Business

صفحات تربوية من حياة مهدي عاكف

تمر السنون تلو السنين والأيام تلو الأيام ويولد أناس ويموت أناس وكثير منهم من يولد ويعيش ويموت ولا يعرفه أحد، ومنهم من يولد ويعيش فتعرفه كل أركان الأرض بأعماله الصالحة بل تذكره الملائكة في رياض الصالحين.

ومهدي عاكف واحد ممن عاش طيلة حياته ومات ويتذكره الجميع بأعماله الخالدة وسنحاول في هذا المقال أن نتلمس ما لم يعرفه الناس عن الأستاذ محمد مهدي عاكف.

 

بداية الرحلة

في جو امتاز بصفاء الطبيعة وروعة الحياة وبساطة المعيشة وصدق المشاعر بين أبناء القرية نشأ محمد مهدي عاكف وسط أسرة متدينة حرص رب الأسرة على تربية أبناءه تربية إسلامية، فقد ولدت في يوم 12 يوليو من عام 1928م بقرية كفر عوض السنيطة مركز أجا محافظة الدقهلية، ويصف أسرته بقوله: [ولدت في أسرية ثرية وهي أسرة عاكف حيث كان جدي عثمان عاكف الطبيب الخاص للخديوي وللسلطان غير أن الإنجليز قتلوه في عام 1900م وكان والدي عمره سنتين].

ولننظر لوصف بيته وكيف كان في الصغر بقوله: [ كان بيتنا الكبير مملوءًا دائمًا بالخيرات وكان والدي محط احترام أهل القرية وإجلالهم، وما يكاد يخرج من البيت لعمله حتى تدب الحركة، ويعلو صياحنا -نحن الأطفال- حتى يملأ البيت، وتبدأ أمي الحبيبة تلك الملاك الجميل، الباسم الوجه، المشرقة، المحبة -يومها بعد صلاة الفجر بتجهيز طعام الإفطار الشهي، وإيقاظ النائمين، ثم تبدأ في أعمال البيت بكلِّ همة ونشاط.

و أتاح لنا مرور الترعة من أمام البيت أن نتدرب على فنون صيد الأسماك فكنا نخرج بالساعات نقضيها على الترعة في صيد السمك، وكانت هذه المهنة لها عامل كبير في تعليمنا فنون الصبر والتريث].

لقد تشكلت مقومات شخصية عاكف على يد والده الذي حرص على تعليم أولاده معنى الرجولة الحقة وفنون الحياة العزيزة والقوة، وفنون الحوار مع العاقل والإعراض عن السفيه والجاهل.

 

أول خطوة في جماعة الإخوان

في مدرسته التي انتقل لها في القاهرة وفي مسجدها كانت جموع الشباب تلتقي لتقف بين يدي ربها وبعدها تتلاقى القلوب لتتعارف وكان وسط هؤلاء من يرتفع مقامه وتلتف حوله القلوب ويستمع له الجميع.. إنه واحد من طلاب الإخوان المسلمين- الذين حملوا هم دعوتهم فنشروا عبيرها وسط القلوب الطاهرة النضرة فتلقفها بعضهم وكان مهدي عاكف منهم، وتعرف على الإخوان والتقى بالأستاذ البنا بالمركز العام عام 1941م.

 

صراع النفس

انتقل عاكف وأسرته إلى شارع الملكة نازلى (رمسيس حاليا) وقت أن كان على مفترق الطرق حيث تخرج من التوجيهية وكان والده يسعى بكل قوته من إلحاقه بالكلية الحربية من أجل أن يبعده عن الإخوان المسلمين وتقدم ونجح في الكشف الطبي غير أنه رأى بعض السلوكيات الشائنة التي دفعته لسحب أوراقه وتقديمها في كلية الهندسة ولم يمانع والده لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث إنه كان قد انضم للنظام الخاص والتقى بالإمام البنا بعد فترة من انتقاله في السكن وتحدث الأستاذ البنا معه، وأن الإخوان ليس لهم في معهد التربية الرياضية العالي أحد، فسمع الكلمة وتحدث مع صديق له اسمه صلاح حسن الذي وافقه على أن يذهب لكلية التربية الرياضية وكانت الأمور تسير بكل يسر حيث استقبلوه في الكلية بالترحيب مما شجعه أن يسحب أوراقه من الهندسة ويتقدم بها للتربية الرياضية بعد نجاحه في كل الاختبارات.

قبل عاكف في التربية الرياضية فكانت الأزمة مع والده وإخوته الذين رغبوا أن يكون مهندسا مثلهم ولم تهدأ العاصفة إلا بعد شهور حينما زار والده التربية الرياضية ووجدها من الكليات المحترمة.

ولنستمع منه عن الأسباب التي دفعته لدخول التربية الرياضية حيث قال: [لكن الحقيقة أنني دخلت المعهد لسببين، أولهما لخدمة الإخوان حيث كنا نرغب في الانتشار وتوصيل دعوتنا في كل مكان، أما السبب الثاني فقد كان والدي نفسه رحمه الله، كان شديدًا جدًّا في حرصه علينا، فلا نتأخر بعد الثامنة، ولأنني كنت في النظام الخاص، وكنا كثيرًا ما نتأخر وأحيانًا أرغب في المبيت خارج المنزل، فقد كان التحاقي بالمعهد فرصة لأتعلل عندما أتأخر خارج البيت].

وحينما اندلعت حرب فلسطين كان واحد من الذين درب المجاهدين ووفر السلاح تحت مظلة جامعة الدول العربية غير أنه اعتقل مع بقية المجاهدين والإخوان وظل بالسجن حتى خرج في يناير 1950م.
 

على أرض النار

خرج النحاس باشا بتصريحاته النارية التي ألهبت الوجدان وأشعلت جذوة النار في قلوب طلاب الجامعات بعدما قرر إلغاء معاهدة 1936م من طرف واحد فانطلق الطلاب يكبدون العدو الإنجليزي الخسائر تلو الخسائر في حرب القنال، فكان عاكف أحد هؤلاء الذين قادوا معسكر التدريب في جامعة إبراهيم باشا فخرج جيل زلزل أركان المحتل عام 1951م، يقول:[ في أحد الأيام فوجئتُ بالدكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق، يأتيني ويقول لي إن مدير الجامعة الدكتور محمد كامل حسين يريد أن يقوم بافتتاح المعسكر على شاكلة معسكر جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، فقلت له: يا عثمان بك نحن خارجون عن القانون ونعمل في حمى حرم الجامعة، ولا نستطيع أن نقوم بذلك خارج الحرم الجامعي، وأنتم لكم صفة رسمية، فهل تشاركوننا هذه المسئولية؟ فلست أنسى هذه الكلمة أبدًا، قال لي: شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم].

هذه بعض المواقف من حياة مهدي عاكف -وهي كثيرة جدا -الذي كان نزل ضيفا على كل سجون الطغاة من الملك فاروق حتى توفاه الله، وقد اقترب من التسعين عاما لكنه ظل ثابتا راسخا لم يهزمه مرض ولم يخيفه عسكر ولا تهديدات نالت منه بل أتعب هؤلاء حتى يأسوا من أن ينالوا منه فتركوه ومرضه للموت.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم