العلم عبر برامج إعلامية عالية التقنية تحاكي التطور العصري وقادرة على جذب الأنظار والتأثير في النفوس.

5. عمل موسوعة مصورة للطفل تتضمن أعلام التربية الإسلامية والمفردات التراثية ذات الصلة بتعليم وتربية الطفل مع التركيز على أخلاقيات طالب العلم من الجنسين.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم