فى صميم الدعوة .. الله غايتنا

فى صميم الدعوة .. الله غايتنا

الإمام حسن البنا

﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]

لله على هذه الأمة الإسلامية حقوق لم تقض بعد، وله عندها واجبات لم تؤد بعد، وبين أيدى هؤلاء المسلمين أمانة لله لم يقوموا بحقها، ولم يحتفظوا بها. إن الله أنزل كتاباً وأرسل رسولا ًوشرع دينًا ووضع حدودًا ورسم نظامًا يصل بالناس إلى سعادة الدنيا والآخرة، فهل الأمة الإسلامية فى مظاهر حياتها الحالية مع كتاب الله الذى أنزل، وحدوده التى وضع، ونظامه الذى رسم، أم إنها قد دب إليها الداء ممن جاورها فاختلط عليها أمرها واضطرب شأنها، وتلوثت حياتها بما يتنافى مع الإسلام وشرائع الإسلام؟
لاشك أنك معى فى أن الأمم الآن فى قوانينها وفى عاداتها وفى مجتمعاتها وفى بيوتها وفى غير ذلك كله من مظاهر الحياة فى وادٍ، والتعاليم السماوية الربانية فى وادٍ آخر، والأخ المسلم حين يهتف من أعماق قلبه الله غايتنا، إنما يريد غاية الإخوان المسلمين أن تعلو على كل كلمة، وأن يسود تشريع الله كل تشريع، وأن يهيمن النظام الذى وضعه الله على كل نظام سواه، وأن تكون الأمة كلها فى كل شأنها عند حدود الله، وأن يصبح المسلمون ربانيون بما كانوا يعلمون الكتاب وبما كانوا يدرسون، والأخ المسلم حين يقولها من أعماق قلبه قد نسى الدنيا بأعراضها ومطامعها وقد فنى عن شهواتها ولذائذها، وقد غاب شخصه وهواه ومثل أمامه شىء واحد أن تنتصر دعوة الحق بالحق، وحسبه من ذلك كله رضوان الله وكفى ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36].
إن الإسلام جاء بالحق والهدى والنور، وحشد المسلمين جميعاً فى صف واحد للدعوة إلى هذا الهدى والجهاد فى سبيله والتضحية فى ذلك بالنفس والمال، ووعدهم على ذلك الجنة التى عرضها السموات والأرض، فالأخ المسلم يعيش للحق، ويجاهد فى سبيل الحق، والحق عنده هو دين الله وشرعه، والجزاء عنده هو رضوان الله ومثوبته، أما هذه الدنيا بما فيها من ملك عريض وجاه فارغ ومال زائل وأمتعه فانية وأهواء جامحة فلا تزن عند أهل الحق جناح بعوضة. إن الأخ المسلم حين يهتف الله غايتنا فإنما يقصد أنه لله يعمل وبه ينتصر ومنه يرجو الثواب، أنه يتمثل قول الله تعالى: ﴿إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[الأنعام: 79]. ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للهِ رَبِّ الْعَالَمِين لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162].
إذا وقف المال حائلاً دون هذه الغاية، فإن الأخ المسلم الذى يهتف من قلبه الله غايتنا مستعد لبذل المال فى سبيل الله، وإذا وقف الأهلون والأبناء حائلاً دون هذه الغاية، فإن الأخ المسلم الذى يهتف من قلبه الله غايتنا على أتم اسعتداد لمفارقة هؤلاء الأهل والأبناء فى سبيل الله، لا بل لمجاهدتهم وقتالهم، وقتلهم إن وقفوا فى طريق دعوة الله، وإن نبت الأوطان بالأخ المسلم وقلاه أهلها وضايقوه فى دينه، وأخذوا عليه مسالك دعوته فهو مستعد لمفارقة هذه الأرض غير نادم عليها ولا آسف لفراقها فى سبيل الله، وإذا ما احتاجت الدعوة يومًا إلى الدماء قدم فى سبيلها روحه ودمه، وما أرخصه فى سبيلها من فداء.
كل هذه الأعراض لا توضع عند الأخ المسلم فى ميزان عقيدته التى يسمو بها على كل ما فى الأرض من أعراض وأغراض، ولم لا وقد جرد الله عباده المؤمنين له من قبل وتوعد من تخلف فقال: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾]التوبة: 24[.
إذا سمعت الأخ المسلم يهتف الله غايتنا، فاعلم أنه يقتدى فى ذلك برسول الله  يوم عرض عليه المُلك والمال فكان جوابه: "لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى ما رجعت عن هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه"( ).
ويقتدى بأبى بكر  يوم جاء بماله كله لرسول الله  فقال له: وماذا تركت لعيالك؟ فقال له: تركت لهم الله ورسوله. ويقتدى بالشهيد عمير بن الحمام فى صف بدر حين ألقى درعه ولقى حاسرًا عدوه مندفعًا يقول( ):  

ركضا إلى الله بغير زاد
 إلا التقى وعمل المعاد

والصبر فى الله على الجهاد
 وكل زاد عرضة النفاد

إلا التقى والبر والرشاد 

ويقتدى بأولئك الغر الميامين من أصحاب محمد  ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران: 173]، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾[الأنعام: 90].
فحين يعمل العاملون من الدعاة فى الأمم، ليصلوا إلى المال يبتزونه باسم الإصلاح، أو يصلوا إلى المجد فوق هامات الأمم والشعوب، أو يصلوا إلى الحكم؛ ليتمتعوا بما فيه من صولة وسلطان ومكاثره ومفاخره، يعمل الأخ المسلم، ليراه الله وحده، ولينصره الله وحده، وليرضى عنه الله وحده: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾]البينة: 5[، فاللهم ذوقنا حلاوة معرفتك ولذة الأنس بك ولا تصرف وجوهنا عن رضوانك ولا تكلنا إلى سواك ولا تدعنا لأنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ﴿إِنَّ وَلِيِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾[الأعراف: 196].
أيها الناس، عيشوا للحق، وموتوا فى سبيله، واعملوا، وانعموا بلذة ذلك، وهذه سبيل الإخوان المسلمين، وقد يفهم إنسان أن معنى هذا أن الإخوان يحملون أنفسهم ويحملون الناس معهم على معنى من التصوف والرهبنة والبعد عن شئون الأمم الحيوية من وطنية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها، فنقول لهذا الواهم: على رسلك.
إن الإخوان أشد الناس تطرفًا فى وطنيتهم، فهم لا يطيقون أن يكون فى أرض الإسلام مستعمر واحد، ويعملون بالنفس والمال فى سبيل تحرر الوطن الإسلامى العام، والله فى ذلك غايتهم لأن الله هو الذى فرضه عليهم وهو الذى أمرهم به وهو الذى اقتضاهم إياه فإن لم يقوموا به كانوا آثمين.
والإخوان أشد الناس عناية بشئون الأمة من ثقافية واقتصادية واجتماعية وقانونية، والله غايتهم فى ذلك كله لأن الله هو الذى أراد أن يكون المسلم سيدًا فى كل شىء، وإمامًا فى كل شىء، وقدوة للناس، وأستاذًا لهم فى كل شىء؛ حتى يستطيع القيام بحق الرسالة العظمى التى انتدبه به الله لها، وأمره بحمل الناس عليها، وإفهامهم إياها ومن هنا كانت دعوة الإخوان المسلمين جامعة لأنها تشمل هذه الشئون جميعًا، وكانت إسلامية لأن الإسلام هو الذى تناول هذه الشئون جميعًا، وكانت ربانية إلهية، الله فيها هو الغاية؛ لأن الله هو رب الإسلام وهو الذى امتن به على الناس أجمعين.
قد تقوم الدعوة للوطنية المجردة من الحافز الإلهى، وقد تقوم للإصلاح فى أية ناحية من نواحى حياة الأمة، وهى خالية كذلك من هذا الوازع، فما أسرع ما تنحرف بالدعاة الطريق، وتلتوى عليهم المقاصد، وتخدعهم زخارف الحياة الدنيا أما تلك الوطنية التى ترتفع فى نفس صاحبها إلى مرتبة القداسة إذ يراها فريضة من الملأ الأعلى، وذلك الإصلاح الذى يسمو فى نفس صاحبه حتى أنه ليراه من تعاليم الله فذلك ما يتأبى على الأهواء والخدع، ويستعصى على الشهوات والمطامع، ويرفع صاحبه عن مستوى النفس العادية، فيعيش سعيدًا، ويموت شهيدًا، ومن هذا المعين يستقى الإخوان المسلمون تصحيح الغاية وتجديدها, وعمق الإيمان بها أول طريق النجاح فى حياة الأمم ونهضاتها, وذلك هو اللولب الذى إن وفق الزعماء إلى حسن استخدامه، سلكوا أفضل السبل، فلا تعش أيها الأخ بغير غاية، ولا تجعل غايتك شيئًا إلا رضوان الله ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[طه: 73].

 

.

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم