Business

نحو منهجية فعالة للتربية على القيم الأخلاقية

 

إن سؤال القيم والأخلاق الذي يواجه من يبحث في العلاقة بينهما، هو: هل القيم تطرح نفسها على أنها سندٌ للأخلاق أم بديلًا عنها؟ وهل تملك القدرة على بناء نهج تربوي، يتوفر على مستوى من الفعالية يضاهي فعالية الأخلاق؟ وما هي المقومات والطرائق الأساسية لهذا النهج إن وُجد؟

كثيرًا ما تُرفع شعارات قيمية وأخلاقية، وتوضع مناهج تربوية تروم ترسيخ قيم أخلاقية معينة، لكنها في المحصلة النهائية تفشل في تحقيق أهدافها، فالحاجة إذًا تدعو إلى البحث في أسباب ذلك وتلمس المخرج من هذا الفشل.

وفى دراسة للدكتور عبد السلام الأحمر، الباحث فى الفكر والتربية وعضو رابطة العلماء المحمدية بالمغرب، بعنوان: (نحو منهجية فعالة للتربية على القيم الأخلاقية) -2011-، يحاول اقتراح إجابات عن التساؤلات المطروحة.

 

أولًا: العلاقة يين القيم والأخلاق

1- ماهية الأخلاق:

نتساءل أولا عن حقيقة الأخلاق، وهل هي حالة فطرية ثابتة في أعماق النفس، وممنوحة مع الخِلقة ولا دخل للفرد في وجودها وتحسينها، أم هي صفة مكتسبة بالتربية والتنشئة الاجتماعية، بحيث تكون ثمرة مجهود ذاتي واعٍ وحر، وبمعنى آخر ما علاقة الأخلاق بالمسؤولية؟

تستند الأخلاق إلى رصيد الفطرة التي فطر الله الناس عليها كما دل على ذلك الحديث النبوي فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» ثم يذكر أبو هريرة- رضي الله عنه- قوله تعالى: {... فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...} (الروم: 30).

كما أن التشبيه الذي ساقه الحديث، يزيد معنى الفطرة وضوحًا بأنها: حال السلامة من الانحراف عن دين الله والنزوع القوي لمعرفته، والإيمان به، تمامًا كالحال التي تنتج عنها البهيمة مكتملة الأعضاء، سليمة من النقص حتى يحدث فيها عن طريق الجدع.

 ولهذا قالت طائفة من أهل الفقه والنظر: «الفطرة هي الخلقة التي خُلق عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خِلقةٍ يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة».

 وتعبيره ﷺ بـ «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» يفيد العموم والاستغراق لجنس بني آدم، لا فرق في ذلك بين روح المؤمن وروح الكافر، وأن طبيعة الأرواح الأصلية خيرة مستقيمة على معرفة الله، تواقة إلى المزيد حتى يعرض لها في الحياة الدنيا ما يحيد بها عن هذه الطبيعة.

فالأرواح الآدمية مفطورة على الإسلام، بمعنى أن الخالق سبحانه ركز فيها أصل الإيمان بالله وهو التوحيد، الذي يحكم به العقل عند النظر في مخلوقات الله المنشورة في الكون، ويشعر به الوجدان شعورا عميقا ومتجددا. كما ركز فيها حب الفضائل والأخلاق الكريمة، من أمانة ووفاء وصدق وعفة وحلم وشجاعة وغيرها، وركز فيها بغض الرذائل من خيانة وكذب وكبر وحسد.

 وبصفة عامة ركز فيها القدرة على معرفة المعروف، وإنكار المنكر، وإيثار الحسن على القبيح، والميل إلى الخير، والنفور من الشر، والتوق إلى ممارسة الحرية وتحمل المسؤولية، وكل هذا يؤهلها لإجابة دعوة رسل الله، وإدراك أنها الحق الذي يسد حاجاتها، ويناسب طبيعتها ويحقق رغبتها في السعادة دنيا وأخرى.

 فالوحي هو المصدر الأساس للأخلاق الحميدة. كما يتضح من ألفاظ الحديث: «بعثت لأتمم حسن الأخلاق» في الموطأ، وفي مسند أحمد «صالح الأخلاق»، وفي السنن الكبرى للبيهقي «مكارم الأخلاق».

وعرف الإمام الغزالي الخلق بقوله: «فالخُلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجه إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا، سميت تلك الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر عنها أفعالًا قبيحةً، سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا».

 وتأكيد هذا التعريف على خاصية الرسوخ والاستمرار في الخلق، وإرجاعه إلى صفة ثابتة في النفس، يعني زوال المشقة من فعله والاتصاف به، وهذا ما اتضح أكثر من قول الغزالي: «وانما قلنا إنها هيئة راسخة؛ لأن من يصدر منه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ، وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية؛ لأن من تكلف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم».

 وهذا الكلام يحصر الخلق فى ما استقر في النفس من الأوصاف وصدر عنها بعفوية أو قصد، سواء كان مصدره الفطرة أو الاكتساب، وتزداد هذه الحقيقة جلاء في التعريف الذي ساقه الدكتور محمد عبد الله دراز وهو أن: «كلمة (خلق أو أخلاقية) بالمعنى الصحيح تعني تلك القدرة الفطرية أو المكتسبة التي ينبثق عنها السلوك تلقائيا؛ وبعبارة أخرى، الخُلُق: هو الشكل الثابت لوجودنا الباطني، في مقابل الخَلْق وهو الشكل الظاهري الذي وهبه الله لكل مخلوق».

 أما في منظور المذاهب الوضعية، فنجد بُعد الفطرة حاضرا في النظريات الأخلاقية التي تكاد جميعها تتمحور حول مفهوم الواجب، الذي تقتضيه النفعية الفردية والمصلحة الاجتماعية، فضلا عن العمق الروحي الفطري.

 فهذا (فخته) يؤسس نظريته في الأخلاق على مبدأ الواجب؛ ويرى أن: «الفاعلية الأخلاقية هي التزام الإرادة الحرة بما هو مثالي، فالإرادة الصالحة هي الإرادة التي تصبو للغايات العليا، فالإنسان وهو يحقق لنفسه المزيد من الحرية، يستطيع أن يكرس نفسه أكثر لمثالياته الروحية ولمفهوم الواجب، فالوجود هو محاولة تحقيق هذا الواجب، فعلى الإنسان أن يعمل دوما بما يوافق فهمه الأمثل لواجبه ولضميره».

 وملاحظة خاصية الثبات في الأخلاق ويسر صدورها عن النفس المتصفة بها، أدى ببعض المفكرين الغربيين إلى القول بفطرية الأخلاق واستبعاد مسؤولية النفس عن اكتسابها وتغييرها، فهذا شوبنهور يقول: «هناك أناس طيبون وآخرون خبثاء، مثلما يوجد حملان ونمور، فالأولون يولدون بمشاعر إنسانية، والآخرون يولدون بمشاعر أنانية. وعلم الأخلاق يصف أخلاق الناس، مثلما يصف التاريخ الطبيعي خصائص الحيوانات».

 ويذهب (سبنوزا) إلى حد القول بأن الأعمال الإنسانية، شأن جميع ظواهر الكون، تنتج وتستنبط بنفس الضرورة المنطقية التي يستنتج بها من جوهر المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين».

 أما (كانط)، فإنه يؤكد أننا لو كنا نعرف جميع الظروف والسوابق، فإن أعمال الإنسان يمكن التنبؤ بها بنفس الدقة التي يحدد بها كسوف الشمس، وقد كان عليه لكي ينقذ الحرية ومعها المسؤولية أن يخرجهما كلية من مجال التجربة ومن عالم الظواهر.

 فهو يرى: «أن الأخلاق صفة تكوينها يجب العمل بها دون تفضل، وهذا ما يطلق عليه مفهوم الواجب، فإن عمل الخير عند (كانط)، واجبٌ على النفس وليس تفضّلًا منها، وعلى الإنسان أن يتسم بهذه الصفة كموضوع ذاتي يرافق النفس أينما حلت، وكما أن إدارة المنزل والتربية واجبة على الأبوين، فإن العمل الأخلاقي واجب على كل إنسان، لذا يرى (كانط) أن التفاخر بالعمل الأخلاقي ليس من الأخلاق. وقد لاقت هذه النظرية استخفافا من جانب الأطراف العلمانية، حيث اتهم البعض هذه النظرية بأنها مثالية النزعة، وتمثل الاتجاه الديني المسيحي في بعض جوانبه، ويرى آخرون استحالة تطبيق هذا المشروع النفسي لعدم اتفاقه مع الواقع الموضوعي، ما دامت النسبية تحيط بهذا الجانب».

 فنظرة هؤلاء إلى الأخلاق تحكمها حتمية صارمة، لا مجال فيها لحرية الإنسان ومسؤوليته عن اختيار أخلاقه أو تعديلها، في حين أن علم النفس المقارن يثبت على العكس أن الغرائز الإنسانية أقل صرامة، وأكثر قابلية للتغيير والتربية.

 ولقد تصدى الإمام الغزالي لمنكري تغيير الأخلاق فقال: «لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله ﷺ: «حسنوا أخلاقكم»، وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكنة إذ يُنقل البازيّ من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق.

 إن الإنسان مطالب بتنمية ما جبلت عليه نفسه من الخصال الحميدة، والأخلاق الفاضلة، ومسئوليته في الحفاظ عليها تعظم بقدر ما يتيسر له التخلق بها، كما أنه مطالب بمجاهدة نفسه لاكتساب ما ليست مجبولة عليه من الطباع الكريمة، والتخلي عما يكون ميلها إليه شديدا من الأخلاق الذميمة.

 فالتكليف يشمل الأخلاق الحسنة كلها سواء منها ما طبعت عليه النفس وقهرت على الاتصاف به، أو ما أمر به الشرع مما يشق عليها التحلي به ولا يصير لها خلقا إلا بعد طول مجاهدة. وهذا ما ذهب إليه الإمام الغزالي حيث قال: «إن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم، وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعا».

 إن اتصاف الإنسان بما جُبل عليه من الفضائل والمزايا، أيسر للنفس وأقرب إلى الكمال، كما أكد ذلك الإمام ابن قيم الجوزية بقوله: «فحياة من قد طبع على الحياء والعفة والجود والسخاء والمروءة والصدق والوفاء ونحوها، أتم من حياة من يقهر نفسه، ويغالب طبعه، حتى يكون كذلك».

 وهذا الكلام لا يعني أن من كان حاله كذلك أفضل درجة عند الله ممن اجتهد في تحسين أخلاقه وعانى مشقة التربية والاكتساب، وإنما يعني أن صدور الأخلاق عن توجه فطري في النفس يجعلها أكثر ثباتا، وأبعد عن النقصان والضعف المؤدي أحيانا إلى التراجع والانقطاع. ولهذا فإن من تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعا واعتيادا وتعلما فهو في غاية الفضيلة».

 فالنفس الإنسانية فطرها الله تعالى على حب الفضائل وبغض الرذائل، وجعل بعض الخلل الحميدة منطبعة في نفوس أكثر من أخرى، وذلك ما يجعل تحسين الأخلاق مجالا واسعا لمسئولية الإنسان، عن بناء نفسه وإصلاحها وتزكيتها.

ولقد تضافرت أدلة الشرع لتكوين هذا الشعور في النفس، وتنميته على الدوام. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 7-10)، وفي الحديث: «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه، يأمره وينهاه».

وما لم يكن إحساس الإنسان بمسئوليته عن أخلاقه وسلوكه قويا ومتزايدا، فإنه يعجز عن تغيير ما بنفسه من نقص واعوجاج، ويذهل عن معايبها المتراكمة وهفواتها المستحدثة. ومن هنا فليس غريبًا أن نجد بعض المذاهب الوضعية تربط الأخلاق بتقدير الواجب واستشعاره. فهذا العالم الاجتماعي (دوركايم) يعتبر فكرة الواجب أساس التربية الأخلاقية. أي أن يكون الفرد سيد نفسه يتصرف بتعقل؛ لأن العقل هو ارتقاء بالمعرفة، وضبط للحواس والغرائز؛ قصد الاقتراب من مبدئي الحق والواجب.

 ويرى (وليام كاي) أن الشخص الناضج أخلاقيا لا بد أن يتصف بصفات أربع، هي: الاستقلالية، والعقلانية، والإيثار، والشعور بالمسئولية. والسبب في وجوب هذه الصفات هو أن كل عمل يتم تحت الإكراه لا يسمى عملًا أخلاقيًا، وكل عمل مستقل يحتاج إلى أن يخضع لمتطلبات العقل، وطالما أن كل قرار أو عمل يؤثر في حياة الآخرين، فيجب أن يراعي سعادتهم ويؤثر نفعهم، وأخيرًا فكل قرار أو عمل أخلاقي لا يتصف بالاستقلالية والعقلانية والإيثار يظل عقيما واهنا حتى ينفذ ويمارس، ولذلك من الضروري أن يعمل على تنفيذه وممارسته، وذلك ما يحتاج إلى وعي وإرادة وشعور قوي بالمسئولية.

 ويتحدث علماء الأخلاق عن علاقة الأخلاق بالضمير، الذي يتولد عن وجود إحساس شخصي بالمسئولية في اختيار السلوك القويم. والشخصية الأخلاقية هي محصلة الكيفية التي تتكامل بها مكونات السلوك الأخلاقي الخمس في شخصية الإنسان وهذه المظاهر هي: مقاومة إغراء الخطيئة، ودرجة الشعور بالذنب، والإيثار، وبُعد النظر الأخلاقي، والاعتقاد الأخلاقي. ويعبر عن قوة هذه المظاهر أو ضعفها بـ (الضمير) فإذا ارتفعت درجة هذه المظاهر كان الضمير قويا، وإذا انخفضت درجة قوتها كان الضمير ضعيفا، وإذا لم تكن لها قوة على الإطلاق كان الضمير غائبا أو ميتا.

 فما لم تتطلع نفس الإنسان إلى اكتساب ما ليس فيها من الصفات الحميدة والتخلي عما فيها من الخصال الكريهة، وطلب كمالها البشري بمجاهدة النفس دوما على ذلك في خضم الحياة، وابتغاء مرضاة الله ونعيمه الأخروي، فإن ما توهب من السجايا الطيبة يظل محدودا لا يُرضي طموحها إلى الجمال الخلقي الذي هو غاية التدين، ومقصده الأسمى، على اعتبار أن المفهوم الواسع للأخلاق يستوعب تكاليف الدين كلها، سواء منها ما اتصل بعلاقة العبد مع الخالق أوعلاقته مع غيره من المخلوقات.

 ويعتبر الوحي المنزل المحدد الأساس للأخلاق المحمودة والمذمومة على السواء، والتي جاءت داعمة ومؤكدة للتوجهات الفطرية، المعترفة بالفضائل والمنكرة للرذائل، وحاضة على جميع الكمالات الخلقية، وشاجبة لكل القبائح السلوكية.

 

2- ماهية القيم

يمكن تحديد مفهوم القيم، اعتمادًا على تعاريف تكشف دور الذات في تقدير القيم عقًلا، والتعلق بها وجدانًا، وممارستها سلوكًا، مما تبرز معه مسؤولية النفس في تبني القيم واكتسابها وتمثلها.

 وتحيل كلمة valeur في أصل استعمالها باللغة الفرنسية على فكرة البسالة والقدرة البدنية، ففي اللاتينية تدل كلمة valere على قوي وصارم. ثم صار مدلولها بالقاموس الفرنسي؛ ما يمثل قيمة شخص أو قيمة شيء.

 وعرفت القيم بأنها عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد بالتفضيل أو عدمه على أشياء معينة، (وأنها تقدير نقوم به تجاه شخص أو نشاط حسب ما يمكن تحصيله منه، وتشكل مجموع القيم المعتمدة النظرة إلى العالم)، وهي معتقدات راسخة تملي على الإنسان سلوكا معينا في ظروف اجتماعية معينة، فهي تخلق السلوك وتوجهه في الاتجاه الذي يتوافق معها. إنها مجموعة من التنظيمات النفسية لأحكام فكرية وانفعالية تعمل بتوجيه الأفراد وإراداتهم لتحقيق غايات محددة.

ويرى بعض المفكرين مثل سبينوزا: «أننا لا نرغب في الأشياء لأنها جيدة، وإنما نعتبرها جيدة لأننا نرغب فيها! فالقيم بهذا المعنى هي مجرد صدى لرغباتنا الجماعية. لكن القيم الأخلاقية يمكن تصورها على أنها ابتكار من الفرد الحر، الذي يعبر عن نفسه ويخلق قيمًا بمحض التزامه الشخصي، والذي يأتي منتقدا ومغيرا للقيم السائدة في الفترة الراهنة».

 فثمة نزوع في النفس البشرية، يتجه بها إلى أن تكون هي المصدر الوحيد، أو الأهم للسلوك المقبول والمرفوض، سواء كان خلقا أو قانونا أو قيمة من القيم، ولقد سبق لمشركي قريش أن اعترضوا على ما عرفوه من الإسلام بقولهم

الذي أورده القرآن الكريم: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31).

فهم يريدون حقا أن يطابق أهواءهم ومقاييسهم، التي دأبوا على الاحتكام إليها فيما يستحسنون أو يستقبحون، ولا يأنسون في أنفسهم استعدادا لاعتماد مقاييس جديدة وتقويم مخالف للمألوف.

وأما القيم باعتبارها مضامين معنوية، تستقل بقيمتها الخلقية في ذاتها، بصرف النظر عن موقف الذات البشرية منها، قبولا أو رفضا تقديرا أو تبخيسا، فهي التي تستمد وجودها وقيمتها من الأديان السماوية، ومن الفطرة السليمة، التي لم تعكر صفوها متغيرات الكسب البشري.

ولهذا نجد القيم الأخلاقية عند المربين الغربيين أمرا يقرره المجتمع، على مقاييس لقبول السلوك أو عدم قبوله، وتتجسد هذه المقاييس فيما يسمى «القواعد الأخلاقية»، وهذا المفهوم للأخلاق يختلف عن نظيره في المنظور الإسلامي حيث يتقرر الخُلق من خلال قبوله عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين.

 ودائرة القيم تتسع لتشمل المعتقدات والعبادات والأخلاق، وبجانب ذلك ما تستحسنه النفس مما تظهر فائدته وتتأكد نفعيته، مثل قيمة النظافة التي تتجاوز حدود الطهارة في البدن والملبس والمكان، وتتخذ لها معايير أكثر دقة وتشددا. ومثل قيمة التنظيم التي تسري في شؤون الحياة الفردية والجماعية، فتتخذ صورا جمالية وإبداعية وسلوكية وقانونية عديدة ومتداخلة.

 

ثانيًا: مظاهر أزمة التربية على القيم

تتجسد أهم مظاهر أزمة التربية على القيم، في ضعف تمثلها على مستوى السلوك، سواء منها ما كان مصدره سماويا أو بشريا، حيث يسهل على كل إنسان أن يعشق العدل ويحب الصدق، ويقدر الإتقان ويقدس الحرية، ويجل جميع الفضائل ويبغض الرذائل، لاسيما وهو يتطلع إلى ما يناله من المنافع العظيمة للفضائل، عندما يمارسها الناس لصالحه، وما تصان عنه نفسه من الأضرار الأكيدة للرذائل التي قد يستهدف بها الآخرون ذاته.

 لكنه يخفق في تمثل القيم الفضلى، التي يتعلق بها حق الآخرين، وتدخل ضمن الواجبات المتعينة عليه، ويتغير موقفه من القيم المتدنية، إذا دفعته مكاسب معينة لاستحبابها ولو إلى حين.

وقد تكونت «نظرية الانفعال» على أساسها أن الإنسان حين يصف شيئا بالخير أو الصواب يقول أنا أشتهيه، لذلك فالأخلاق (حسب الفكر الوضعي) هي ما يشتهيه الإنسان. وهكذا فلا سبيل لإنتاج قيم أخلاقية وإثبات صحتها، ما دامت الرغبة أو عدمها هي ما يحدد القيم الصالحة أو السيئة، فالسرقة تصبح صالحة وحسنة حين يرغب الإنسان فيها، ولكنها تتحول إلى شريرة وقبيحة حين يكرهها.

 فعندما تتعلق السرقة بمال الآخرين ويكون المتوقع من ورائها تحقيق ثراء واسع وعاجل فهي مقبولة، وربما صارت قيمة محبوبة تحمل على تمثلها في هذا الوضع النفسي، ونسيان أو تجاهل ما كان يخصها به قبل من الاستقباح والشجب. لكن إذا صار هو ضحية للسرقة، ونزع جراءها منه جزء من ممتلكاته، فإن بغضه لها في أية صورة حصلت وتحت أية ذريعة كانت سيبلغ منتهاه.

 ومعلوم أن الإنسان قد تمر به لحظة ضعف، فيتخلى عن التزام خلق كريم أو تمثل قيمة سامية، فينحدر إلى سلوك مناقض لهما، فإذا انتابه وخز الضمير وألم به الندم، ثم صمم ألا يعاود نفس الفعل في المستقبل، لم يسغ إخراجه عن سلك المتخلقين بذلك الخلق، أو المتمثلين لتلك القيمة، ما دامت حالات التحلي غالبة وحالات التخلي نادرة، وآلت إلى تأكيد التشبث والاستمساك النهائي بها.

 فالقيم الناشئة في ظل استحكام الأنانية، وإيثار المصالح الشخصية والطائفية فوق كل اعتبار، يجعلها غير ثابتة ودائرة مع النزوات المندفعة حيث دارت. وذلك ما أصبح يشكل السبب الرئيسي في الأزمة الأخلاقية والقيمية في العالم المعاصر.

وغدا هذا الاتجاه في التعامل مع القيم الأخلاقية في مستويات الفعل البشري التالية:

1- على المستوى الشخصي

صار تبني الأخلاق وتقديس القيم ادعاء قل أن يسنده تطبيق، وإنما يراد من ورائه التوافق مع المعايير الأخلاقية السائدة في الثقافة المهيمنة داخل المجتمع بعناء أقل، حيث يتربى الطفل منذ الصبا على مراعاة القيم التي يتبناها الآخرون خارج ذاته، وليس القيم التي يحبها ويتفاعل معها بتلقائية.

 

2- على مستوى المجتمع

يسود المجتمع الإسلامي الحالي تمجيد واسع للقيم الأخلاقية، مثل قيم التعاون، التكافل، الصدق، التناصح، العدل، المساواة، الأخوة، التضحية.. وتتعدد المنابر الداعية لتفعيلها في الحياة العامة، في مجالات السياسية والاقتصاد، والإعلام والتربية والثقافة، بدءا من منابر الجمعة، وانتهاء بالأحزاب السياسية والمنظمات المدنية، فتصبح الصورة المرسومة في الواقع، هي كون الكل يدعو الكل لالتزام هذه القيم، ويصر على أنها أساس النهضة والإصلاح، ومفتاح الرقي والازدهار، لكن يكاد الجميع يغفلون كونهم أصبحوا من منطلق انخراطهم في هذه التعبئة، معنيين في المقام الأول بالتطبيق العملي لتلك القيم، وبقدر زائد من المسؤولية التي حملتهم على دعوة الآخرين، والذين يوجدون بداهة وحتما في مقدمتهم.

فثمة، إذن، خطر كبير، أن تستحيل القيم في نظر النشء، الذي يعيش في أحضان مجتمع هذه واقعيته القيمية والأخلاقية، إلى مجرد مشاعر وجدانية، وأماني قلبية، وصور خيالية ليس إلا، فيتعذر جني نتائجها السلوكية، التي هي المرتكز الأخلاقي لقيمتها النفعية الحقيقية، والحافز الأساس لمحاولات إدماجها في بناء الإنسان، وإقامة المجتمع الفاضل.

وفي هذا الصدد يرى الدكتور ماجد عرسان الكيلاني بأن القرن القادم سوف يشهد اختفاء ثقافات وذوبان مجتمعات من خلال الانصهار والتحليل والتركيب الجارية في ميدان القيم. والمجتمعات التي تتحمل فيها نظم التربية ومؤسسات التوجيه مسؤوليتها إزاء الزلازل الجارية في ميدان القيم سوف تواكب مجرى الحضارة المستقبلية وسوف تسهم في تحسين كيان الإنسان ونقله من التخلف على الرقي. أما المجتمعات التي تترك للاضطراب القائم في ميدان القيم ليسخرها دون أن تسخره، وليتحكم باتجاهاتها دون أن تتحكم به، أو تكتفي بالسلبية والآبائية فسوف ينتهي بها هذا الاضطراب إلى إحدى مصيرين: إما الارتداد إلى عصر الكهوف وحياة الغابة، وإما الذوبان في بوتقة التفاعل الجاري بين القيم العالمية المختلفة.

 

3- على مستوى الحضارة المعاصرة

تتميز الحضارة المعاصرة بجنوحها المفرط نحو المنهج المادي، الذي من مهامه المعلومة إقصاء دور الدين كلية، عن مواقع التوجيه والتأثير في تدبير شؤون المجتمع، وحصره في الحيز الشخصي للفرد، والعمل على بلورة قيم وأخلاق، في حدود النظر العقلي وإمكانياته، وحاجات الجسد وإشباعاته.

وهذا ما جعل التربية الحديثة تبدو قاصرة في ميادين الاعتقاد والتصور للوجود، فهي قد أدت إلى ضياع الإيمان، ولم تمد الإنسان بمعنى للحياة ومسارها، ولم تمد الإنسان بهويته الحقيقية؛ مما أفرز مضاعفات الاغتراب والقلق والتفكك.

 فكان من أبرز نتائج هذا المنهج، انتقاص العلم لقيمة الإنسان وقدره، حيث صار موضوعا للبحث والدراسة النظرية والمخبرية، التي لا تكاد تميزه عن باقي الأحياء إلا بناء على معايير مادية، تنزل به عن حقيقة كونه تركيب بديع من مادة طينية ونفخة روحية علوية.

وهكذا انتهت الفلسفة المادية بالإنسان إلى تصور وضيع يلصقه بالتراب، ولا يسمح له أن يحلق في العلياء بعيدا عن أجواء المادية الخانقة. ولما هان قدر الإنسان في نفسه، مع اعتبار ما له من دور فعال في تسخير إمكانيات الأرض، عن طريق المنهج العقلاني والتجريبي، فإن قيمة القيم التي يمكنه أن يرتضيها تظل ضئيلة، وحبيسة المنافع المادية المعدودة والمحدودة.

فالبعد الوحيد للقيم المعاصرة في هذا المنظور، هو قيمتها المادية الباعثة على وجودها وتقديرها، فإذا تخلفت أو تعثرت أو استحالت لسبب من الأسباب الموضوعية أو الذاتية، انتكست تبعا لذلك، القيم المعنية وتراجعت فعاليتها على المستويين الوجداني والسلوكي.

وهذا ما يسلط بعض الأضواء الكاشفة على أصول أزمة القيم العالمية، حين نعاين إمعان دوسها من قبل الأقوياء غير الأمناء، بإصرار ودون إسرار، تحكيما لمصالحهم المادية دون اكتراث بمشروعيتها، والتي أضحت القيمة الحاكمة الوحيدة على جميع القيم الأخرى، والتعامي عن أي شجب أو استنكار، وإن ترددت أصداؤه في أنحاء المعمور، «وهكذا تعرضت مجتمعات محافظة، تجل العفة والطهارة والنزاهة، إلى تسرب مظاهر الإباحية والتبذل وحتى الإثراء غيرالمشروع إلى نمط الحياة فيها، أما شيوع ثقافة العنف بين أهل القرار في الدول الأغنى والأقوى، فقد آل إلى استباحة قيم وطنية وقومية تتمسك بها دول أضعف وأقل يسرا، فأضحت السياسة الغالبة على الساحة الدولية أشبه بشريعة الغابة، حيث الحق للقوة ولا قوة للحق».

 أما القيم الإسلامية فتتحدد قيمتها بثباتها في وجه متغيرات الزمان والمكان والأشخاص، وكل الاعتبارات المفترضة مهما كانت الخسارة المادية، التي قد تعلي كلفة الاستمساك بها. فلا يوجد مسوغ للعدول عن إقامة العدل، والركون للظلم تحت أية ذريعة من الذرائع، والاتجاه الوحيد المسموح به هو الانتقال منه إلى الإحسان، عندما يعفو صاحب الحق المظلوم، ويتنازل عن الاقتصاص من الذي سلبه حقه واعتدى وبغى.

 كما أن كرامة آدمي واحد لا يسمح بانتهاكها، مهما عظمت المكاسب المادية الحاملة على ذلك، فالقرآن الكريم عد قاتل النفس بغير حق، كمن قتل الناس جميعا ومحييها كمن أحيا الناس جميعا. وحرم نقض العهود مهما كان الثمن بين المسلمين ومع غيرهم من المشركين وأهل الكتاب، كما أن اندراج القيم الأخلاقية الإسلامية الأساسية في دائرة الواجبات الإلهية، يدخلها في، صميم المسؤولية الإنسانية، فيكون الباعث على صيانتها ابتداء هو السعي لنيل رضى الله تعالى، والخوف من حسابه وعقابه، فتتحرر القيم الحضارية وثقافة العنف.

فقيمة «العفو عند المقدرة» تجسد بوضوح رجحان الجانب العفوي على الجانب المادي في القيم الإسلامية يسبب استحضار الجزاء الآخروي والإيقان بتحققه. كما أن القيمة المعنوية تظل حاظية بالاعتبار الأول أمام أية قيمة مادية أخرى، النفس من ضغوطات الإغراءات المادية ومحدوديتها، وتتقوى قدرتها على الالتزام بها في جميع الظروف والأحوال، ومهما كبرت الصعاب وزادت المعاناة، فتتعزز بشكل جلي فعاليتها في توجيه السلوك، نحو الارتقاء في درجات الفضائل والمكارم، والتسامي عن الدنايا والقبائح، وإعلاء قدر المسؤولية الإنسانية.

 

ثالثا: فعالية التربية على القيم والأخلاق

يتبين مما تقدم، أن ضمان فعالية التربية على القيم والأخلاق، يتأسس ضرورة على استثارة حس المسؤولية الإنسانية، والعمل باستمرار على تنميته وتعهده، باعتباره المحرك الأقوى لنشأة الأفعال، وتثبيت الإرادة وتسديد السلوك، ومقاومة الهوى والوهن، وإعلاء الهمة وتصويب الاختيار.

ويمكن اعتماد منهجية واضحة لتوظيف المسؤولية من منطلق الإيمان بالله واليوم الآخر أو من منطلقات أخرى.

مع تقرير أن المنطلق الإيماني أكثر قدرة على بناء الالتزام الأخلاقي والقيمي، والحيلولة دون ما يتهدده من شهوات وإغراءات مادية.

1- المسئولية أساس الإلزام الأخلاقى والقيمي

 تتجه جل النظريات الأخلاقية، إلى ربط الفعل الأخلاقي بمفهوم الواجب، وربط مفهوم القيم بحرية الذات في التقبل والتقدير، كما يظهر ذلك جليا من التعاريف المقدمة سابقًا ضمن هذه الدراسة، وهو ما يفرض على المربين تعليم الأخلاق والقيم، على أساس أنها مسؤولية فردية وجماعية، لبناء الذات السوية والمشاركة الإيجابية في بناء المجتمع الفاضل.

 كما أن مصدر السلوك البشري، ينحصر في فعل يجلب المنافع، وفي ترك يتقي المضار، فكل خلق رفع ينطوي على منافع معلومة، تسدى للآخرين الذين يتعامل معهم الفرد، فيحصلون تلك المنافع مباشرة من خلال السلوك الأخلاقي والقيمي، ما بين منفعة نفسية معنوية أو منفعة مادية أوهما معا.

ويكون على الممارس للخلق، تحمل المعاناة في مجاهدة النفس، لتتعب وتصبر، وتحلم وتصدق وتبذل؛ لينال المتعاملين معها ما يدخل البهجة في قلويهم، ويجعلهم موضع حب وتقدير واهتمام. فتكون المنفعة المحصلة من طرف المتخلق واحدة أو أكثر مما يلي: ارتياح الضمير بأداء الواجب، والسعي في تخليق المعاملات، المتعة النفسية بجمالية الفعل الممارس وإيجابيته، ادخار الأجر عند الله والاستبشار برضاه، توقع رد الجميل والمعاملة بالمثل أو أحسن منه.

 فكل هذه المنافع التي تحفز على السلوك الأخلاقي، يكون نفعها المادي والمعنوي متحققا للآخر الذي يعاملبه، وفي المقابل يكون انتفاع الممارس، الذي يصدر عنه الفعل الأخلاقي متوقعا، ومعنويا في الغالب وغير مباشر، مما يحوج المبادرة بالتصرف الأخلاقي إلى إحساس عميق بالمسؤولية تجاه الله أو الضمير أو المجتمع.

 فوضعيات السلوك الأخلاقي تتطلب التعبئة الدائمة، لإسداء الخير والنفع للناس في صوره المعنوية والمادية، بحسب ما تسمح به الطاقة الروحية الوافرة بلا حدود، والإمكانات المادية المتوفرة في حدود، يشهد على ذلك قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، في وصيته: «لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق».

 فطبيعة السلوك الأخلاقي القائم على جود النفس بالمكارم، وسخاء اليد بالعطاء، وكف الأذى عن الخلق، وكبح الشهوات ومدافعة الإغراءات الدنيئة، تجعل المعاملة الأخلاقية أدق المعايير لتقويم الأشخاص ووزن أقدارهم، والتعرف على مكنونات أنفسهم وخباياها.

 ففي منظور الأخلاق الإسلامية، لا يمكن أن تحسن أخلاق المرء إلا إذا تزكت نفسه، وتطورت من العيوب، واستقر فيها خوف الله وحسابه وعقابه، ولازمت مراقبته في السر والعلن، وبلغ استشعاره للمسؤولية عن سلوكه أعلى الدرجات.

 وفي الفكر الوضعي تحسن الأخلاق، بحسب تمكن الاعتقاد في النفس بأن الإخلال بها والتهاون في شأنها، ينعكس على حياة الناس بالضرر المحقق حين تسوء بينهم المعاملات، ويشيع فيها الغش والكذب والاستهتار بالواجبات، فيلقى الجميع جراء كل ذلك التعاسة والشقاء، وتتعثر المصالح وتتعرقل التنمية، وتتفشى الجرائم وانتهاكات الأعراف والأنظمة القانونية.

 يمكننا إذن استخلاص أن إحكام ربط التربية على الأخلاق، والقيم بالتربية على المسؤولية خطة حاسمة في بناء نهج أخلاقي ناجح وفعال.

 

2- مقترحات لبناء منظومة القيم

 ارتبطت دراسة القيم بترتيبها وتصنيفها داخل مجموعة متجانسة، تسمى منظومة قيمية، أو نسقا قيميا، أو سلما قيميا، وتتبع في بناء المنظومات القيمية الإجراءات التالية:

    أ- تحديد شبكة القيم المستجيبة لاحتياجات المجتمع

 تقتضي عملية إعداد مناهج التربية على القيم، الانطلاق من تحديد علمي دقيق للقيم، التي بات المجتمع يشكو ضعفها واختلالها أو فقدانها، فهذه الخطوة تعد أساسية في كل محاولة لتجديد القيم الموجودة وتفعيلها، واستحداث قيم جديدة واستدماجها في النسيج القيمي للمجتمع.

 فمثلا المجتمع الذي يعاني تدنيا بارزا في قيام الأفراد بواجباتهم، مقابل ارتفاع متزايد في المطالبة بالحقوق، يحتاج إلى خطة للتربية على القيم تكون متمحورة حول اكتساب وتمجيد قيم عامة إيجابية مثل: الواجب، المسؤولية، العدل، التضحية، الإخلاص، الصدق، الوفاء.. والتخلي عن قيم سلبية عامة مثل الأنانية، الغش، الخيانة، التواكلية، الخذلان، الانتهازية.

 إن ثمة قيما خاصة بحسب الوضعيات المجتمعية الواقعية، يمكن أن تشكل أرضية صلبة لكل تحول قيمي، يروم انتشال المجتمع من أزماته التي يتخبظ فيها، والتي ترتبط، لا محالة، بالقيم السائدة. واستنادا لوجهة هذه القيم، يمكن جرد غيرها التي تتواشج معها، وإعداد لائحة القيم المنظومية الجامعة.

 وتعتمد في هذا الصدد استبيانات تفي بهذا الغرض، ويسترشد بدراسات سابقة وحديثة في مجال التربية القيمية والأزمة الأخلاقية الراهنة، وتستخلص منها شبكة للقيم التي يعرف استلهامها وتمثلها على مستوى السلوك تخلخلا واضحا. وتختزل قيم الشبكة في قيم مركزية اثنتين أو ثلاثة، والتي تكون مجموعة من القيم مرتبطة معها بوجه أو بآخر.. فكلما كانت القيم المجتمعية قابلة للتركيز في قيمة واحدة، ازدادت قدرتها على تعبئة النفس للعمل على تجسيدها في الواقع، وتحقيقها عبر الالتزام السلوكي بالمنظومة في جميع عناصرها ومكوناتها المختلفة، حيث إن تركزها في قيمة جامعة يجعل النفس تستوعبها بسرعة، وتستلهمها في كل حين، وتتحسس كل ما يتصل بها من الأفعال والأقوال والوجدانات، فيسهل الاحتكام إلى روحها، وتمثلها في السلوك، وانضباط النفس بهديها وتوجيهها. ويصبح أفراد المجتمع على تفاوت مداركهم وتعدد طبقاتهم، قادرين على استيعاب منظومة القيم، والانفعال بها والسير على نهجها في دروب الحياة. كما يتيسر على مختلف الفاعلين الاجتماعيين العمل على بلورة معطياتها في مشاريعهم الفكرية والسياسية والتربوية والفنية والثقافية.

فبالنسبة للمثال السابق، تعد المسؤولية والواجب والتضحية، قيما مركزية تندرج تحتها عدة قيم وتتفرع عنها، ويمكن تسميتها قيما فرعية مثل الحرية، الإتقان، الإخلاص، الوفاء، الصدق، نكران الذات.

 

ب- تحديد النسق القيمي لمنظومة القيم

 عُرِّف النسق بكونه: (إطارٌ عام مكون من مجموعة من العناصر المترابطة التي تتفاعل وفقا لإجراءات معينة، لتحقيق وظيفة أو وظائف مفيدة) وعُرف النسق القيمي بأنه: (مجموعة من القيم المستهدف إكسابها للطلاب عقليا ووجدانيا، خلال مرحلة تاريخية معينة، والتي يتم تنسيقها وتناولها وفق أهميتها وأولوياتها بالنسبة للمجتمع وحاجة أفراده إليها).

 وتتوزع القيم بطبيعتها بحسب أنساق قيمية معلومة، بحيث تخضع كل مجموعة منها إلى اتجاه واحد يشكل نسقها الخاص، الذي يميزها عن غيرها من مجموعات القيم الأخرى، فقيم الخير متميزة عن قيم الشر؛ فالأولى يطبعها اتجاه نسقي معروف، يتجسد فيما يجلب للآخرين وللنفس تبعا لذلك من اللذة والمصالح والمنافع المشروعة، في حين تكون الثانية اتجاها معاكسا تماما، ينتج عنه الألم والأضرار والمفاسد للغير وللنفس أحيانا، فالخير كالشر لا يمكن أن ينحصر في قيمة واحدة، وإنما تضم منظومة كل منهما قيما عديدة، يمثل الخير أو الشر نسقها العام واتجاهها الواضح.

 فالقيم المتقاربة تتحد فيما بينها، لتشكل منظومة متماسكة كالبنيان يشد بعضها بعضا، ويقوي اكتساب الواحدة منها غيرها من باقي القيم.

يرى محمد الدريج أن قيمة العلم إذا صارت مسيطرة لدى شخص وتغلغلت في وجدانه العميق، فإنها يمكن أن تنحل إلى مجموعة من الاتجاهات والميول السلبية والإيجابية، فيصبح شغوفا بالعلم دراسة ومنهاجا، ومبغضا للجهل والجهلاء، وقد تحتل هذه القيمة الصدارة وتطغى على بقية القيم الأخرى التي يحتضنها الفرد، وفي هذه الحالة، تصبح مؤثرا قويا في سلوكه، وموجها لاختياراته مستقبلا.

فقاعدة تأثير منظومة القيم الأخلاقية، تقضي بأن الخلق الحسن يقود ويسلم للتخلق بخلق حسن مثله أو أحسن منه، والخلق القبيح يوحي ويكسب النفس الجرأة على الاتصاف بخلق قبيح مثله أو أشد قبحا منه.

 

ج- اختيار القيمة الأساسية الممثلة لنظومة القيم

تختلف القيم من حيث طبيعتها اختلافا كبيرا كما تقدم، فمنها القيم الأساسية أو الأصلية، التي ترتبط معها في اتجاهها النسقي الخاص بها عدة قيم مركزية أخرى، مما يؤهل بعض هذه القيم الأساسية لتكون ممثلة وحدها أو مع غيرها للاتجاه النسقي العام للمنظومة الواحدة وأحيانا لعدة منظومات.

ويمكن تحديد القيمة المؤهلة لشغل الصفة التمثيلية للنسق القيمي لمنظومة معينة، عن طريق إخضاعها لاختباردقيق، وذلك باستقراء مدى استيعابها لجميع قيم المنظومة، ومدى وجود علاقة بينها وبين كل قيمة داخل المنظومة، ومدى قدرتها على تأطير عملية التربية عليها، وضمان تعبئة مجتمعية شاملة، ومحققة لترسيخ الأخلاق والقيم المنشودة.

 ونمثل لذلك بقيمة العدل في نظرية النمو العقلي في السلوك الأخلاقي وصاحبها هو (بياجيه)، وترى هذه النظرية بأن أخلاق الفرد تمر بمستويات ومراحل لتبلغ حالة التكيف طبقا لمبادئ الضمير الكلية والثابتة، وفيها يتحرر الفرد من جميع الاعتبارات التي تفرضها الأعراف والمقاييس والعقد الاجتماعي، وينطلق من الحقيقة التي يؤمن بها وهي (العدل). فالانطلاق من مبدأ العدل في السلوك هو قمة النضج الأخلاقي.

وقد اتبع هذا المنهج في بناء منظومة القيم قبل ست سنوات؛ ففي بريطانيا يقدم D.Beckham سنة 2004 محاولة لرسم خريطة للقيم الأخلاقية في بريطانيا Britain's Moral Values Mapping مستندا في ذلك على قيمة الأمانة، كقيمة محورية في مجال التنمية الخلقية، وأن الأخلاق تدعمها القاعدة الذهبية (تعامل مع الآخرين بما ترغب أن يتعاملوا به معك)، فهذه القاعدة الأخلاقية تؤدي وظيفة الاتجاه القيمي للمنظومة، الذي يجعل الإنسان ملتزما بقيم الشرف والنزاهة والموضوعية والحب وكل المعاملات الرفيعة، التي يرغب أن يعامله بها غيره، والذي يجسد هذا الاتجاه النسقي القيمي هو قيمة الأمانة؛ إذ بدونها سيسمح لنفسه بخرق تلك القاعدة، إذا وجد ما يغريه بذلك، وربما تعلقت نفسه بشيء دنيء، ويرغب أن يعامل به الناس ويعاملوه به.

 لكن الناس ليسوا كلهم مستعدين لممارسة ذلك الخلق، وهنا تتدخل (الأمانة) لتحسم الوجهة الأخلاقية وتصون القيم، فمحوريتها تخول لها أن تدعم احترام أي خلق وأية قيمة، وتمنع التأويلات والتبريرات للخروج عن القاعدة، التي ترسم أمام الإنسان الاتجاه الذي يلزم أن تولي شطره جميع الممارسات القيمية. فهذه القيمة المحورية الشاملة والتي هي الأمانة، تمتلك خاصية ضبط النسق حتى لا ينحرف عن مساره الصحيح، فضلا عن كونها تعطي لأية قيمة وزنها الحقيقي وفاعليتها التربوية.

 

د- اختبار مدى ملائمة المنظومة القيمية لتأطير حركة المجتمع

 إن المنظومة القيمية القادرة على امتلاك الفعالية القصوى، في الإقناع والتوجيه السلوكي داخل المجتمع، هي التي يجب أن تتعبأ لترسيخها قطاعات التربية والإعلام والثقافة وغيرها من القطاعات.

 إذ كثيرا ما تسند مهمة المحافظة على قيم المجتمع، إلى قطاع التربية والتعليم وحده، في حين لا يؤازره في هذه المهمة العسيرة قطاعا الإعلام والثقافة، اللذين قد يضطلعان بترويج قيم غير منسجمة مع القيم المدرسية، وقد تكون مناقضة لها تماما، فيبادر مسؤولون في هذه المجالات لاختيار نسق قيمي عن وعي وإصرار، يهدفون من ورائه الحد من تأثير النسق القيمي، الذي تتوجه به سياسة قطاع مجتمعي آخر.

 فهذا القطاع ينخرط في دعم قيم الهوية، وآخر ينخرط في إشاعة القيم الغريبة عن المقومات الحضارية والمصادمة لها، وهو ما يكاد يكون سمة ملازمة لمعظم دول العالم الثالث، التي تعيش على وقع فصام نكد بين قيم الأصالة وقيم الحداثة، وتعجز عن الجمع بين الاثنين ضمن نسق قيمي وسطي واحد يأخذ من كل نوع أحسن ما فيه.

وقد توجد ظاهرة الانقسام والاحتراب القيمي الأخلاقي داخل القطاع الواحد، فتجد مناهج مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ والجغرافية، تستهدف تثبيت قيم أصيلة في الغالب، لكن مواد اللغات الأجنبية والفلسفة والعلوم، قد تروم غرس قيم حديثة مشاغبة إلى حد ما على القيم الأصيلة، بل قد تستقل كل مادة دراسية بقيم محددة، تحاول التبشير بها وتكريسها من خلال مناهجها وموضوعاتها، مما يعمق أزمة غياب الاتجاه النسقي القيمي العام، الذي تغدو مجهودات التربية على القيم من دونه عبثا ومضيعة للوقت.

وفي المجال الإعلامي، الذي صار اليوم عِصيا على الضبط والتحكم، نتيجة اتساع نطاق البث الإذاعي والتلفزي الوافد من وراء الحدود، والمحمل بقيم مخالفة من كل حدب وصوب، يتعرض المشاهد إلى غزو شرس، قد يقوض منظومته القيمية، إذا لم يكن الإعلام الوطني في مستوى التحدي، وقادرا على الاستمرار في تعزيز القيم المحلية، والحفاظ على ما تكنه لها النفوس من ولاء وتقدير.

 إن مهمة الإعلام الوطني في هذا العصر، تقتضي أن يستحضر بوعي ما يتعرض له المواطنون وفئة الشباب خاصة، من هجمة قيمية كاسحة عبر الفضائيات والإنترنت، والتي تدفع به في مسار التخلي عن قيمه الأصلية وإحلال قيم وافدة محلها، متوسلة بكل الإمكانيات الهائلة لتكنولوجيا التواصل. فتتجه خططه لإعداد برامج تفاعلية تكشف الأبعاد الإيجابية والسلبية للقيم الداخلية والخارجية، وتعزز مسؤولية الفرد في الانتقاء المستبصر لأفضلها وأنسبها.

ويتم ذلك عن طريق تسليط الضوء على إمكانيات المنظومة، لتوجيه الشباب وزيادة استعداده لتمثل القيم، والتمكين لنسقها القيمي، والقيمة المجسدة له، حتى يستلهموها في استيعاب وممارسة جميع قيم المنظومة، وبأعلى درجات الفعالية المتاحة.

 فالتربية الأخلاقية الفعالة تبدأ من الخبرات الواقعية للطفل ورغباته ومشكلاته في البيت والمدرسة والمجتمع، كذلك يمكن توظيف القصة وأخبار الصديقين والصالحين وتقديم خبرات مخترعة ومواقف أخلاقية، وعرض هذه الأنواع من الخبرات من خلال أجهزة الإعلام ووسائل التكنولوجيا لمعالجة قضايا الصراع بين الصواب والخطأ، والفضيلة والرذيلة، ومناقشة ذلك كله بانفتاح واقتناع للخروج بمبادئ أخلاقية محددة وتدعيم اتجاهات اخلاقيةمقصودة.

 ويعتبر الحقل الثقافي أيضا، مجالا لاختبار مدى قدرة المنظومة القيمية المعتمدة، للإسهام من خلاله في الحفاظ على القيم الحضارية للمجتمع، وضبط انفتاحه على القيم العالمية، لتتلاءم مع ثوابته الثقافية، وتتجاوب مع تطلعاته الإنمائية في شتى مجالات الحياة، إذ تتطلع الثقافة دائما لاستقبال الجديد، وهي تحاول أن تطور نفسها، وتواكب ما يستجد في عالم الفكر والإبداع والتجربة الإنسانية، ولا تخلو هذه الحركية الثقافية الدائبة، من مخاطر الانزلاق والانحراف عن إطار المنظومة القيمية، الموجهة لعملية التفاعل الثقافي الداخلي والخارجي على السواء.

 وقد أصبحت مهمة تطوير الثقافة وانفتاحها على بيئتها الجغرافية والكونية، يستهوي مغامرين لم يتشبعوا بقيمها المعتبرة من قبل الغالبية، فيندفعون إلى زعزعة منظومة القيم مستغلين ما تخوله لهم قيم عالمية كحرية الفكر والاعتقاد والتعبير والا بداع.

 وهذه الظاهرة هي المحك الحقيقي، الذي يؤكد قوة المنظومة القيمية، وقدرتها على الصمود في وجه القيم والاتجاهات المخالفة، بل وقدرتها على استيعابها وتوظيفها في اتجاه إثبات جدارتها بالبقاء والتقدير والاحترام، من لدن أفراد المجتمع على تباين منازعهم الفكرية والأيديولوجية.

وما يثير الاستغراب حقا، هو ألا ينظر الفاعلون المجتمعيون إلى هذا الوضع، على أنه حالة اختلال في حركة المجتمع، تعيقه عن امتلاك وحدة الوجهة والتجانس الأخلاقي الضروري في عملية التنشئة التربوية والاجتماعية، ورص الصفوف لخوض معركة البناء والنماء.

فربما اعتبر بعضهم هذا الواقع اختيارا مقصودا، غايته إحداث التفاعل بين الأصيل والدخيل، وإغناء مجال الرؤية، والتحرر من حالة التنميط الأخلاقي والقيمي، المفضية إلى حالة من الشلل الفكري والجمود السلوكي.

لكن توحيد النسق القيمي، لا يمنع أبدا تعدد الرؤى، وتنوع المواقف والآراء والسلوك، بل إنه بجانب تحقيقه ذلك، ضمن إطار عام وطاقة دافعة في اتجاه واحد، يحقق أيضا قوة التماسك الفكري والأخلاقي، وتواصل التلاحم والانسجام في حركية المجتمع.

 

 

3- الإجراءت المنهجية لتعليم القيم

 إن الطرق التلقينية التقليدية المقتصرة على عرض القيم، وسرد محاسنها ومنافعها، وحفظ ذلك عن ظهر قلب، وإن عُدت خطوة انطلاق ضرورية، فإنها غير كافية لاكتسابها والاعتزاز بها، والتوجه على ضوئها في معترك الحياة ولجج مغرياتها.

وتخضع هذه الإجراء ات المنهجية إلى المعايير البيداغوجية للأنشطة التعلمية، التي تحاول وضع المتعلم في موقع الفعل والمبادرة، وبناء المواقف الفكرية والوجدانية من المحتوى القيمي والمعرفي للدرس، وهذه الطريقة هي الأكثر ملاءمة لتعليم القيم وترسيخها، من حيث إنها تشغل الذهن والوجدان، وتجعلهما في أعلى درجات التفاعل مع المضمون القيمي المتناول، فتنخرط فيها ذات بكليتها، وتنفتح منافذ النفس للتشبع بتلك القيم وحبها وتبجيلها.

 

وفيما يلي الخطوات الإجرائية المقترحة لدرس القيم:

أ. المدخل الإشكالي

إن إثارة إشكالية معينة، من شأنها أن تستفز عقل المتعلم، وتجعله يستشعر الحاجة الملحة لرفع الإشكال الذي طرح، واكتساب المزيد من المعلومات المفيدة حول القضية المثارة والقيمة المستهدفة. وهذا أسلوب تربوي عام متبع في الدروس النظرية والعملية.

ويمكن أن يكون مثار الإشكالية نصا شرعيا أو قصة، أو مضمونا نثريا أو شعريا حول القيمة موضوع الدرس، أو سلوكا شائعا أو عادة متبعة، ويكون هذا المحتوى بمثابة أرضية معرفية، للاشتغال عليها في إنجاز الأنشطة التعلمية جزئيا أو كليا.

 

ب. تحديد قيمة القيمة

تم الاعتماد جزئيا في تحرير هذه الفقرة على بحث (موقع منظومة القيم في بناء نظام تربوي أصيل) الذي شارك به الكاتب لصالح مشروع إحياء نظام تربوي أصيل بدولة قطر.

 يعتبر التعريف بقيمة القيمة، ومسوغات اعتمادها في بناء توجهات المتعلم، خطوة الانطلاق نحو تقديرها والتعلق القلبي بها، الذي لا مناص من تحققه، قبل الانتقال إلى الخطوات الموالية. وتحتاج هذه المرحلة من تعلم القيم، طرائق وكيفيات خاصة تضمن إنجازها بنجاح.

 ففي النشاط الخاص بتحديد مكانة القيمة في الإسلام، يطلب من المتعلم التعليق على ما يعرض أمامه في جدول من النصوص الشرعية والأقوال المعتبرة التي تطرقت لإبراز أهميتها في سلوك المسلم، وما يترتب عليها من أجر أو وزر، وما يتبع ذلك من ثواب أو عقاب.

ويتجه في هذا النشاط إلى تحديد مزايا ومنافع القيمة، ومساوئ ومضار الخلق المضاد لها، على مستوى السلوك الفردي والسلوك الجماعي، توظف فيه جميع الوثائق المفيدة والمتوفرة من تقارير تتبعية، وإحصائيات وصور ومستندات، ويستعان بوسائل العرض المتاحة لاستعراض المشاهد والصور والمبيانات المتعلقة بالموضوع.

 ويستهدف هذا النشاط من جهة أخرى، تمكين المتعلم من اكتشاف فوائد تمثل القيمة في الحياة الشخصية والاجتماعية، والوقوف على أضرار الخلق المناقض لها، حتى يتفاعل فكريا ووجدانيا معها.

 ومعلوم أنه يمكن دراسة قيمة ما، انطلاقا من الصفة السلبية المضادة لها، كدراسة قيمة الأمانة عن طريق خلق الخيانة، وقيمة الاجتهاد في العمل عن طريق الكسل. ولقد سلك القرآن والسنة هذا النهج في تثبيت القيم الإسلامية، فيصف العمل الصالح بما يزينه في القلب ويدعو لحبه وتقديره، ويذكر العمل السيئ بما ينفر منه النفس ويبعث على بغضها له.

 

ج. التعبير الكتابي

دأبت الدروس المدرسية في مجال القيم أن تقدمها للمتعلم متفرقة، لا يربط بينها رابط سوى اشتراكها في اسم القيم، مما يؤدي إلى تشتت اهتمام المتعلم بها، وينعكس على جميعها بضعف تشع النفس بها، واستثقال العمل بهديها في الحياة.

لذا تعد أنشطة تعلمية لبيان أهمية النسق القيمي والقيمة الأساسية المجسدة له، في تكريس وحدة قيم المنظومة، وتمكين المتعلم من الاقتناع بترسيخها جميعا، من خلال تمثل وممارسة أية قيمة من المنظومة، وهوما يعد أساسا لفعالية منهجية التربية على القيم.

ويمكن أن تكون الأنشطة في هذا الصدد على ضربين:

 أولهما: يطلب من المتعلم أن يحدد علاقة القيمة، مثلا: (الحفاظ على البيئة) بالنسق القيمي المعتمد، فإن كان مثلا هو المسؤولية، فإنه يحاول إبراز إلى أي حد تسهم المسؤولية في تفعيل سلوك الحفاظ على البيئة، وضمان تحققه بوعي وحماس، وتعزيز موقع هذه القيمة، حتى تتكامل في ذهنه المنظومة القيمية ويزداد تشبثه بها واقتناعه بأهميتها.

ثانيهما: تطرح مشكلة لها صلة وثيقة بالقيمة المدروسة، ويتولى المتعلم تحليلها واقتراح حلول لها في ضوء ما تلقاه في الدرس من معلومات وما تبلور خلاله من مواقف وميولات.

 

د. التصويت الفصلي على القيم

 يحتاج تعلم القيم وترسيخها إلى ما يجعل النفس فكرا ووجدانا تنشغل بها، وتتفاعل مع الوسائل المحققة لها، والقضايا المتصلة بها، وأن تعبر عن موقفها إزاءها بعفوية وصدق واقتناع، ومن هذا المنطلق يقترح هذا النشاط للمصادقة.

ويقتضي أن يتوزع التلاميذ فيما بينهم وحسب رغبتهم إلى ثلاث مجموعات: الأولى؛ مناصرة للقيمة، والثانية: منتقدة لضدها، والثالثة؛ ميسرة للنشاط، تقوم بإعداد تساؤلات واستفسارات، تمتحن بها كلا من المجموعتين الأولى والثانية. ويتولى كل تلميذ في المجموعتين الأولى والثانية قراءة ما كتبه في الموضوع، ويقوم مقررها بإعداد تقرير مركز حول مجموعته يتلوه أمام الفصل. وتوجه له أسئلة استيضاحية وانتقادية من طرف المجموعة الميسرة، ويطلب منه الرد عليها والدفاع عن قناعات مجموعته، ويمكنه الاستعانة في ذلك بأحد أفراد مجموعته.

 بعد ذلك تطرح القيمة للمصادقة عليها، وإذا كان من التلاميذ من صوت ضد القيمة، فإنه يشرح موقفه، وتفتح لائحة للمتدخلين بمحاولة إقناعه إلى أن يتراجع عن موقفه، فإذا حازت الإجماع، سجلت في لائحة القيم الخاصة بذلك الفصل، وعلقت على الجدران، وأصبح الجميع ملزما باحترامها، وتتكون لجنة من التلاميذ لمتابعة مدى التزام الفصل بكل قيمة تم تعلمها، ويحررون تقريرا فصليا في الموضوع يتلونه داخل القسم، وينشرونه في المجلة الحائطية للمؤسسة مع مواد داعمة للقيم، التي عرفت بعض التراجع. وكل قيمة حصلت على المصادقة تضاف في لائحة القيم الملقنة بمستوى معين داخل المؤسسة.

 

هــ. تنويع مجالات الأنشطة التعلمية وطرائقها

إذا تأملنا الطرق التي تترسخ بها القيم لدى أفراد المجتمع، وجدناها متعددة تمتد في مجالات الحياة كلها، وتوظف فيها جميع مناشط الإنسان المتنوعة، في مقدمتها المعتقدات والعبادات والعادات والمناسبات والتاريخ والإبداعات الفنية والأدبية والأخلاق والحكايات والأمثال الشعبية.

 ومن ثم تتأكد أهمية إخراج تعلم القيم كلما سنحت الإمكانيات عن سور المدرسة إلى رحاب الحياة، والسعي إلى جعل المجتمع ينخرط برمته في تكريس قيمه، والإسهام في الحفاظ عليها وتثبيتها في النفوس، عن طريق جميع مرافقه ومؤسساته وفضاءاته المختلفة وكل الأنشطة الإنسانية التي تحتضنها وترعاها.

 ومن هذا المنطلق يمكن للمدرس أن يبدع أنشطة متنوعة، تعتمد توظيف كل الإمكانيات المتاحة، وتستدعي ممارسات مخصوصة، تتقارب مع الواقع المعيش ولا تنأى عنه، والتي نقدم عنها الصور التالية:

  • ما يكون داخل المدرسة

- استثمار نصوص شرعية وإبداعية، والعادات والتقاليد والتاريخ وسير العظماء ومعطيات التراث القومي والإنساني، وإبداعات أدبية؛ قصص وقصائد شعرية وحكم، وإبداعات فنية من أناشيد وأغانٍ ورسومات معبرة، ومسرحيات وحكايات وأمثال شعبية مناسبة.

- تنظيم عروض وندوات، وحوارات وورشات وموائد مستديرة، لمناقشة مواضيع ذات الصلة بالقيمة المدرسة.

- صياغة شعارات وإعداد ملصقات ولافتات وجداريات.

- توظيف مسليات هادفة، وجوائز ومسابقات، وتخصيص مكافآت لأفضل متمثل لقيمة معينة.

 

  • ما يكون خارج المدرسة

- التكليف بإنجاز أعمال سلوكية تطبيقية: عبادات أعمال سلوكات أبحاث استطلاعات.

- إنجاز إبداعات أدبية وفنية، مثل كتابة قصة أو قصيدة أو مسرحية أو رسم لوحات.

- تنظيم خرجات ورحلات ومخيمات، وتخطيط زيارات إلى أماكن مخصوصة.

- توظيف الأعمال الجماعية التفاعلية: حركات معينة، ألعاب رياضية، ترديد أناشيد وأغانٍ وشعارات هادفة، القيام بأعمال تطوعية داخل المجتمع، تنظيم حفلات، وتخليد ذكريات.

 

خاتمة الدراسة

 يتوخى من هذا البحث، التوصل إلى حصول القناعة، بأن التربية على القيم لا تكون فعالة وذات أثر، في أفراد المجتمع وخاصة منهم الأطفال والشباب، حتى تستوفي الشروط الآتية:

  • بناء اتجاه نسقي قيمي واضح وشامل، يحكم فلسفة المجتمع واختياراته وتوجهاته، ويتحكم في توجيه حركته وبرامجه ومخططاته، في شتى مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية والثقافية.
  • استدماج قيم المسؤولية في الاتجاه النسقي القيمي العام، واستحضاره بقوة في بناء مختلف برامج القطاعات المجتمعية، وفي بناء البرامج التربوية خاصة، وفي تعليم القيم وترسيخها بصورة أخص.
  • اعتبار التربية على القيم مسؤولية مشتركة، تنهض بها الدولة بكافة مؤسساتها، والمجتمع بجميع أفراده وهيئاته وفعالياته المختلفة.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم