يحكيها عباس السيسي
في حياة الدعاة والمربين مواقف تضع علامات في حياة من يحيطه وتترك أثرا فيمن حوله وهكذا كان ذكريات من عاصر الإمام البنا ومن عايشه، وهذه ذكريات يحكيها الأستاذ المربي والداعية الأستاذ عباس السيسي في مشاهداته في صحبة الإمام حسن البنا
تواضع وتجرد
يحكي الأستاذ عباس أنه في أوائل عام 1936 ﺗﺤﺪد ﻣﻮﻋﺪ ﻟﺰﻳﺎرة ﺣﺴﻦ اﻟﺒﻨﺎ ﻟﺮﺷﻴﺪ.......ووﺻﻞ اﻟﻘﻄﺎر، وﺣﺎوﻟﻨﺎ كما ﺗﻌﻮدﻧﺎ ﻣﻊ ﻣﻦ هو أكبر ﻣﻨﺎ أن ﻧﻘﱢﺒﻞ ﻳﺪﻩ وﻟﻜﻨﻪ اﻣﺘﻨﻊ وﻟﻢ ﻳﻤﻜﻨﺎ ﻣﻦ ذﻟﻚ.. وﺻﺤﺒﻨﺎﻩ ﺳﻴﺮًا ﻋﻠﻰ اﻷﻗﺪام إﻟﻰ دار اﻹﺧﻮان .. وﻋﻨﺪﻣﺎ اﻗﺘﺮﺑﻨﺎ ﻟﺤﻆ ﻓﻀﻴﻠﺘﻪ "ﺻﻮرﺗﻪ اﻟﺸﻤﺴﻴﺔ" اﻟﺘﻲ كنا ﻗﺪ ﻗﻤﻨﺎ ﺑﺘﻜﺒﻴﺮهﺎ وكتبنا ﺗﺤﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﺨﻂ اﻟﺠﻤﻴﻞ ﴿ﻣﻦ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ رﺟﺎل ﺻﺪﻗﻮا ﻣﺎ ﻋﺎهدوا اﷲ ﻋﻠﻴﻪ﴾ (23:الأحزاب) وﻋﻠﻘﻨﺎها ﻓﻮق ﻣﻨﺼﺔ اﻟﺨﻄﺎﺑﺔ، وكنت أﺳﻴﺮ ﺑﺠﻮارﻩ وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻤﺮي ﻗﺪ ﺗﺠﺎوز اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮة ﻓﺮﺑﺖ ﻋﻠﻰ كتفي ﺑﺤﻨﺎن، وﺳﺄﻟﻨﻲ: ﻟﻤﻦ هذه اﻟﺼﻮرة؟ ﻓﺄﺟﺒﺘﻪ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺻﻮرة اﻟﺸﻴﺦ ﺣﺴﻦ اﻟﺒﻨﺎ، ﻓﻘﺎل ﻟﻲ: إذا كان ﺣﺴﻦ اﻟﺒﻨﺎ ﻣﻮﺟﻮدًا ﺑﻴﻨﻜﻢ ﺑﺸﺨﺼﻪ ﻓﻤﺎ اﻟﺪاﻋﻲ ﻟﻮﺟﻮد هذﻩ اﻟﺼﻮرة!! اذهب وأﻧﺰﻟﻬﺎ.. وارﺗﻘﻴﺖ ﻣﻨﺼﺔ اﻟﺨﻄﺎﺑﺔ، ﻟﻜﻲ أﻧﺰل اﻟﺼﻮرة، وﻟﻜﻨﻨﻲ ﻓﻮﺟﺌﺖ ﺑﺼﻴﺤﺎت ﺑﻌﺾ اﻹﺧﻮة ﺗﻤﻨﻌﻨﻲ ﻣﻦ ذﻟﻚ، ﻓﺄﺧﺒﺮهم اﻷﺳﺘﺎذ ﺑﺄﻧﻪ اﻟﺬي أﻣﺮني ﺑﺬﻟﻚ، وﻧﻔﺬت أﻣﺮﻩ وأﻧﺰﻟﺖ اﻟﺼﻮرة. وهنا ﺑﺪأت ﺻﻠﺘﻲ ﺑﺎﻷﺳﺘﺎذ اﻟﺒﻨﺎ.. ﺑﻬﺬﻩ اﻟﻠﻤﺴﺔ اﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، وﺑﻬﺬا اﻟﺪرس اﻟﺬي كان ﻟﻪ أﻋﻤﻖ اﻷﺛﺮ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻲ، وإن ﻟﻢ أكن ﻗﺪ ﻧﻀﺠﺖ وﻓﻘﻬﺖ أﺑﻌﺎد هذا اﻟﺪرس، ﻏﻴﺮ أن اﻟﻘﻠﺐ ﻳﻌﻲ وﻳﺴﺘﺸﻌﺮ اﻟﺪروس اﻟﺼﺎدﻗﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺒﺎﺷﺮة وﺑﺼﺮف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ درﺟﺔ ﻧﻀﺞ ﺻﺎﺣﺒﻪ.
ﺑﺮكة اﻟﺘﻮكل ﻋﻠﻰ اﷲ
ويحكي الأستاذ عباس مزيدا من الحكايات في صحبة الإمام البنا فيقول: ... ﺗﻮﺟﻬﺖ إﻟﻰ اﻟﻘﺎهﺮة ﻷﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻋﻤﻞ 1939 ﺣﻴﻦ ﺣﺼﻠﺖ ﻋﻠﻰ دﺑﻠﻮم اﻟﻤﺪارس اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ وكان ﻣﻤﺎ ﺗﻌﻮدﻧﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﻧﺤﻦ إﺧﻮان اﻷﻗﺎﻟﻴﻢ أﻧﻨﺎ إذا ﺳﺎﻓﺮﻧﺎ إﻟﻰ اﻟﻘﺎهرة ﻻ ﺗﻔﻮﺗﻨﺎ ﻓﺮﺻﺔ زﻳﺎرة اﻹﺧﻮان وﻓﻀﻴﻠﺔ اﻟﻤﺮﺷﺪ ﺑﺎﻟﻤﺮكز اﻟﻌﺎم إرواء ﻟﻌﺎﻃﻔﺔ اﻟﺤﺐ واﻷﺧﻮة ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ وأرواﺣﻨﺎ.. وهناك كان اﻷﺳﺘﺎذ ﻳﻘﺎﺑﻠﻨﺎ وﻳﺒﺎدﻟﻨﺎ ﺷﻮﻗًﺎ ﺑﺸﻮق وﺣﺒًﺎ ﺑﺤﺐ، وﻳﺴﺄﻟﻨﺎ ﻋﻦ أﺧﺒﺎرﻧﺎ وأﺣﻮاﻟﻨﺎ .. وﻓﻲ هذه اﻟﻤﺮة، وﺑﻌﺪ أن رﺣﺐ ﺑﻲ، ﺳﺄﻟﻨﻲ ﻋﻦ ﺳﺒﺐ ﺣﻀﻮري إﻟﻰ اﻟﻘﺎهرة .
ﻓﻘﻠﺖ: ﺗﺨﺮﺟﺖ، وﺟﺌﺖ ﻷﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻋﻤﻞ .
ﻗﺎل: أﻟﻢ ﺗﻔﻜﺮ ﻓﻲ اﻟﺘﻄﻮع ﻟﻤﺪرﺳﺔ اﻟﺼﻨﺎﻋﺎت اﻟﻤﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ؟
ﻗﻠﺖ: إن ﺧﺮﻳﺠﻲ اﻟﻤﺪارس اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ﻣﻌﻔﻮن ﻣﻦ اﻟﺨﺪﻣﺔ ﻓﻲ اﻟﺠﻴﺶ .
ﻗﺎل: ﻟﻜﻦ رﺳﺎﻟﺘﻨﺎ ﺗﻮﺟﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ اﻟﺨﺪﻣﺔ ﻓﻲ هذا اﻟﻤﻴﺪان .
ﻗﻠﺖ: وﻟﻜﻦ ﺿﻌﻒ ﻧﻈﺮي ﻳﻌﻮﻗﻨﻲ، ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻻ أﻧﺠﺢ ﻓﻲ اﻟﻜﺸﻒ اﻟﻄﺒﻲ، ﺣﻴﺚ إن إﺣﺪى ﻋﻴﻨﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﺤﺎﺑﺔ ﻣﺰﻣﻨﺔ .
ﻗﺎل: توكل ﻋﻠﻰ اﷲ وأﻧﺖ ﺗﻨﺠﺢ .
ﻗﻠﺖ: كيف أﻧﺠﺢ ﻓﻲ اﻟﻜﺸﻒ اﻟﻄﺒﻲ وإﺣﺪى ﻋﻴﻨﻲّ ﺿﻌﻴﻔﺔ؟ !
ﻗﺎل: ﻣﻦ أﺟﻞ هذا ﻗﻠﺖ ﻟﻚ ﺗﻮكل ﻋﻠﻰ اﷲ، ﻷﻧﻪ ﻟﻮ كاﻧﺖ ﻋﻴﻨﻚ ﺳﻠﻴﻤﺔ كنت ﺳﺘﺘﻮكل ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻚ .
فهزني هذا اﻟﻤﻌﻨﻰ، وﺗﺬوﻗﺖ ﻟﻪ ﻃﻌﻤًﺎ إﻳﻤﺎﻧﻴًﺎ ﺣﻠﻮًا ... ﻓﺘﻮﺟﻬﺖ ﻣﻦ ﻓﻮري إﻟﻰ ﻣﺪرﺳﺔ اﻟﺼﻨﺎﻋﺎت اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎﺳﻴﺔ ﻣﻔﻌﻤًﺎ ﺑﻤﻌﺎﻧﻲ اﻟﺘﻮكل ﻋﻠﻰ اﷲ.. وﻗﺎدﻧﻲ أﺣﺪ اﻟﻀﺒﺎط ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺰﻣﻼء إﻟﻰ اﻟﻤﺴﺘﺸﻔﻰ اﻟﻌﺴﻜﺮي وكلي ﺛﻘﺔ وأﻣﻞ ﻓﻲ اﻟﻨﺠﺎح.. وﺟﺎءت اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻣﺤﻘﻘﻪ ﻟﻬﺬا اﻷﻣﻞ، ﺛﻢ اﻟﺘﺤﺎﻗﻲ ﺑﺎﻟﻤﺪرﺳﺔ، وأﺧﺬت ﺣﻴﺎﺗﻲ ﻣﺴﺎرًا ﺟﺪﻳﺪاً ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻓﻲ اﻟﺤﺴﺒﺎن . وﺣﻴﻦ اﻧﺪﻟﻌﺖ ﻧﻴﺮان اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻌﺠﻠﺖ وزارة اﻟﺤﺮﺑﻴﺔ ﺗﺨﺮﺟﻨﺎ ﻟﺤﺎﺟﺔ ﻣﻴﺪان اﻟﺤﺮب ﻓﻲ اﻟﺼﺤﺮاء اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ إﻟﻴﻨﺎ.. وكان (ﺿﺮب اﻟﻨﺎر) ﻣﻦ ﻣﻮاد اﻟﺘﻤﺮﻳﻦ واﻻﻣﺘﺤﺎن، وذهبت ﻣﻊ زﻣﻼﺋﻲ وكاﻧﻮا ﺣﻮاﻟﻲ ﻣﺎﺋﺔ ﻃﺎﻟﺐ إﻟﻰ ﺳﺎﺣﺔ (ﺿﺮب اﻟﻨﺎر) ﻟﻼﻣﺘﺤﺎن وأﻧﺎ أﺧﺸﻰ اﻟﺮﺳﻮب ﺑﺴﺒﺐ ﺿﻌﻒ ﻧﻈﺮي، وﻟﻜﻦ ﺳﺮﻋﺎن ﻣﺎ ﺗﺬكرت كلمة اﻷﺳﺘﺎذ (ﺗﻮكل ﻋﻠﻰ ﷲ وأﻧﺖ ﺗﻨﺠﺢ) اﻟﺘﻲ ﺳﺮﻋﺎن ﻣﺎ اﻧﺘﺸﻠتني ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﺷﻜﻮكي وهواﺟﺴﻲ وأﺧﺮﺟﺘﻨﻲ إﻟﻰ ﺷﻮاﻃﺊ اﻟﺜﻘﺔ ﻓﻲ ﷲ واﻷﻣﻞ ﻓﻲ ﻋﻮﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، وﺗﻮﺟﻬﺖ إﻟﻰ ﺗﺒﺔ (ﺿﺮب اﻟﻨﺎر) ﺑﻜﻞ اﻃﻤﺌﻨﺎن واﺳﺘﻌﻤﻠﺖ ﻋﻴﻨﻲ اﻷﺧﺮى، ووﻗﻒ (اﻟﺼﺎغ ﺣﺴﻴﻦ أﺣﻤﺪ) ﻗﺎﺋﺪ اﻟﺘﺒﺔ ﻟﻴﻌﻠﻦ اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ اﻟﻌﺠﻴﺒﺔ.. اﻟﻔﺎﺋﺰ اﻷول هو ﻋﺒﺎس ﺣﺴﻦ اﻟﺴﻴﺴﻲ ..!! وكم كانت هذه اﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻣﻔﺎﺟﺄة ﻣﺬهلة ﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﻌﺮﻓﻮن درﺟﺔ إﺑﺼﺎري اﻟﻀﻌﻴﻔﺔ، وﻟﻜﻨﻬﻢ ﻟﻮ ﻋﺮﻓﻮا أﻧﻬﺎ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻮكل ﻋﻠﻰ ﷲ ﻟﻤﺎ هاﻟﺘﻬﻢ اﻟﻤﻔﺎﺟﺄة.....وهكذا وﻋﻴﺖ اﻟﺪرس، واﺳﺘﻮﻋﺒﺖ ﻧﻔﺴﻲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ... (ﺗﻮكل ﻋﻠﻰ اﷲ) ظلت ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺸﻔﻮﻋﺔ ﺑﻬﺬﻩ اﻷﺣﺪاث ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻲ، ﻋﻘﻴﺪة ﺛﺎﺑﺘﺔ ﺗﻼزﻣﻨﻲ ﻓﻲ كل اﻟﻤﻮاﻗﻒ اﻟﺼﻌﺒﺔ اﻟﺘﻲ واﺟﻬﺘﻬﺎ، أتذكرها ﺑﻌﻤﻖ وﺛﻘﺔ، ﻓﺘﻠﻬﻤﻨﻲ اﻷﻣﻞ واﻻﻃﻤﺌﻨﺎن واﻟﺼﺒﺮ واﻟﺜﺒﺎت . (عباس السيسي)
.