Business

الدراسات التربوية للقرآن الكريم بين الواقع والمأمول

أنزل الله كتابه المجيد هداية للبشرية، وبلاغًا للحاضر والباد، أبان فيه سبحانه طريق النجاة الموصول لرضوانه، وحذر من سبل الغواية المفضية لنيرانه، وأمر سبحانه بتدبره والعمل بما فيه، وقد كان وما زال هذا الذكر الحكيم مصدر العلوم النافعة، منه تستقي وإليه يرجع في التحاكم عند التنازع، ومن تلك العلوم علم التربية، وهو علم يهتم بالنفس البشرية، مؤسس على قواعد وأسس تهدف للإصلاح والرعاية والتزكية للنفس البشرية.

وفى دراسة بعنوان: «الدراسات التربوية للقرآن الكريم الواقع والمأمول» -2013-، للباحث: سلطان مسفر مبارك الصاعدي، ألقى الضوء على بعض الدراسات التربوية التي تناولت القرآن الكريم بالبحث والدراسة، في محاولة لتحديد بعض جوانب القصور والخطأ والزلل وأسبابها، مستعينًا على ذلك كله بتوفيق الله عز وجل، راجيًا من الله التوفيق والسداد وأن يجنبنا الخطأ والزلل.

 

خصائص التربية للقرآن الكريم

  • أنها تربية ربانية المصدر والغاية.
  • أنها تربية شاملة ومتكاملة ومتوازنة، تشمل التربية الدينية والدنيوية وتتوازن فيها الحاجات الجسدية والنفسية والانفعالية والعقلية.
  • أنها تربية إنسانية واجتماعية وواقعية، فهي تهتم بتربية الإنسان فرديًا واجتماعيًا تربية واقعية لا افتراضية أو خيالية، أو تربية نموذجية لا تراعي ظروف الزمان المكان والأشخاص.
  • أنها تربية مستمرة دائمة، تهتم بالفرد من الميلاد إلى اللحد، بل تتجاوز في صورتها هذا الزمان للاهتمام بالفرد باختيار الأم الصالحة والمنبت الصالحة، والعناية به جنينًا في بطن أمه.

 

واقع الدراسات التربوية للقرآن الكريم

تزخر المكتبات التربوية في عديد من الجامعات بعناوين كثيرة لدراسات تربوية تناولت النص القرآني، وتختلف هذه العناوين من حيث شمولها وأصالتها، إلا أن النسق العام لكثير من الدراسات يتسم بالعموم والتفخيم، مما يوحي للقارئ بجدوى هذه الدراسة وأهميتها، إلا أن الواقع وما تحتويه صفحات هذه الدراسة غالبًا ما يتسم بالبساطة والسطحية في الطرح، وما ذلك إلا تعزيزًا لما أسلفنا أن غالبية من يتناول هذه المواضيع هم من غير المتخصصين، لذا تجد في عناوينهم التكرار والتشابه، فمثلًا، قد يتناول باحث دراسة بعنوان (المضامين التربوية في سورة البقرة)، فيأتي من بعده ويقترح عنوان (المضامين التربوية في سورة آل عمران)، وهكذا حتى تصل إلى آخر سورة القرآن في تقليد مقيت ينم عن عدم الجدية والرغبة في العنوان، ويتبعه أيضًا عدم الجدية في الطرح والتناول، في أخطاء كثيرة نتناولها– بإذن الله تعالى– في الصفحات التالية:

  • الخطأ والتقصير في عنوان الدراسة أو البحث:

عنوان البحث الواجهة الأولى للقارئ، وهو بمثابة عقد اتفاق بين القارئ والكاتب أو الباحث والكلية للحصول على الشهادة العلمية، والإخلال به يعد إخلالًا بالأمانة العلمية والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ولاختيار العنوان أسس وضوابط موجودة في فنها، ويكثر التقصير في اختيار العنوان التربوي للنص القرآني، ولعل أبرز معالم التقصير ما يلي:

تكرار العناوين من غير دراية؛ إن المتتبع للعناوين في مثل هذه الدراسات يجدها لا تخرج عن المصطلحات التالية: (المضامين– المبادئ– الدلالات، التوجيهاتالمدلولات)، والمتحري لهذه العناوين يجدها تشترك في جوانب عديدة، منها: الجانب الفضفاض الواسع، التي لا تقيد الباحث بل تعطيه مساحة واسعة للتناول والطرح، ولا تعطي انطباعًا حقيقيًا للقارئ عن محتوى الدراسة أو البحث.

وتأكيدًا لما سبق تجد أن خطط البحث ومحتويات الدراسة أشبه ما تكون بالمواضيع المتفرقة التي لا يربطها رابط سوى دفتي البحث أو الدراسة، فمثلًا دراسة بعنوان المبادئ التربوية المستنبطة من آيات خلق الإنسان في القرآن، مجموع صفحاتها 175 صفحة، وعدد فصولها ستة فصول، كان نصيب فصل خلق الإنسان ومراحله 34 صفحة، ونصيب الفصول التربوية الأساسية الثلاثة على النحو التالي: المبادئ التربوية في الجانب العقدي 27 صفحة، والمبادئ التربوية في جانب المعاملات 20 صفحة، والمبادئ التربوية في جانب الأخلاق 29 صفحة؛ هذا إذا سلمنا بوجود فرق بين الفصلين الآخرين، فالأخلاق جزء من المعاملات، مع إدخال مباحث لا تمت لا للفصل ولا للبحث بصلة كمبحث مبدأ أخلاقيات طلب العلم في فصل المبادئ التربوية في جانب الأخلاق.

ومن صور التقصير والأخطاء في العناوين التربوية للدراسات القرآنية اشتمالها على صيغة الاستغراق لجميع المضامين، وذلك ما توحيه (أل) الدالة على الاستغراق في كلمة مثلًا: المضامين أو المبادئ، مع أن المضمون لا يحتوي إلا بعض المضامين والمبادئ، وأنّى لبشر أن يصل لشيء من ذلك أو قريب منه، مع أن بعض العناوين قد تحذف (أل) الدالة على الاستغراق، أو تضيق كلمة بعض لتجنب هذا الاستغراق غير المتحقق على أرضية البحث.

ومن الأخطاء أيضًا إدراج كلمات من قبيل الحشو الزائد الذي لا يفيد للعنوان شيئًا وفي الاستغناء عنه إمكانية حيث إن هذه الكلمات المدرجة لا تعطي فرقًا واضحًا بينها وبين العنوان الخالي منها، مثل كلمة (ضوء) في العنوان، فيكون العنوان مثلًا (المضامين... في ضوء القرآن الكريم، وأتساءل هنا ما الفرق بين العنوان السابق، وعنوان دراسة بعنوان مثلًا (المضامين... في القرآن الكريم).

ومن الملاحظات على العناوين أيضًا عدم تحديد التخصص في العنوان، فتجد العنوان الواحد تتجاذبه تخصصات كثيرة لا تتوفر في باحث واحد، فتجد أن العناوين لأغلب الدراسات تتناول الجانب التربوي القائم على الجانب التفسيري، وبعض العناوين قد تتجاوز ذلك، فتجد في العنوان ثلاثة تخصصات كرسالة (العقيدة في السور المكية وتوجيهاتها التربوية)، ونحن وإن سلمنا أن العلوم رحم فيما بينها، إلا أن ظروف التخصص الحديث وتوسع العلوم تجعل الجمع بين مثل هذه الفنون نادر جدًا، وهو ما قاد لكثير من الملاحظات والتوجيهات في مثل هذا البحث.

ومن الملاحظات أيضًا، استخدام مصطلحات حديثة غير محررة، وإلصاقها بالقرآن الكريم، كعنوان (منهج القرآن في تقديم الوسائل التعليمية)، فمصطلح الوسائل التعليمية مصطلح وافد في اللغة العربية والشرع المطهر غنيه عنه، فهذه اللفظة مثلًا لا تجدها في الكتاب ولا في السنة، فكيف نزعم أن للقرآن منج في تقديمها، وكذلك مصطلح العصف الذهني وإلصاقه بالقرآن الكريم، وهو مصطلح قائم على تقنية تعطي مساحة لطرح عدة أفكار تتسم بالكثرة والتنوع وعدم النقد، تخضع لمحكات متفق عليها للخروج بالرأي الأنسب، وقد تكون العناوين متخصصة جدًا بحيث لا يفهمها القارئ لحداثتها مثل: (سيميائية نوازع النفس في القرآن الكريم).

 

  • التقصير في خدمة النص القرآني من حيث الشكل والإخراج:

النص القرآني بالخط العثماني من شروط قبول القراءة، وإهمالها في الرسائل العلمية خطر عظيم، فالرسم الإملائي لا يغني عن النص القرآني بالخط العثماني، ولا ينبغي أن يزاحمه، خاصة في الرسائل العلمية المتناولة للنص القرآني مباشرة استنباطًا واستدلالًا، وقد مكنت التقنية الحديثة الباحث من إدراج النص القرآني بالخط العثماني بكل يسر وسهولة.

ومن الملاحظ أن عددًا من الرسائل ليس بالقليل، وبسبب التقنية التي تخدم من جانب وتهدم من جانب، أن النص القرآني قد تحول إلى رموز وأشكال هندسية وحروف أعجمية، وهذا الخط قد مر على الرسالة كاملة فلا تكاد تقرأ نصًا واحدًا من النصوص القرآنية المدرجة، مع أن هذه النسخة تم الحصول عليها من الموقع الرسمي للجامعات.

ومن الملاحظات أيضًا إدراج النص القرآني داخل نص البحث من غير تمييز، وهي وإن كانت محل نظر واجتهاد إلا أن الأحرى تميز النص القرآني عن نص البحث إما بسطر جديد أو (تغميق) للخط، ومن غير المقبول أيضًا تقطيع الآيات تقطيعًا مخلًا بإدراج التفسير داخلها بصورة تذهب جمال وإعجاز التعبير القرآني.

ومن الملاحظات في خدمة النص القرآني، التقصير في الإشارة للسورة والآية، فجل البحوث تشير باسم السورة متبوعًا برقم يدل على الآية، هكذا (البقرة: 22)، والأكمل ذكر كلمة (سورة وآية) في الإشارة، وهذا سهل متيسر بفضل التقنية اليوم ولا تكلف الباحث سوى ضبط إعدادات الإدراج للنص القرآني.

 

  • الخطأ في منهج الاستنباط والاستدلال:

الاستنباط من الكتاب العزيز له منهج مقرر، فليس النص القرآني حمى مستباح لكل أحد أن يقول فيه ما يقول، أو أن تتجاذبه فهوم أقوام على أهوائهم وأذواقهم، فمن المخول بالتوقيع عن رب العالمين، وأي سماء تُظل أو أرض تٌقل لشخص قال فيه بغير علم ولا هدى ولا بصيرة، ولما تسور على كتاب الله من لم يتأهل لذلك انحرف طريق الاستنباط عن الجادة التي سنها السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

ولا بد للشخص المتصدر للاستنباط التربوي من توفر أربعة شروط، منها: صحة الاعتقاد، ومعرفة التفسير الصحيح، والإلمام باللغة العربية، مع توخي منهج وطرق الاستنباط المقررة في كتب أصول التفسير ومناهج الاستدلال.

ومن الملاحظات، وهي قطب رحى المسألة وعمودها القائم على عوج، الاعتماد على مصادر غير أصيلة في التفسير وعلومه، فتجد باحثًا مثلًا يأخذ عد آيات السور المتناولة بالبحث من مرجع متأخر، وكأن المصاحف التي بين أيدينا لم تبين عدد الآيات، ولا في الكتب المتقدمة غنية وكفاية، وهي– أي عد الآي– كما قال الشاطبي في نظمه:

وليست رؤوسُ الآيِ خافيةً على ............. ذكيٍ بها يهتم في غالبِ الأمرِ

ومنها الاعتماد على مراجع حديثة وإهمال مصادر وأمهات كتب التفسير، فنجد رسالة تربوية في القرآن الكريم مثلًا، عدد مراجعها تجاوز المائة الواحدة، كان نصيب التفاسير منها أقل من عشرة مراجع، وفي أغلبها الأعم مراجع حديثة، مع إغفال لمصادر أساسية لا غنى عنها لبحث تناول كتاب الله العزيز بالبحث والاستنباط كتفسير الطبري والقرطبي وابن كثير رحمهم الله جميعا، أو تقديم الكتب المتأخر في الاستدلال والاستشهاد على الكتب المتقدمة، كما جاء تناول سبب نزول سورة عبس، حيث رجع الباحث للمرجع الأول لكتاب أضواء البيان للشنقيطي، ثم أردفه بتفسير القرطبي وابن كثير، وهي منهجية خاطئة في تقديم المراجع على المصادر، بل ليس لذكر المرجع المتأخر أية فائدة مع المصادر المتقدمة؛ لأنها هي الأساس وما بعدها إنما استقى منها، وخاصة في سبب النزول الذي هو من قبيل الرواية وليس من قبيل الدراية والاستنباط.

بل والأدهى والأمر من ذلك الجهل بكتب أمهات التفاسير، وصوره عديدة منها على سبيل المثال: باحث أورد تفسير ابن كثير في المراجع والمصادر مرتين ظنًا منه أنه كتابين لشخصين مختلفين، لأن الأول موسوم باسم: (ابن كثير، إسماعيل: تفسير القرآن العظيم)، والثاني باسم: (أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تفسير ابن كثير)، وتكرر هذا الخطأ– ولكن بصورة أكثر قتامة– مع رسالة دكتوراه، كررت فيها الباحثة المرجع مرتين، مرة في المصادر وأخرى في المراجع.

ومن الباحثين من نسب تفسيرًا لابن عباس، وفي الحقيقة ما هو إلا جمع لرواياته في التفسير ليس تفسيرًا على الطريقة الحديثة لكتب التفاسير، كما جاء في المراجع بعنوان: (عبد الله بن عباس: تنوير المقباس من تفسير ابن عباس)، والكتاب للفيروز آبادي محمد بن يعقوب بن محمد صاحب القاموس، جمعه عن ابن عباس من طريق ضعيف.

ومن صور الجهل بأمهات كتب التفسير ما جاء عن باحث حيث جعل كتاب التفسير في جامع الترمذي مرجعًا مستقلًا في المراجع، فجعله على صفة كتب التفسير المطبوعة فأورد له رقمًا مستقلًا في المراجع موسوم بـ (الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله)، غير ذكره لجامع الترمذي في مرجع مستقل.

وأخيرًا نختم بما يختم به الباحث بحثه، فغالب النتائج والتوصيات والمقترحات لا تتصل للموضوع بصلة، ولا تسهم في تأسيس علمي جيد ولا تأصيل رشيد، بل هو تكرار استمراه الباحثون واستسلم له المشرفون والمناقشون حتى أصبحت الصيغة أشبه بـ (النموذج) المعد لختم الرسالة والبحث، حيث تكثر عبارة (حوت سورة (كذا) على مضامين تربوية)، و (يوصي الباحث بدراسة مشابهه لهذه الدراسة على سور أخرى)، و (يقترح الباحث تدريس منهج يهتم بالمضامين التربوية في الصفوف المدرسية)، والمأمول من هذه الدراسات الخروج بنتائج تأصيلية وإجرائية تُثْرِي الجانب التربوي والاجتماعي.

 

ملاحظات متنوعة:

هناك بعض الرسائل والدراسات حوت بعض الأخطاء والملاحظات لا تتسم بكونها منهجًا غالبًا على الدراسات التربوية للنص القرآني إلا أنها تبين حجم المشكلة وما تحمله من تبعات لا تحمد عقباها، ومن هذه الملاحظات ما يلي:

  • هذه رسالة عن المدلولات التربوية للأمثال القرآنية من جامعة الجزائر يقول فيها الباحث: «يلحظ المتتبعون ويشكو أصحاب الشأن من القصور الجلي والنقص الفاحش في قدرة القرآن على التأثير في المتعلم وإمكانية تغيير وتنمية شخصيته»، ولقد كررتُ القراءة مرة تلو مرة لعلي أجد مخرجًا، إلا أن الواقع المرير يقول بخلاف ما أردت، وهذا يبين بجلاء حجم خطورة تناول النص القرآني من غير المتخصص، ولعل الباحث لم يفرق بين منهج القرآن والمطبق علميًا، قصد الثاني ولم يقصد الأول.
  • وفي رسالة أخرى بعنوان مبادئ تربوية مستنبطة من أوائل سورة العلق من جامعة أم القرى تقول الباحثة: «أهم المزايا التي تميز بها القرآن الكريم عن جميع الكتب السابقة– ذكرت عدة مزايا منها– أن القرآن كلام الله تعالى المعجز»، بل إن كل الكتب السماوية هي من كلام الله، وكلامه سبحانه الحق المبين المعجز.
  • وتقول الباحثة أيضًا: «إن الطريقة التي اتبعها الرسول الكريم ﷺ في دعوته للناس تشبه إلى حد كبير الطريقة العلمية المعاصرة التي تقتضي ممن يريد القيام ببحث أن يمحو من نفسه كل رأي وكل عقيدة سابقة... وأن يبدأ الباحث بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط»، وهذا تكلف زائد مُوقع في الزلل، فهذه الطريقة العلمية تصلح للدراسات التجريبية الميدانية أما الغيبيات والأمور التعبدية التي امتدح الله المؤمنين بها كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3]، فلا تخضع إلا للتسليم والانقياد.
  • من الأخطاء أيضًا استخدام مصطلح الحرية وجعله مرادفًا للربانية، كما جاء في رسالة الخطاب التربوي للمرأة في القرآن الكريم حيث تقول الباحثة: «تميز الخطاب القرآني بخصائص فريدة... وأهمها: خطاب يدعو إلى الحرية أو الربانية»، بل الخطاب يدعو للعبودية لله سبحانه وتعالى؛ فالنداء القرآني للمؤمنين بـ (يا عبادي) (كونوا عباد الله)، ولم ترد عبارة يا أحرار، كونوا أحرارًا، ولكن هذه لوثة من لوثات الغرب قذفها في قلوب بعض المؤمنين فاستحسنوها وأخذوها بحسن نية على علاتها، ومصطلح الحرية المتداول اليوم مناقض للعبودية لله عز وجل، فليس في الإسلام حرية مطلقة بل هي مقيدة بحدود الشرع كما أنها حرية مسئولة مضبوطة بضوابط شرعية وإنسانية.
  • «الصلاة مدرسة نظامية تحفظ طاقات المسلم»، لم يجد أحد الباحثين بُدّ من صياغة تعريف الصلاة بصياغة تربوية ناقصة وناقضة، لا ترتقي لوصف ما ذكرها رب العزة والجلال بأنها تنهي عن الفحشاء والمنكر قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ ولَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ واللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
  • في سورة عبس جاء العتاب الإلهي للنبي ﷺ في أرقى صور العتاب وأنفعه، فقال تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ} [المدثر: 22]، وهي صورة جسدية من تغير لمحات الوجه والإعراض، كما جاء أن ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله ﷺ فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله ﷺ رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله ﷺ يعرض عنه، ويقبل على الآخر، وهذه الصورة عبر عنها الباحث بـ «كَرِهَ رسول الله ﷺ مقالته».

وهو تعبير أحال المعنى الجميل الواضح من السورة إلى معنى غير متبادر، ولا هو من سجايا النبي الكريم ﷺ، وكان الأليق الوقوف عند التعبير القرآني وعدم التكلف في التعبير والتفسير، وخاصة أن هذا التفسير يناقضه ما جاء عند الترمذي من رواية أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، أنها قالت: قال ابن أم مكتوم للنبي ﷺ: أترى بما أقول بأسًا؟، فيأتي الرد ممن كان خُلُقُه القرآن كافيًا شافيًا فيقول ﷺ: «لا»، نفيًا صريحًا لما قد يتبادر من كراهيته ﷺ لمقالة ابن أم مكتوم رضي الله عنه.

 

أسباب الخطأ والتقصير

يرجع التقصير والخطأ لأسباب كثيرة، وهي وإن وردت في ثنايا البحث إلا أن إفرادها بمبحث خاصّ يعطيها صبغة من الأهمية عالية، ويمكن تصنيف هذه الأسباب لأسباب علمية وأخرى منهجية على النحو التالي:

أولًا: الأسباب العلمية:

  • ضعف التأصيل الشرعي وخاصة المتعلق بالقرآن الكريم وعلومه.
  • التتلمذ على العلوم التربوية الغربية غير المنقحة.
  • السير على خطى العلوم التربوية البشرية الغربية منها خاصة.
  • عدم تدعيم الرسالة بمشرف أو مناقش أو مراجع متخصص في القرآن وعلومه.

ثانيًا: الأسباب المنهجية:

  • عدم الرجوع للمصادر الأصيلة والمراجع الأساسية للقرآن وعلومه.
  • الجهل أو التقصير في منهج الاستدلال بالنص الشرعي.
  • التقليد المقيت للمناهج المتبعة من غير وعي ولا إدراك ولا تحقيق لمضمونها في أغلب الأحيان.
  • عدم الاهتمام بالإخراج النصي للقرآن الكريم في الرسالة العلمية.

 

المأمول من الدراسات التربوية

إن الدراسات التربوية خدمة تفسيرية، وطرح تربوي لما يحتويه الكتاب العزيز، والملاحظات السابقة لا تجعل الحكم على هذه التجربة بالفشل، والنقد المطروح للتقويم والبناء لا للتقويض والهدم، إذ أن أول خطوات الحل الإحساس بالمشكلة ومعرفتها.

والمطروح هنا– في هذا الفصل– أشبه بالنظرة المستقبلية في وضعها المثالي، أو أشبه بالمقترحات التطويرية، مع بيان فرص النجاح وكيفية استغلالها، والعقبات الآنية وطرق التغلب عليها، والتحديات المستقبلية وسبل مواجهتها.

عوامل وفرص خدمة القرآن الكريم من خلال الدراسات التربوية

تتوفر للدراسات التربوية عوامل وفرص نجاح كثيرة تتمثل في النقاط التالية:

  • العقيدة الصافية النابعة من الكتاب والسنة والمتأصلة في نفوس الباحثين والباحثات.
  • الإمكانات العلمية العالية، حيث أن جميع الرسائل تقام في جامعات لها صبغة إسلامية، تحوي كوكبة متخصصة في مجالات متنوعة كالتربية والتفسير.
  • قيام مراكز بحثية متخصصة في القرآن وعلومه، وكذلك في التربية وفنونها.
  • وجود الكراسي البحثية المعنية بالقرآن وعلومه.
  • توفر المراجع والكتب الأساسية في البحوث التربوية المتعلقة بالنص القرآني.
  • حركة التجديد في الأوساط التربوية مثل دراسات الدكتور مقداد يالجن.
  • توفر برامج بحثية خدمية للنص القرآني والتنسيق الكتابي الجيد.

 

عقبات خدمة القرآن الكريم من خلال الدراسات التربوية

كما أن هذه المسيرة تواجه في الوقت الحاضر كثيرًا من العقبات والصعوبات، مما يجعلها تسير الهوينى، تكبو حينًا وتَجِدُّ أخرى، في سبيل تحقيق الهدف العظيم، ألا وهو خدمة النص القرآني من الناحية التربوية، ومن تلك العقوبات، ما يلي:

  • عدم تأهيل الباحثين في التربية تأهيلًا شرعيًا في أكثر الأحيان.
  • تتلمذ الجيل الأول من التربويين وبعضًا من الثاني على الدراسات الغربية وفلسفاتها المناقضة في كثير من الأحيان للنظرة الشرعية الإسلامية للكون والحياة والإنسان.
  • التساهل في مثل هذه الأطروحات بحجة عدم التخصص، وأن المقصود ليست المعلومة بقدر ما هي مهارات بحثية يكتسبها الطالب في هذه المرحلة، ومن ثم يكتسب الخبرة العلمية في التناول والطرح، متناسين أن هذه الأطروحات لم تصبح متوفرة على رفوف مكتبة الجامعة لطلابها، بل أصبحت تتداول تقنيًا وإلكترونيًا من جميع أقطار المعمورة.
  • شيوع التقليد المقيت بين طلاب الدراسات على مسمع ومرأى وتعزيز من بعض أعضاء هيئة التدريس في بعض الجامعات، في تناول وطرح الموضوعات المختصة بالنص الشريف قرآنًا وسنة، بحجة الأسلمة والتوجيه الإسلامي حينًا، وبحجة السهولة والسلامة في الطرح أحيانًا كثيرة، وغياب الجدية والرغبة في البحث والتقصي، مما يجعلها مرحلة شكلية أكثر منها خدمة تربوية للنص القرآني.
  • عدم تعزيز الرسالة إشرافًا ومناقشة بمتخصص في التفسير والقرآن وعلومه، مما يجعل الخطأ والتقصير أكثر ورودًا، مع أن مثل هذه الأمور الإدارية لا تكلف القسم أكثر من خطاب أو دعوة للإشراف والمناقشة لمن هو متخصص في التفسير والقرآن وعلومه، ويمكن إيعاز المراجع النهائية– إن تعذر الأمر وضاقت الحيل– لمركز بحثي متخصص يتبع للجامعة، أو مركز معتمد ولو من خارج الجامعة.
  • شيوع مناهج بحثية غربية تتعامل مع الماديات ولا تؤمن إلا بالمشاهدات، وتعطي العقل المساحة الأكبر في التلقي والقبول والرد، فهي مناهج لا ترضى إلا بالملاحظة والتجريب ومن ثم الموازنة والترتيب، في ترتيب ينم عن منهج العقل لا النقل، وكيف يكون للنقل ميزان عند قوم غربيين لا يؤمن ببعث ولا نشور، ولا كتاب مقدس منشور.

 

التحديات المستقبلية لخدمة القرآن الكريم من خلال الدراسات التربوية

كما أن المستشرف للمستقبل، قد تظهر له بعض التحديات المستقبلية لمثل هذه الدراسات التربوية، وليس ذلك من قبيل الرجم بالغيب، بل لا يعدو كونه تخرصًا قائمًا على أسس علمية من سبر للدراسات ومعايشة للواقع التربوي في بعض الجامعات والكتابات، ومن تلك التحديات ما يلي:

  • الاتجاه العلمي لبعض الجامعات وطغيانه على الجانب التربوي والشرعي بحجة ضغط السوق والنقص في الكوادر العلمية، وبحجة الحصول على الاعتماد الأكاديمي الدولي للدخول في المنافسات العالمية للجامعات، مما يحمل المواضيع المطروحة والدراسات القائمة على الاتجاه العلمي البحث القائم على فرضية التجريب، ومن ثم القبول أو الرفض، أو على أقل تقدير طغيان المنهج العلمي على الأطروحات التربوية المتناولة للنص القرآني.
  • دخول تخصصات فكرية وإدارية في الجانب التربوي، تحوي على أفكار بشرية لا تعدو كونها من قبيل المجرب، يتبعه نهم وعطش في أوساط المثقفين والباحثين لمثل هذه الأفكار والتنظيمات الإدارية، ومحاولة إعطاءها الصبغة الشريعة، كما جاء في بحث تربوي تعزيزًا لنظرية وفكرة العصف الذهني، وأنها منهج قرآني، وهي مرحلة تعتبر تأسيسية لمرحلة خطيرة وأسلوب في التلقي خاطئ يعتمد على أخذ الفكرة وتقبلها، ومن ثم البحث عن مسوغ شرعي لها.
  • شيوع مصطلحات مزاحمة للمصطلح الشرعي لا تغني ولا تفي بشيء من مدلوله، بسبب الهزيمة النفسية، والتتلمذ المقيت على فتات الغرب بحجة التقدم والرقي والحضارة، كمصطلح الجودة مقابل مصطلح الإتقان الوارد في الكتاب والسنة قال تعالى: {وتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، وقال ﷺ: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحكم عملًا أن يتقنه»، بل إن مصطلح التربية، وإن كان من الناحية اللغوية جائزًا في أكثر أحواله، لإلا أنه لا يوجد له مكان في مصنفات المتقدمين إلا ما ندر، ولكن نجد انتشار مصطلحات مثل: التزكية والإصلاح والرعاية والتنشئة والتعليم، فكلمة التربية بمفهومها الاصطلاحي من الكلمات الحديثة التي ظهرت في السنوات الأخيرة مرتبطة بحركة التجديد التربوي في البلاد العربية في الربع الثاني من القرن العشرين؛ ولذلك لا نجد لها استخدامًا في المصادر العربية القديمة.

وهذا التحدي وإن كان حاضرًا في الوقت الحاضر، إلا إن الوضع في ظل التساهل الحاصل في تقبل المصطلحات، والاعتماد على الكتب المترجمة توحي بأن التحدي في ازدياد خاصة مع توجه بعض الجامعات للأبحاث التربوية باللغة الأجنبية وتفضيلها على اللغة العربية.

  • التوسع الأكاديمي العام، التخصص الدقيق داخل التخصص العام، مما يفتت العلوم الموجودة اليوم إلى علوم أكثر تخصصًا، ومن مظاهر التخصص الدقيق في العصر الحاضر ظهور تخصص الإدارة وعلم النفس، وتحت هذا التخصص تدخل تخصصات فرعية كالإدارة المدرسية وإدارة الشركات والمؤسسات، أو علم نفس النمو وعلم النفس الجنائي، وهكذا، في شبكية معقدة تضيق حينًا وتتسع أحيانًا، ناهيك عن التخصصات المطروحة مستقبلًا والتي بدأت نواتها في عصرنا كمهارات التفكير والإلقاء، وما تخفيه الأيام أكبر، هذه التخصصية وإن كان ظاهرها خدمة علمية عالية إلا أن تهافت أبناء المسلمين عليها ومحاولة صبغها بالصبغة الشرعية هو ما يدق ناقوس الخطر، ويكمن الخطر عندما يحاول الباحث لَيّ أعناق نصوص الكتاب العزيز لتشهد ذلك العلم أو ذاك، بحجة أن القرآن تبيان لكل شيء، أو بحجة السبق التربوي، وربما يظهر العور من خلال تخلي أرباب تلك النظريات داخل التخصصات الدقيقة عن نظرياتهم بسبب الفشل الميداني، أو قل بسبب انتهاء صلاحية المنتج المعد للتجارة.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم