في غزوة ذات الرقاع كان هناك فتى عمره في حدود الأربعة عشر أو الخمسة عشر عاما اسمه جابر بن عبد الله، كان أبوه قد أسلم ومضى إلى العقبة الكبرى وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من النقباء الاثني عشر واستشهد في أحد، فلننظر كيف أجرى الرسول صلى الله عليه وسلم حوارا مع جابر وكأنه أكبر أصدقائه.
روى الإمام أحمد بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: جَعَلَتْ الرِّفَاقُ تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ، حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:مَالك يَا جَابِرُ؟
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا.
قَالَ: أَنِخْهُ.
قَالَ: فَأَنَخْتُهُ، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ، أَوْ اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ.
قَالَ: فَفَعَلْتُ.
قَالَ: فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ، فَخَرَجَ، وَاَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً (أي يسابقها).
قَالَ: وَتَحَدَّثْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَهَبُهُ لَكَ.
قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ.
قَالَ: قُلْتُ: فَسُمْنِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ (من المساومة وهي المفاوضة والأخذ والعطاء في تقدير ثمن السلعة).
قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمِ.
قَالَ: قُلْتُ: لَا. إذَنْ، تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ!
قَالَ: فَبِدِرْهَمَيْنِ؟
قَالَ: قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَمَنِهِ حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ.
قَالَ: فَقُلْتُ: أَفَقَدْ رَضِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهُوَ لَكَ.
قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ.
[كل هذا من وقت الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون بحاجة إلى كل نفَس وكل نظر من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن بناء هذا الإنسان وشعوره باهتمامه به وهو ابن شهيد وأبوه قدم كل ما عنده من أجل هذه الدعوة هو ما كان يهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن ما له قضية في الدنيا إلا أن يشترى جمل جابر ليقضي دينه].
قَالَ: ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ، هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ؟
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا؟
قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ ثَيِّبًا.
قَالَ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ!
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا، فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً، تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ.
قَالَ: أَصَبْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَا إنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَاكَ، وَسَمِعَتْ بِنَا، فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا.
قَالَ: قُلْتُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ.
قَالَ:إنَّهَا سَتَكُونُ، فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتُ فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيِّسًا.
قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا، فَحَدَّثْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ، وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَدُونَكَ، فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ.
قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ، فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى الْجَمَلَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ.
قَالَ: فَأَيْنَ جَابِرٌ؟
قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ: فَقَالَ: يَا بن أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ، فَهُوَ لَكَ، وَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِجَابِرِ، فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً.
قَالَ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً، وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرا ....".
جاء جابر إلى المدينة مسرورا وذهب إلى المسجد ليأخد ثمن الجمل وهو بالنسبة له مبلغ كبير جدًا، فأعطاه الرسول الأوقية ثمن الجمل وأعطاه الجمل أيضاً؛ فهو ليس بحاجة إليه لكنه كان يؤنس ابن أخيه وأمضى معه كل هذا الوقت من أجل أن يؤانسه، وأخذ جابر الجمل وثمن الجمل أوقية من ذهب ومضى، وهكذا نتعلم كيف نربي أبناءنا وشبابنا ولا نبخل عليهم بوقت أو جهد، والله الهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.
.