يعدُّ الإنسان صانع الثقافة وحاملها وناقلها من جيلٍ إلى جيل، وهذا لن يتم بمعزلٍ عن التربية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، بل إن العمليات المختلفة التي تمكن الثقافة من الاستمرار والتطور هي عمليات تربوية.
في هذه الدراسة، التى أعدها الباحث معاذ عليوي، سلط فيها الضوء على عدة عناصر رئيسية، أهمها: التعريف بمفهومي التربية والثقافة؛ والعلاقة الديناميكية بين التربية والثقافة؛ وإشكالية العلاقة بين التربية والثقافة.
التعريف بمفهومي التربية والثقافة
مفهوم التربية
لها عدة تعريفات، من بينها ما إليه د. طارق عبد الرؤوف عامر في كتابه (أصول التربية: الاجتماعية – الاقتصادية – الثقافية) بأنها عبارة عن: «عملية تطبيع اجتماعي تهدف إلى إكساب الفرد ذاتًا اجتماعية تتميز بها عن سائر الكائنات الأخرى في جميع مستوياتها التطورية، فهي التي تجعل من الفرد عضوًا عاملًا في الجماعة حيث يتطبع الفرد بطباع الجماعة المحيطة به، وعملية التطبع هذه تحدث في إطار ثقافي معين تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر».
مفهوم الثقافة
يعتبر البعض بأن الثقافة هي خلاصة العلوم والتجارب البشرية والدينية التي توجه الفرد الوجهة الصحيحة، بينما يقصرها البعض الآخر على تهذيب المواهب بالمعرفة والتمرس بالتراثات الفكرية والأدبية والفنية ممّا يؤدي إلى غنى فكري واسع، يسمح للعقل البشري أن ينسق ويوحد بين الثقافات.
صور العلاقة الديناميكية بين التربية والثقافة
أولًا: تعدّ التربية رافدًا أساسيًا في نقل الثقافة وتعزيزها داخل أيّ مجتمعٍ من المجتمعات، وهذا بحاجة إلى تخطي الأنماط التقليدية الموجودة داخل أيّ منشأة تعليمية والتي ترتكز فقط على المناهج التعليمية النظرية، بل بحاجة إلى الوسائل العملية كالمسرحيات، وإنشاء المعارض الثقافية الداعمة لمفهوم الثقافة، والحفاظ على هوية وتراث الشعب أو الإقليم الذي يعيشون بداخله.
ثانيًا: إن العلاقة بين التربية والثقافية ليست مقصورةً فقط على الجانب التعليمي بهدف نقل ثقافة مجتمعٍ ما والحفاظ عليه، بل إن طبيعة العلاقة تتخطى ذلك في نقل الثقافة وتمثيلها على المستوى (الأممي) العالمي عبر عقد المؤتمرات السنوية الداعمة لمفهوم الثقافة، حيثُ إن إنشاء المؤتمرات التربوية وحياكتها بشكلٍ علمي رصين يصور اللغة والتراث والعادات والتقاليد والحضارة العريقة لبلدٍ ما، ومحاولة صياغتها بشكلٍ يعكس شخصية الباحث المحب لوطنه وبلده، والساعي لتطوير ثقافته.
إشكالية العلاقة بين التربية والثقافة
إن إشكالية العلاقة بين التربية والثقافة في القرن الحادي والعشرين ليست مسألة فردية فحسب، بل مسألة جماعية تقع على عاتق كافة أفراد المجتمع الواحد، من أجل الحفاظ على جميع مكونات الثقافة، وحمايتها من أيّ محاولات طمس وتشويه يصاحبها بين الحين والآخر، وهذه عدد من المقترحات للحفاظ على الثقافة وإبقائها الواجهة الأساسية لأي مجتمعٍ من المجتمعات:
- ألاَّ نكتفي فقط بالوسائل التربوية النمطية التقليدية، التي ترتكز على المناهج التعليمة المدرسية فقط بل يجب تحديث الوسائل التعليمية، عبر إدخال الجانب العملي في فهم وتبسيط مفهوم الثقافة، من خلال تنظيم الرحلات المدرسية، والتعريف بهوية وتراث المدينة أو القرية التي تم زيارتها، وإجراء تقارير مدرسية من قبل الطلاب الزائرين لها، والتحدث بها إعلاميًا أمام زملائهم في الصف أو الإذاعة المدرسية، وهذا يذكي الروح المعنوية بين الطلاب أنفسهم بوجه خاص وبين المعلمين أنفسهم بوجه عام.
- إنشاء مراكز ودور للنشر الثقافي تهتم بالثقافة، وأن يكون هدفها توعويًا وتنمويًا في آن واحد؛ توعويًا يتمثل في توعية المواطنين في كيفية الحفاظ على هوياتهم وعاداتهم وتقاليدهم من الانهيار والانصهار، وعدم نسيانه أو إغفاله نتيجة لعولمة الهوية والحضارة؛ أما تنمويًا فيتمثل في الاستفادة من الثقافة في تنمية مهارات الفرد، وصقلها بالمعارف اللازمة، كي يكون قادرًا على فهم ثقافة مجتمعه والتصدي لمحاولات عولمة الهوية والحضارة والثقافة تحت عنوان الانسلاخ عن الماضي، وتبني قيم جديدة أكثر رقيًا وتحضرًا.
- الأخذ بزمام المبادرة والوعي بين طلاب الجامعات والمفكرين والباحثين في سبيل الارتقاء بالثقافة، مع الآخذ بعين الاعتبار التنسيق مع الوزرات والمؤسسات ذات العلاقة بالشأن.
إن التربية هي العمود الفقري للثقافة، وإن الثقافة هي روح التربية، وكلاهما لا يستطيعان العيش بمعزلٍ عن الآخر، لأن التربية ليست فقط سلوكًا مكتسبًا يقود إلى تبني مفهوم الثقافة للمتعلمين على مقاعد الدراسة فحسب، بل هي سلوك وطريقة تقود بهؤلاء الأفراد إلى كيفية بناء التصورات النظرية والعملية في الحفاظ على هوية مجتمعاتهم من الانصهار والاندثار، بفعل تأثيرات إصلاحية يراها البعض بأنها خلاص المجتمع من القيم والعادات والتقاليد البالية وأنها سرّ تخلفهم وتراجعهم للوراء سنوات طوال.
على جميع أفراد المجتمع الواحد أفرادًا وجماعات ودولة، أن يأخذوا على عاتقهم بأن العولمة الثقافية لن تكون بديلًا أساسيًا عن هويتهم وثقافتهم وعاداتهم، حتى وإن برزت الوجه الحسن والجميل، إلا أنها تخفي وراء ضحكاتها نوايا خبيثة هدفها استئصال جذور الثقافة واستبدالها بثقافة جديدة على مقاسها، تحت شعارات وهمية لا طائل من ورائها سوى تفريغ المجتمع من ثقافته وإبقائه قيد التبعية الثقافية لهم في كافة شؤون الحياة.
.