يحكى الأديب الشيخ على الطنطاوى فى كتابه "هكذا ربّانا جدي"، موقفاً تربوياً حدث معه حين كان صغيراً، كان جده البطل، وبسبب هذا الموقف تقوّم سلوكه وتخلى عن أنانيته.
يقول الشيخ: "استأجر جدي ذات صيف -وقد حيل بينه وبين بلده دمشق- منزلاً كبيراً في منطقة ريفية جميلة هادئة في أحد مصايف الأردن ليضم شمل جميع أفراد عائلته المتفرقين في البلاد. وفي ذلك المنزل قضينا أياماً رائعة استمتعنا فيها بصحبة جدنا وسررنا باجتماعنا بعد طول الفراق، لكن البيت كان بلا كهرباء فلم يمكن استعمال ما يعمل بالكهرباء من أجهزة وأدوات (بما فيها غسالة الملابس الكهربائية). وهنا كانت المشكلة: فقد كنا نقضي النهار -نحن الأحفاد الصغار- حول البيت نلهو ونلعب في الحدائق والبساتين الواسعة، بين كروم العنب وتحت الأشجار الوارفة، ثم نعود مساءً وقتَ النوم وقد اتسخت ملابسنا وغطّتها الأتربة وتناثرت عليها بقع العنب وآثار الفاكهة، فنغتسل ثم ننام، تاركين أمهاتنا ساهراتٍ أمام أطباق الغسيل في الحمام، كل واحدة منهن تغسل ملابس أولادها.
وفي الصباح يجد كل حفيد منا ملابسه نظيفة مرتبة، ويتلقى قبل خروجه إلى اللعب توصية من أمه بأن يلعب بحذر وهدوء ليحافظ على نظافة ملابسه وأناقتها حتى لا تضطر أمهاتنا إلى غسلها كل يوم. ولكنا كنا نندمج سريعاً في اللعب فننسى كل التوصيات ولا نكترث ولا نبالي بغير اللعب الممتع، ثم نعود مساء وقد اتسخت ملابسنا شأنها كل يوم. فماذا تفعل الأمهات عندئذ؟ تكرر التنبيه.. توبخ بشدة.. تضرب.. تمنع طفلها من اللعب خارج المنزل..ولكن ذلك كله لا يفيد، ويبقى الأولاد على سلوكهم بلا تبديل ولا تعديل.
فماذا فعل جدي عندما علم بالأمر وكيف حلّ المشكلة؟
لقد عالج الموضوع بطريقته الخاصة بأسلوب مبتكر، استعمله مرة واحدة فقط بحزم، وبصورة توحي بالقسوة، لكنه كان العقاب الرادع الذي جعلنا نحافظ على نظافة ملابسنا، ومنعنا أن نكون أنانيين لا نفكر إلا بأنفسنا وسعادتنا ومتعتنا ناسين حق أمهاتنا.
لقد فاجأَنا ذات ليلة -وقد عدنا من اللعب في الحقول منهكين متعبين نحلم بالراحة والنوم العاجل في الفراش- فألزم كل واحد منا أن يغسل ملابسه وينظفها، قبل أن ينام، كما كانت تفعل أمه تماماً. اعتذرنا ورجونا جدي أن يعفينا من تلك المهمة ويسمح لنا بالنوم، لكنه رفض اعتذارنا وأصرّ على تنفيذ الأمر... فامتثلنا راغمين .
ربما بدا جدي قاسياً في تلك الليلة، ولكن أتظنون أننا كنا سنقوّم سلوكنا ونتخلى عن أنانيتنا وأثرتنا بغير ذلك الألم وبدون تلك المعاناة؟
.