القاعدة الثالثة: الأجر يقع بمجرد الدعوة ولا يتوقف على الاستجابة

بقلم: د. همام سعيد

​​​​​​​

أ- وهذه القاعدة تعالج خطًا شائعا عند كثيرين، وهو أن الأجر يترتب على النتيجة الدنيوية الظاهرة مشبهين ذلك بالأعمال الدنيوية التي ينظر فيها إلى النتائج المحسوسة، ولو كان الأمر في الدعوة كذلك لكان كثير من أنبياء الله - صلوات الله وسلامه عليهم – محكومًا عليه بالإخفاق، وحاشا لأنبياء الله الكرام أن يوصفوا بهذا رغم قلة المؤمنين بدعوتهم، فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه ويمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[العنكبوت:14]، وظاهر السياق من الآية كما يقول ابن كثير -أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عامًا، ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إلا القليل، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود:40] ويلاحظ الاستثناء في الآية بعد قوله:{وَمَنْ آمَن} حتى لا يُفهم أن عدد المؤمنين كان كبيرًا قال:{وَمَا آمَنَ مَعَه ُإِلّا قَلِيل}.

وكذلك كان أمر أكثر الأنبياء فإنهم يحشرون يوم القيامة، ومع بعضهم الواحد والاثنين والثلاثة، وبعضهم لا يكون معه أحد من المؤمنين، أخرج الترمذي من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم، والنبي والنبيين ومعهم الرهط، والنبي والنبيين وليس معهم أحد).

ولذلك فقد وجه الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة فقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ}[الشورى:48]، وقال: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:35].

فأمر الهداية بيد الله تعالى، وهو القائل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56].

 

ب- ومن فَقِه هذه القاعدة أنه لا يقع تحت الإحباط والضغوط النفسية الناشئة عن إعراض الناس وعدم استجابتهم للداعية، ولقد رفع الله تبارك وتعالى الحرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يكلفه إلا بما يستطيع فقال:{ليس عليك هداهم} وقال له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6] وقال:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وقال:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، وفى هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان الحريص على إيصال الخير والهداية إليهم ولكنهم عموا وصموا.

والقلب الرحيم يتقطع عندما يرى الناس يتهافتون في النار تهافت الفراش، وكذلك كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء التوجيه الرباني:{فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها أسىً وأسفًا عليهم لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن الكريم قال قتادة: (لعلك قاتل نفسك غضبًا وحزنًا عليهم)، وقال مجاهد: جزعًا، والمعنى متقارب أي لا تأسف عليهم بل أبلغهم رسالة الله فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.

وكذلك رفع الحرج عن الدعاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم يهتد الناس ويستجيبوا لهم بعد استنفاد غاية الجهد معهم لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

 

ج- وفى هذه القاعدة علاج لأولئك المتعجلين من الدعاة الذين ينتظرون النتائج الدنيوية الظاهرة ويجعلونها شرطًا للمواصلة والسير في طريق الدعوة وهذا التلازم إنما هو سوء فهم من جهة، ومخالفة صريحة لقواعد الدعوة في القرآن والسنة من جهة أخرى.

ولقد أكد القرآن الكريم عدم التلازم بين الدعوة والاستجابة، فقد يبذل الداعية قصارى جهده ولا يجد من المدعو سوى الإعراض، وقد جعل القرآن الكريم بين الدعوة والاستجابة مرحلة وسيطة ويبدو أنها ضرورية وهي مقتضى قوله تعالى:{حتى إذا استيأس الرسل}، وهى مرحلة {وظنوا أنهم قد كذبوا} والوصول إلى هذه المرحلة وسيط بين الدعوة وبين المرحلة الثالثة:{جاءهم نصرنا}.

قال ابن كثير: (يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه كقوله تعالى:{وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله}).

وقد فهمت السيدة عائشة رضي الله عنها أن هذا الظن إنما هو ظن الأتباع لا ظن الرسل أنفسهم، وذلك عندما قال لها عروة: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن.

قالت: لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت فما هي هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء وتأخر عنهم النصر حتى ظن الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم.

وذلك بناءً على قراءة عائشة رضي الله عنها:(كذَّبوا) فيكون الفاعل الأتباع لا الرسل، وهو توجيه يليق بمقام الرسل الكرام، وإذا جعلنا الضمير للرسل كان ظنهم حينئذٍ أن قومهم قد كذبوهم، ولا مانع من الجمع بين المكذبين من أقوام الرسل، والمتعجلين الظانين بالله ظن السوء.

 

د- ولا يعنى هذا أن الداعية غير مطالب ببذل قصارى جهده، واستخدام أحسن ما يستطيع من الأساليب والوسائل، وهذا ما سنذكره في قاعدة البلاغ التالية.

 

للاطلاع على السلسلة: د. همام سعيد يكتب: قواعد عامة في الدعوة إلى الله

​​​​​​​

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم