واجبنا في أثناء المحن والابتلاءات

واجبنا في أثناء المحن والابتلاءات

وليد شلبي

 

المحن والابتلاءات والكروب من سنن الدعوات في كل وقتٍ وحين منذ خلق الله الأرض ومن عليها، أيًّا ما كان سببها أو المتسبب فيها، فهي سنة الدعوات وطبيعتها ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت:2]؛ لذا وجب على الدعاة والمصلحين أن يتعايشوا ويتعاملوا معها ما داموا على طريقهم ماضين وعلى نهجهم ثابتين.. فتكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا.. وفي ظل الهجمة المنظمة والمُهدَّفة والعاتية التي تتعرض لها الدعوة في كل وقتٍ وفي هذه الأوقات على وجه الخصوص؛ فقد توجَّب علينا أن نقف مع أنفسنا وقفةً نتذكر فيها بعض الآداب التي ينبغي علينا التحلي والتخلق بها في أوقاتِ الشدائد والمحن، لتعيننا على تجاوزها، والاستفادة منها، وتحويلها لنعمة بإذن الله.. وسنتحدث هنا سريعًا وباختصار عن بعض هذه النقاط. المعينة على ذلك:

أولاً- التقرب إلى الله والإقبال على القرآن:  

فلا بد لنا أثناء المحن والشدائد من أن نحسن صلتنا وعلاقتنا بالله.  فله سبحانه ومن أجله يقف الدعاة المواقف التي تُعرِّضهم للمحن، والله وحده المعين والرابط على القلوبِ والمثبت لها، ووسائل التقرب والالتجاء إلى الله كثيرة ولا نستطيع أن نُحصيها هنا، ولكن كل واحد منا أدرى بنفسه وبعيوبها وبما يُصلحها فيجب عليه الإكثار من الوسائل المعينة له على القربِ من الله.
القرآن العظيم الوسيلة الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراطٍ مستقيم.
نصَّ الله على أنَّ وظيفةَ هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجَّمًا مفصلاً هي التثبيت، فقال- تعالى- في معرض الرد على شُبه الكفار: ﴿وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيرا﴾ [الفرقان: 32-33]. 
فالقرآن مصدرٌ للتثبيت والعون في المحنة ؛ لأنه يزرع الإيمان ويُزكي النفس بالصلة بالله، كما أنَّ تـلـك الآيات تنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله؛ ولأن القرآن يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوِّم الأوضاعَ من حوله، وكذلك يمدُّه بالموازين التي تُهيئ له الحكم على الأمور بشكل سليم فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله باختلافِ الأحداث والأشخاص، كما أنه يرد على الشبهات التي يُثيرها أعداء الإسلام من الكفارِ والمنافقين كالأمثلةِ الحية التي عاشها الصدر الأول.
ولننظر في أثر قول الله- عز وجل ﴿مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى﴾ [الضحى: 3]. في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هو أثر قول الله عز وجل ﴿لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 103] لما ادَّعى كفار قريش أن محمدًا- صلى الله عليه وسلم- إنما يعلِّمه بشر، وأنَّه يأخذ القرآن عنهم؟!
وما هو أثر قول الله- عز وجل-: ﴿أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: 49] في نفوس المؤمنين لما قال المنافق ﴿ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي﴾ [التوبة: 49].
أليس تثبيتًا على تثبيت، وربطًا على القلوب المؤمنة، وردًّا على الشبهات وإسكاتًا لأهل الباطل...؟
ومن هنا نستطيع أن نُدرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوةً وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا؛ منه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين مَن جعلوا كلام البشر جلَّ همهم وشغلهم الشاغل. 


ثانيًا- التحقق بأركان البيعة:  

أركان البيعة العشرة التي ذكرها الإمام الشهيد حسن البنا (الفهم، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الثبات، التجرد، الطاعة، الإخوة، الثقة) هي رباط أخلاقي ارتبط به الدعاة وألزموا به أنفسهم في أوقاتِ الرخاء، فعليهم أن يتمثلوه عمليًّا في أوقات الشدة، فهي تجمع مكارم الأخلاق الواجب على الداعية التحلي بها طوال حياته، وفي مختلف الظروف والأحوال، سواء كانت في أوقات الرخاء أو الشدة، وفي تحلينا بهذه الأركان قولاً وعملاً وسيلة من أكبر وسائل تصدينا وثباتنا في وجه أشد وأعتى المحن والابتلاءات بإذن الله.. فلنتأمل حال صفٍّ فاهمٍ لطبيعةِ دينه ودعوته، مخلصًا وعاملاً ومجاهدًا ومضحيًا وثابتًا ومتجردًا لها وواثقًا في طريقه ومنهجه وقيادته، ومحيطًا هذا كله بطاعة وأخوة صادقة. ومن المعاني والأركان المهمة وقت المحن. 


ثالثًا- تعميق أواصر الأخوة ووحدة الصف:  

فأهمية الأخوة عمومًا لا يمكن الجدال والمناقشة فيها، فما بالنا في أوقات الشدائد والابتلاءات، فنكون أحوج وأشد حاجةً لها، فالأخوة تُعين على الثباتِ على المحن وتُعين في اللحظاتِ الحاسمة حين يجد الإنسان مَن يعينه ويُذكره ويكون من العوامل المعينة على تثبيته، ولنعي الأساليب الخبيثة التي يحاول البعض استخدامها لإثارةِ الفرقة بين الدعاة أو على الأقل لإبعادهم عن أهدافهم السامية وتشتيت جهودهم.  


رابعًا- الثبات والثقة:   

الثبات والحفاظ على الثوابت الدعوية وعدم الحياد عنها وعدم الترخص فيها من أهم صفات وخصال الدعاة المخلصين لله، كما أنَّ الثقةَ بكل أنواعها - في وعد الله، النفس، القيادة، المنهج - من أهم عوامل اجتياز المحن والابتلاءات واستثمارها، فالداعية حين يثبت على ما يلاقيه في سبيل الله، فهو يتقرب إليه سبحانه راجيًا منه القبول وواثقًا في طريقه ومنهجه وواثقًا في وعد الله له في نهاية المطاف، كما أنَّ هذا من صفات الأنبياء والصالحين عبر العصور ثقةً وثباتًا طوال الطريق.. يقول الشهيد سيد قطب: «إنَّ موكب الدعوة إلى الله موغلٌ في القدم، ضاربٌ في شعابِ الزمن، ماضٍ في الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب.. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام.. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويُصيب الأذى مَن يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء.. والموكب في طريقه لا ينحنيِ ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد.. والعاقبة هي العاقبة مهما طال الزمن ومهما طال الطريق.. إنَّ نصرَ الله دائمًا في نهاية الطريق». ويجب أن تكون الثقة متبادلة بين القيادة والصف، ولا يتم ذلك ولا يكتمل إلا بنزول القيادة- على كل المستويات الإدارية- إلى الصف، وتعميق التواصل، والاستماع إلى آراء الصف ونصائحه، والرد على الأسئلة التي تطرح، فيتم بذلك الالتحام ما بين الصف وقيادته، وتتبدد الغيوم وتنقشع الشبهات.
    ولأهمية الثقة نجد الأعداء والمتربصين في القديم والحديث يحرصون على محاولة النيل منها بأسلوب التشكيك والتشويه والتخوين واتهام النوايا وإلصاق التهم الباطلة، سعيا إلى هزّ الثقة.
    وقد يلتبس على البعض النقد والتشكيك، فيظن التشكيك نقدًا لا بأس به أو يظن النقد تشكيكًا فيرفضه، والحقيقة أن هناك نقدًا بنَّاءً ونقدًا هدَّامًا، فالنقد البناء له أسلوبه وآدابه وقنواته التي يصب فيها دون أن يحدث بلبلة، وتلمس الجماعة من صاحبه الصدق وحب الخير، أما النقد الهدَّام وهو من أساليب التشكيك أيضًا فنجده لا يأخذ الطريق الصحيح، ولا يوحي بحب الخير والمصلحة.
     فالواجب أن نقبل النصح ونستفيد من النقد البناء، وأن نرفض التشكيك والنقد الهدَّام، لا نستمع إليه ولا ننشغل به، ولا نبادل أصحابه مهاترات أو مساجلات.  

       
خامسًا- الالتفاف والتوحد خلف القيادة والتلقي منها وعنها:  

فإذا كان من الواجب وحدة الصف في كلِّ الأوقات، فإنها أوجبُ في أوقاتِ المحن والشدائد والابتلاءات؛ لأن فيها تظهر معادن الرجال، والتوحد خلف القيادة في هذه الأوقات إنما ينم عن معدنٍ طيبٍ ونفيسٍ وإخلاص وتجرد، ولنكن عونًا للقيادة على العقبات والشيطان، ولا نكون عونًا للشيطان على القيادة والأفراد؛ وذلك لنجعل القيادة تؤدي واجبها وهي مرتاحةٌ نفسيًّا على الأقل لا أن تكون بين مطرقةِ الخارج وسندان الداخل، فالقيادة الشرعية- على أي مستوى- تحتاج منا لوقفةٍ جادةٍ مخلصةٍ أوقات المحن لنشد ظهرها وندعمها ونتقرب إلى الله بطاعتها.  


سادسًا- عدم الالتفات والاهتمام بما يُشاع ويُثار من تُهمٍ وأكاذيب:  

وهذا من أوجب واجبات الأفراد ألا يُثيروا القلاقل بين إخوانهم في الصفِّ، ولكن عليهم التبين والتوثق من القيادة أولاً ثم يكون رأيهم بعد ذلك: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 83].
وهذه ليست دعوةً لكبت الآراء وتحجيمها ولكنها لنفقه الأولويات في مواجهة الأزمات، فالأولى هو وحدة الصف وتماسكه أثناء الأزمة، ثم ليكن بعد ذلك تقييم وتقويم وإبداء الآراء بحرية ووضوح وشفافية، ولكن ليس في وقتِ المحنة والأزمة، فهذا يكون بعدها أولى وأوجب، ولنوحد الجهود والطاقات ولا ننجر نحو ما يريده البعض منا من التركيز على قضايا فرعيةٍ وخلافيةٍ وجدلية لتشتيتنا عن قضايانا الكبرى ومهامنا العظيمة. 


سابعًا- الحيطة والحذر وعدم الفردية  

فإذا كان من واجب القيادة حماية الصف وأفراده والحفاظ عليه، فهذا ليس قاصرًا عليها وحدها، ولكنه ينسحب على الأفراد كذلك حتى لا يحدثوا أمرًا يتسبب في قلاقل للصف والأفراد، فضلاً عن أن يؤدي لإيذاء أي فردٍ من الأفراد بأي صورةٍ من الصور، وكذلك أيضًا عدم الفردية في الأفعال والأقوال لما في ذلك من خطرٍ قد يُسبب الكثير من المشاكل العملُ في غنًى عنها.. فعلى الأفراد التحلي بالكياسة والفطنة والذكاء وأعلى درجات الحكمة في أوقاتِ المحنة، فلنحرص على عدم إحداث أي فعلٍ من شأنه أن يُسبب قلقًا للصفِّ بأيٍّ من عناصره.
ثامنًا- العمل الجاد والمنتج:
فواجبنا أثناء الفترات العصيبة البعد عن الجدال، وإيثار الجانب العملي على الجانب القولي وأن نُري الله منا خيرًا في هذه الشدائد ونستثمرها في تنمية أنفسنا وذواتنا وجميع الدوائر المحيطة بنا.. ولنوجه جهودنا نحو أداء أدوارنا الموكلة إلينا وأن نبذل قصارى جهدنا ونفرغ وسعنا فيها غير متأثرين بأي أحداث حولنا، فضلاً على أن نتأثر بأقوال مرسلة تستفرغ طاقتنا ووقتنا وتُؤثر على أخوتنا ووحدتنا وترابطنا، وليكن شعارنا "لن يسبقني إلى الله أحد". وإذا كان على القيادة المسؤولية الأكبر؛ فهذا لا يعفي الفرد من القيام بواجبه تجاه دعوة الله، فيجتهد فيما يتقنه، ويؤدي دوره على النحو المأمول في لقاء الأسرة، وفي أي لقاء يجمعه بإخوانه؛ فيحسن التحضير، ويلتزم بمواعيد اللقاء، ولا يتخلف إلا لعذر قاهر، وعليه أن يفيد إخوانه في اللقاءات، ويعتبر نفسه مسؤولا أمام الله تعالى عن تقوية الصف للوصول به إلى الهدف المنشود وهو رضا الله تعالى، والنصر على الأعداء، والتمكين لدين الله في الأرض. 


تاسعًا- دراسة سير السابقين:  

لنرى أنَّ المحن والشدائد والابتلاءات من سنن الدعوات وكيف واجهوها وثبتوا في وجهها غير مبدلين ولا مُفرطين، وسيبقى الأجر للثابتين الصابرين المجاهدين في الله حقِّ جهاده، وسيبقى الندم للمقصرين والمفرطين ولكن في وقتٍ لن ينفع فيه الندم: ﴿كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [هود:120].   

عاشرًا: الشعور بالمسئولية: 

فالدعوة ملكٌ للجميع وواجب على الجميع حمايتها وعدم التقصير فيها، وبذل كل جهد ممكن للحفاظ عليها وحمايتها، ولا بد على كل فردٍ من الشعور بمسئوليته المباشرة عن حماية دعوته تقربًا لله تعالى وبذل النصح الواجب، وفقاً لما يقرره الإسلام من آداب وضوابط. 
وكما يقول الإمام البنا: "لا يتخلف عن الواجبات متخلف مهما كانت أعذاره"؛ لأن الأعذار دائما قائمة والتعلّات دائما حاضرة، ولكن يبقى أن من كان عليه واجب فلينهض بأدائه.

.

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم