حتى يتصف المسلم بهذه الصفة وتكون خلقا أصيلا فيه يجب عليه أن يعي عدة أمور بالصورة النظرية والعملية، أول هذه الأمور هو استشعاره المسئولية الملقاة علي عاتقه وثقل الأمانة المكلف بها والتي عبر عنها الصحابي الجليل ربعي بن عامر بقوله: ((إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباد العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام))، وأن يستشعر دائما أنه يقوم بمهمة الأنبياء وهي أشرف وأعظم مهمة: فالدعاة إلى الله يقومون بمهمة الأنبياء، هذه المهمة التي جعلها الرسول ملقاة علي عاتق العلماء المخلصين والدعاة الصادقين.
أهمية الجدية ومظاهرها
إن الجدية صفة أساسية وخلق لازم لأصحاب الدعوات الذين عاهدوا الله على أن يحيوا لدعوتهم أو يموتوا في سبيلها، ونلمس هذا في قوله تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [ مريم: 12 ]، يعني تعلم الكتاب بجد وحرص، ويقول الشهيد سيد قطب: ((يبدأ الله تعالى بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة... وقد ورث أباه زكريا ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة)).
والجدية ضرورية لأن بها تؤدى التكاليف والواجبات وتبلغ الرسالات وتنشر الدعوات وتحقق الأهداف والغايات وبدونها تبدد الجهود المبذولة وتذبل شجرة الدعوة ويتأخر ركبها.
وللجدية مظاهر وعلامات أهمها ليفتش كل امرئ عنها في نفسه فإن وجدها فليحمد الله وليستقم عليها وإن غابت فليجاهد نفسه ليتحلى بها، وأهم هذه المظاهر ما يلي:
- الحرص علي الوقت، واغتنامه في طاعة الله وخدمة دعوته وتفقد زملائه وصلة أرحامه وقضاء حوائج الناس.
- اجتناب المزاح، ولا بأس بالقليل اليسير لإدخال السرور على النفوس، كما هو معلوم من هديه في هذا الباب.
- ومن وصايا الإمام الشهيد: ((لا تمزح فإن الأمة المجاهدة لا تعرف إلا الجد)).
- الأخذ بالعزائم لا بالرخص فالدعوات لا تقوم على الرخص، والرخص يأخذ بها صغار الرجال، أما أصحاب الدعوات فهم يتشبثون بالعزائم.
- التنفيذ الفوري للتكاليف، وعدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد فلا تراخي، ولا تسويف حتى لا تتراكم الأعمال، ويقع ما لا تحمد عقباه.
- محاسبة النفس، وتجديد العهد والمسارعة إلى المغفرة.
- ومن أكبر المظاهر وأصدقها مغالبة الصعوبات والأعذار، فالطالب الجاد لا يستسلم أمام المشقات، ولا يضعف أمام العقبات، بل يغالبها، ويبحث دائما عن مخارج، ويضاعف الجهد، ويحرص علي المشاركة حتى آخر لحظة بأقصى ما يملك.
- والطالب الجاد لا تقعده الدنيا بزخارفها الفانية، ولا يلجأ للأعذار التافهة، لأن ما عند الله خير وأبقي، وقد تحدث الله عن صنف من الهالكين فقال: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [ التوبة: 42 ].
مواقف عملية
نسوق فيما يلي بعض المواقف العملية عسي أن تنفخ روح الجدية في قلوب السائرين، فينطلقون إلى تحقيق الأهداف:
1- لما نزل قول الله تعالى في بداية الدعوة: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا [ المزمل: 1-4 ]، إذا بالنبي يقوم قياما طويلا، حتى أشفقت عليه خديجة رضي الله عنها، وظل هذا شأنه إلى أن لقي ربه.
وتبعه في هذا الأمر أصحابه رضوان الله عليهم فشقوا على أنفسهم مشقة بالغة وما خفف عنهم إلا قوله تعالى في آخر السورة: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ [ المزمل: 20 ].
2- وهذا صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – القائد العظيم يسيطر عليه هم الأقصى الأسير، فلا يمزح ولا يضحك ويقول: ((إني لأستحي من الله أن يراني أضحك وبيت المقدس في أيدي الصليبيين)) فأكرمه الله بتحرير بيت المقدس على يديه.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
صفات سلوكية وتربوية: محمد عبد الحليم حامد
.