اعتنت الشريعة الإسلامية بالأسرة غاية العناية في تكوينها ورعايتها بعد ذلك التكوين من خلال منظومة تشريعية دقيقة؛ بيد أن هذه الأسرة أصبحت تتعرض في عصرنا الحاضر لهجمة شرسة من العولمة الغربية التي تعمد إلى تعميم النمط الحضاري الغربي والأمريكي بوجه أخص على كل مجالات الحياة في المجتمعات الإنسانية؛ لتُوجِد نسخة كربونية من المجتمع الغربي باتجاهاته الفكرية وممارساته السلوكية وعاداته في الحياة والعيش ممتدة إلى كل مناحي الحياة.
وفي هذه الدراسة، يرصد الباحث د. عبد الله بن وكيل الشيخ، أن البشرية بعمومها، والأمة المسلمة بوجه أخص، مهدَّدة بسبب هذه العولمة التي سيكون من ثمراتها المُرة تمزيق النسيج الاجتماعي وتحطيم مفهوم الأسرة بمفاهيم العولمة الجديدة، إذ هي خَلْق لنسيج اجتماعي جديد تُلْغى فيه كل الأدوار النمطية لكلٍّ من الرجل والمرأة.
مخاطر العلمانية
وفي مثل هذا المجتمع التي تنشئه هذه الحركة تغيب العلاقة بين الآباء والأبناء؛ حيث لا يعرف حقيقة من هم الآباء، وتلغى فيه الأخلاق، وتتلاشى أو تضعف دائرة المحرمات؛ لتفسح المجال للعبث الجنسي الذي لا ينتهي إلى نهاية، وستسود حينئذٍ النزعة الأنانية وتستحكم المادية الشرسة وتغيب الفضائل الإنسانية التي لا تعمر الحياة إلا بها، ولا يطيب العيش إلا في ظلالها، وستشهد بعينيك أشباحاً بشرية أبعد ما تكون عن الإنسانية الكريمة.
وفي ظل هذه العولمة سيزداد الفقراء فقراً والأغنياء تخمة من خلال مجتمع الخُمْس الغني، وأربعة الأخماس الفقراء، وللفقر سيئاته التي لا يجهلها أحد على الفرد والأسرة والمجتمع.
لا يصح والحالة هذه أن تعيش المجتمعات البشرية والمجتمعات المسلمة بوجه أخص حالة الانقياد لوحش العولمة الكاسر أو في أحسن الأحوال حالة عدم المبالاة؛ حتى يجرفنا التيار، بل يجب أن يستيقظ الإحساس وينمو الشعور بالواجب فننهض بواجبنا الشرعي في إنقاذ مجتمعاتنا من هذا الطوفان المدمر بقوانا المتعددة وإمكاناتنا المتنوعة ومن خلال مواقعنا في مجتمعاتنا.
واجب المجتمعات المسلمة
وأول من ينبغي أن يمسك بزمام المبادرة في صد هذه الهجمة العولمية الأسرة ذاتها، من خلال بنائها الأسري المتين الذي ينهض بالواجبات الشرعية المناطة به؛ فإن الدخول في عالم الأسرة دخول في مسؤوليات دينية واجتماعية تتعيَّن العناية بها والحرص على الوفاء بها بصورة تكفل لهذه الأسرة التماسك، والشريعة الإسلامية أفاضت في تحديد الواجبات الشرعية لعناصر هذه الأسرة التي تضبط إيقاعها وترسم حدود التعامل فيها.
ومن ثم فإن على الأسرة أن تُشِيع في محيطها الودَّ والسلام؛ حتى تكون ظلاً وارفاً وعيشاً هنيئاً يَسْعَد أفرادها بالكينونة فيه ويحرصون كل الحرص على دوامه واستمراره، وأسوأ ما يكون في واقع الأسرة أن تكون طاردة للأبناء؛ فينشدون الاحترام والتقدير خارجها من خلال صداقات وزمالات قد تكون في بعض الأحيان هادمة لكثير من المعاني التربوية التي يسعى الأبوان لتحقيقها، ولكنهما - بإهمالهما أو بممارساتهما - أتاحا لها الهدم على أيدي تلك الصداقات ثمرة تقلُّصِ الجو الأسري الذي كان ينبغي أن يجد الأبناء فيه من المعاني ما لا يجدونه خارجه.
وغني عن القول أن مما يسهم فيما ذُكِر نموُّ ثقافة الأبوين وتحصيلهما لمهارات قيادة الأسرة؛ خاصة في ظل النمو المعرفي المتزايد للطبقات الناشئة نظراً لتوفر المعرفة التي أوجدت منظومة جديدة من الاحتياجات العقلية والنفسية والمادية للأبناء.
وللمجتمع بأجهزته المتعددة أدوار عديدة في نجاح الأسرة لا تقل أثراً عن دور الأسرة الذي سبق آنفاً بعض جوانبه، بل ربما تتجاوزها أحياناً، نظراً إلى تعدد الإمكانات التي يمتلكها المجتمع وقد لا تملكها الأسرة؛ ويأتي في أول قائمة واجبات المجتمع تجاه الأسرة، رَسْم استراتيجية عامة للأسرة نهوضاً بها وتحقيقاً لبنائها بناءً متيناً، وحمايتها من المؤثرات الضارة التي بَلَت العولمة بها عالمنا اليوم، ترسم هذه الاستراتيجية من خلال تكاتف قوى المجتمع المتعددة التي يأتي في مقدمتها أجهزة التعليم والإعلام والشباب ومؤسسات الرعاية الاجتماعية.
ويتنادى الجميع للنهوض بتكاليفها من خلال عدد من الأنشطة: كالتشجيع على الزواج وتيسيره، والتوعية بالأحكام الشرعية المتعلقة بالأسرة وبالدراسات الاجتماعية والنفسية المتعلقة بها، ورعاية الأمومة والطفولة والمسنِّين والزوجات في الخلافات الزوجية ومشكلات الشباب مع الآباء والأمهات، وإقامة مجالس الصلح بين أفراد الأسرة، والعناية بدور الحضانة والمدارس ووسائل الإعلام والمساجد التي تمثل التربية الخارجية التي تشكّل أفراد الأسرة من داخل نفوسهم.
وإذا كانت أجهزة المجتمع مطالبة بهذا التفعيل الإيجابي لهذه الاستراتيجية، فإن جهاز التعليم يتحمل من بين أجهزة المجتمع عبئاً أكبر في هذا النهوض؛ فهو الجهاز الذي يقضي فيه الفرد أغلى سنوات العمر، سنوات بناء المعاني والاتجاهات وتأسيس المعارف والأخلاق وإيجاد المهارات التي تؤسس لقدرة الفرد المستقبلية في تعامله مع نفسه أو الناس من حوله، وهو جهاز يحظى بإمكانات هائلة ولديه من البرامج والطاقات البشرية فضلاً عن الاعتراف الاجتماعي وربط الحركة في الحياة بواقع التعليم، وهو ما يؤهله لدور كبير تجاه بناء الأسرة.
ثم يلي هذا الجهاز جهاز الإعلام الذي بات وللأسف الشديد من أكبر المهددات للحياة الأسرية ومن أطول أذرعة العولمة التي تخطط لإحداث الآثار الضارة في المجتمعات؛ على أن الصورة المثلى التي نتمنى أن يكون عليها الإعلام في ديار الإسلام، هي: أن يكون جهاز توجيه يعوَّل عليه في محيط الأسرة في رسم الاتجاهات الإيجابية في الحياة الأسرية؛ فهو الذي يعزز القيم، ويبني الفضائل، ويقاوم الجريمة، وينشر ثقافة الجد والعمل، ويوجِد الروح التنافسية بين أفراد المجتمع في السعي لخير مجتمعاتهم، ويعظم الإيجابيات الموجودة ليغري بها الناس؛ فيرى المتلقي صوراً إيجابية لمن حققوا إنجازات في شتى ميادين الحياة في جوانبها الدينية والدنيوية.
وعلى الحكومات في ديار الإسلام واجب كبير في مقاومة هذه العولمة في جوانبها الضارة، من أمثال: التصدي للمواثيق الأممية التي تُساق إليها المجتمعات بثقافة العولمة والاعتراض عليها، بل إسقاط موادها المخالفة للشريعة الإسلامية متى ما أمكن ذلك، والتفاعل بإيجابية في تقديم البديل الشرعي الذي سنَّته الشريعة؛ إذ هو الموافق للفطرة البشرية والمحقق للمصلحة الإنسانية والدفاع عن حوزة الإسلام (فكراً ومنهجاً) لا يقل عن الدفاع عن حوزته (أرضاً ووطناً)؛ فكلاهما من واجبات الدولة المسلمة وكلاهما من شرائط التمكين في الأرض واستجلاب التوفيق من الحق، سبحانه.
.