Business

موعظة لقمان الحكيم ودروس في التربية القرآنية

الحديث عن التربية حديث مهم تنبع أهميته من أهمية التربية نفسها، وذلك باعتبارها المدخل الصحيح لإيجاد الشخصية المسلمة المتزنة المستقيمة، وتنشئة جيل فاقهٍ لدينه متمسك به، عامل به وداعٍ إليه، ليحقق خيرية الأمة.

تتضمن الآيات - موضوع الدراسة - منهجاً تربوياً سامياً لمن امتثلها وعمل بمقتضاها كما يريد الآباء ورجال التربية.. وهي تغنيهم عن غث النظريات التربوية المستوردة.

ويرى الباحث أحمد بازز، أن هذه الموعظة تحمل إلينا دعائم تربوية من الأهمية بمكان، يستفيد منها المربي قبل المتربي (المتلقي)، ولا يستطيع المهتم بمجال التربية - مهما كان ضليعًا ومتخصصاً في هذا العلم - أن ينكر أهميتها وشموليتها لكل المناحي (الدينية والدنيوية) في الأخلاق والآداب والمعاملات.

 

بين يدي الموعظة

يشير الباحث أن هذه الموعظة اتسمت بأمور جعلتْها بليغة ومثمرة:

أولاً: أنها حكيمة وصادرة من حكيم.

ثانياً: استعمل لقمان الحكيم أسلوب النداء من باب المجاز لطلب حضور الذهن لوعي الخطاب.

ثالثاً: استعمل التصغير لكلمة الابن (بني) لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية على الشفقة به والتحبب له، وفي مقام الموعظة يدل على تمحض النصح، وفيه حث على امتثال الموعظة.

رابعاً: تكرار أسلوب النداء بين هذه الوصايا التي ضمتها الموعظة لتجديد نشاط السامع لوعي فحوى الخطاب.

ويستفاد مما ذكر أن استقبال الخطاب وفهم مراميه يختلف من شخص لآخر وفْق استعداداته وإمكاناته العقلية، ولذلك ينبغي مراعاة ذلك حتى يكون لما يُلقيه المربي (أباً كان أو مدرساً) من أقوال أو توجيهات قبول حسن ينتفع به سامعه.

إن القرآن قد زكّى هذه الموعظة الحكمة فسطرها -سبحانه- في كتابه وصيةً ذهبية صالحة لكل زمان ومكان، متى امتثلها الإنسان انتفع بها أيما انتفاع، ونحن من منطلق عقيدتنا الإسلامية أوْلى بها من غيرنا، وأن نستفيد منها كما سطرها الوحي في ثنايا المصحف الشريف، دون أن تحتاج إلى صياغتها في قوالب تشبه تلك النظريات التربوية الفاشلة المستوردة (بأموال طائلة) من غرب عالمنا وشرقه لأسماء بشرية يعتري النقص والقصور أفكارهم.


 

مع الموعظة

لما كان أخطر الذنوب على الإطلاق وأشدها عقوبة يوم القيامة هو الإشراك بالله، فقد ابتدأ لقمان موعظة ابنه بطلب إقلاعه عن الشرك بالله؛ لأن النفس المعرضة للتزكية والكمال يجب أن يقدم لها قبل ذلك تخليتها عن مبادئ الفساد والضلال؛ فإن إصلاح الاعتقاد أصل لإصلاح العمل.

فجاءت الموعظة بقاعدة ذهبية ينبغي أن تكتب على أبواب المدارس والمعاهد والجامعات؛ ألا وهي (التخلية قبل التحلية).

والحقيقة الناصعة التي لا ينكرها لبيب: هي أن الشرك جريمة شنعاء فيه ظلم لحقوق الخالق - سبحانه - وظلم للنفس بإخضاعها لغير الله، وظلم لحقائق الأشياء بإفسادها.

فمنطلق العملية التربوية الناجحة هو تصحيح الاعتقاد وربط العباد بخالقهم - جل وعلا - في جميع أعمالهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخْوف ما أتخوفُ على أُمتي الإشْراكُ بالله. أما إني لسْتُ أقُولُ: يعْبُدُون شمْساً، ولا قمراً، ولا وثناً، ولكنْ أعْمالاً لغيْر الله، وشهْوةً خفيةً».

فالبناء الأساس الذي ينبغي أن نبدأ به في العملية التربوية: هو بناء الإنسان المسلم الذي يؤمن بالله حق الإيمان، ويكون وثيق الصلة به، دائم الذكر له والتوكل عليه، يستمد منه العون مع أخذه بالأسباب.

لقد رفع الإسلام مقام الوالدين إلى مرتبة لم تعرفها الإنسانية في غير شريعة الرحمن؛ إذ جعل الإحسان إليهما والبر بهما في المرتبة الثانية بعد الإيمان بالله والعبودية له.

ما يزال الجانب العقدي يشغل حيزاً وافراً في الموعظة اللقمانية، ولأهميته لذلك نجد الحكيم يبين لابنه علم الله الواسع والمحيط بجميع الكائنات أنّى كانت - من العالم العلوي والعالم السفلي - والقدرة المحيطة بجميع الممكنات، وساق مثال الخردل كأدق الأجسام المختفية في أصلب مكان أو أقصاه؛ ليكون ما فوقه أوْلى بأن يحيط به علم الله وقدرته.

وهذه الطريقة في التعليم بالمثال، وبالمثال الأقل والأقرب، أنجع في تحصيل منافع كثيرة لدى المتعلم والسامع.

وهو ما يسمى عند علماء الأصول دلالة فحوى الخطاب، وهو من الأساليب القرآنية كما قال - تعالى - في حق الوالدين: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} (الإسراء: 23)؛ ليكون ما فوق التأفف أوْلى بالتحريم. تهدف هذه الوصية إلى زرع الرقابة الإلهية لدى الابن وإطلاعه على علم الله الواسع - سبحانه - الذي لا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت.

فإذا قمنا بتصحيح المعتقد لدى الأبناء ووجد الوازع الديني لديهم فإن الأمر يستوجب أن نتنقل بهم إلى الجانب العملي العبادي، لذلك انتقل لقمان بابنه إلى موضوع جدير بوقفات؛ ألا وهو موضوع الصلاة، التي هي من أهم العبادات.

والصلاة التي أمر بها لقمان ابنه هي التي تكون بحدودها وفروضها وأوقاتها؛ لتكون صلة بين العبد وربه وطريقة مثلى لتربية النفس والمجتمع.

والذي يُحسب على الإسلام وينظُر إلى الصلاة بازدراء حري أن ينعت بالسفه وألا يكون موضع ثقة لقضاء حوائج العباد؛ لأنه ضيع الفريضة عمود الدين، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

والصلاة هي أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة من الأعمال؛ فإن صلحت صلح سائر عمله.

ينبغي على رجل التربية والتعليم في كل مراحل تلقين الناشئة العلوم الأبجدية والمعارف والآداب والأحكام: أن يكون لموضوع الصلاة فيها نصيب وافر بجانبيها (النظري والعملي).

إن من الأمراض الخطيرة في مجتمعنا الراهن الاستهانة بهذه الشريعة (الصلاة)؛ فأغلب الناس لا تصلي مع العلم أن العهد الذي بينهم وبين الإسلام هو الصلاة فمن تركها فقد كفر كفراً عملياً يقدح في انتسابه إلى الإسلام!

والصلاة هي البوابة إلى حسن الخلق؛ فهي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على ذكر الرب سبحانه، فإذا أداها العبد كما أُمر فإنه ينتقل إلى مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل.

لهذا جاءت موعظة لقمان مشيرة إلى أن هذه الأشياء هي من عزم الأمور، بل هي التي تحيلنا إلى قضية مفادها: أن الإنسان اجتماعي ومدني بطبعه، يألف ويؤلف ويحتك مع بني جنسه يتبادلون النصيحة، فلا خير في قوم لا يتناصحون ولا خير في قوم لا يقبلون النصيحة، كما يقال.

والأمر في الموعظة للابن بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يقتضي إتيان الأمر وانتهاءه في نفسه؛ لأن الذي يأمر بفعل الخير وينهى عن فعل الشر يعلم ما في الأعمال من خير وشر، ومصالح ومفاسد، فلا جرم أن يتوقاها في نفسه بالأولوية من أمره الناس ونهيه إياهم.

ومن المفروض في نظر المتعلم - وهو الرأي الحق - أن يكون المربي متمثلاً لكل الضوابط الشرعية (عقدية وأخلاقية وسلوكية) وهو يؤدي المهمة المنوطة به؛ مهمة الرسالة المتمثلة في بناء الفرد المسلم بناءً سليماً مثمراً، لكن ولخيبة الأمل فإننا نجد أغلب المشتغلين بالحقل التربوي أبعد من تمثل القيم التي نحن بصدد دراستها في هذا المقال.

نحن في هذا الوقت في أمس الحاجة إلى هذه الآداب والأخلاق التي جاءت بها الموعظة؛ لتحسين سلوكيات أفراد المجتمع؛ لا سيما التلاميذ، ولن نجد أفضل فضاء نستقي منه هذه الآداب مثل القسم والفصل الدراسي.

فمن جملة ما جاء في الموعظة من الآداب في معاملة الناس: النهي عن احتقار الآخرين والافتخار عليهم، والأمر بإظهار المساواة مع الناس وعد الشخص نفسه واحداً منهم.

وبينت الموعظة أمثلة لهذه الأمراض التي تعيق صفاء القلوب والمحبة والإخوة بين أفراد المجتمع: كالإعراض عن المخاطب أثناء المحادثة، وهو ما عبر عنه اللفظ القرآني بالصعار أو الصعر، فمن يفعل ذلك لا يجد قبولاً لدعوته ولا صدى لتعليمه.

فكم كان عزيزاً علينا أن نلقى أساتذة اتصفوا بأحسن الخلال يتقربون من طلبتهم ويتوددون إليهم: إقبال، حنو، تواضع يزيدهم كل هذا في أعيننا رفعة وشموخاً على عكس نماذج لا يحسُن بهم أن يتقلدوا تلك المناصب الشريفة في التربية والتعليم؛ لأن هذا الأمر من مهام الأنبياء والرسل - عليهم صلوات الله أجمعين - لذلك عبر النص القرآني في الموعظة بعزم الأمور تشبيهاً بأولي العزم من الأنبياء والمرسلين.

وبالرجوع إلى لغة العرب نقف على حقيقة الكلمة، يقال: صاعر خده، صعره: إذا أماله عجباً وكبراً.

والصعر: داء في العنق لا يستطاع معه الالتفات؛ فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعر، وهو تمثيل للاحتقار؛ لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال.

والمأمور به إذن، هو القصد فيه وهو الوسط بين السرعة المفرطة والدبيب، وكم عهدنا أن نسمع وصفاً بالتشبيه يُشين التماوت في المشي فيقال لك: هل تمشي على البيض؟ والمشي القصد من الآداب المرتبطة بحالة الشخص الخاصة، وينضاف إليه الكلام، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه؛ فغض الصوت في حقيقة الأمر من الآداب العالية التي ينبغي أن نراعيها في الكلام مع الآخرين، والمراد بالغض هو الكلام المسموع الذي يكون دون الجهر الفاحش ولا السر الخافت.

ووجه النكارة في الصوت أن يكون عالياً فاحشاً يشبه إلى حد بعيد نهيق الحمار، لذلك ورد تشبيهه به في موعظة لقمان الحكيم.

ومثل هذه الموعظة البليغة الجامعة والمانعة لا يمكنها إلا أن تنتج نموذجاً صالحاً متقياً يخدم الصالح العام، واثقاً بنفسه لا يهاب أحداً إلا مولاه، حكيماً بليغاً وفاعلاً ومؤثراً في مجتمعه وقدوة للآخرين.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم