الشدائد ومواقف في اليقين بنصر الله والتضحية

في أحلك المواقف وأشدها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه على ما تستدعيه هذه المواقف قيم ومعان وأساليب، ففي أوقات الشدة كانت معاني الثقة واليقين بموعود الله التفاؤل والأمل وعدم اليأس والاستكانة حاضرة يرفع بها الهمم ويقوي بها العزائم، وفي مواقف البدائل أو القرارات المصيرية يعرض النبي الأمور للشورى ليشارك الجميع أو على الأقل أهل الأمر حسب ما يقتضيه الموقف.

وغزوة الأحزاب مليئة بالمواقف التربوية والدروس التعليمية للأمة في مختلف المواقف والأحداث.

الثقة واليقين بموعود الله

حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة وغيرها على أن يؤكد لصحابته وللمسلمين من بعدهم، أن النصر من عند الله وحده، فالأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل، لم تُهزم بالقتال من المسلمين رغم تضحياتهم، ولم تُهزم بعبقرية المواجهة ودقة التخطيط رغم الأخذ بها بأفضل وأقصى ما يكون، وإنما هُزِمت بالله وحده، وما يسرَّه الله من أسباب وسخره من جنود، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } (الأحزاب:9).

فإذا أراد الله نصر المؤمنين، فلا ضرر عليهم إذا خذلتهم الدنيا بأسرها، أو تحالف عليهم الكفر وأهله، قال الله تعالى: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (آل عمران:160).

ومن ثم أكد النبي -ـصلى الله عليه وسلم- هذا المعنى، فقال: ( .. لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.. )، وبذلك يعلمنا أن المسلم حينما تصيبه شدة أو كربة فإنه يلجأ أولا إلى الله، ويستعين بالله، فالفرج منه، والنصر من عنده سبحانه.

أهمية الدعاء

ويظهر لنا من هذه الغزوة أهمية الدعاء، فقد كان رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-  كثير التضرع والدعاء، وخصوصا في مغازيه، فحينما اشتد الكرب على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديداً، دعا على الأحزاب فقال: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).

 فاستجاب الله دعاء نبيه، فأقبلت بشائر الفرج، فصرف الله بحوله وقوته جموع الكفر من الأحزاب، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم باختلافهم، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه.   

 فالدعاء سلاح هام في أيدي المسلمين، فالأسباب إذا كانت قليلة يعوضها ويَفضل عليها التضرع إلي الله، والتوكل علي الله، قال الله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (غافر: من الآية60)، وقال: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق: من الآية3). وهذا لا يتعارض  مع الأخذ بالأسباب البشرية للنصر، فقد تعامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة مع سنة الأخذ بالأسباب, فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصار، والحفر، وغير ذلك.. ،إلا أنه يعلمنا سنة الأخذ بالأسباب, مع ضرورة الالتجاء إلى الله، وأهمية الدعاء، وطلب النصر من الله وحده.

التضحية ورفض التنازل

لما اشتد على المسلمين البلاء جراء الحصار المفروض عليهم من الأحزاب، بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، وكتبوا في ذلك كتاباً، وأرسل الرسول لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة ليستشيرهما.

فقالا: يا رسول الله أمرٌ تحب فنصنعه؟ أم شيئاً أمرك الله به لابد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟

قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدةٍ، وكالبوكم من كل جانبٍ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما.

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةً إلا قرىً أو بيعاً، أحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا حاجة، والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.

قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: فأنت وذاك، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم