كان علي رقيق القلب وافر التأثر شديد الإخلاص، ولكنه لم ير حوله أدنى شبه لما في نفسه، وإننا لنفهم حقيقة هذه الشخصية وندرك سر هذا الاهتمام إذا ما درسنا القوى الأدبية الثلاثة واتحادها في هذا الرجل، وهي ثلاثة من كنوز الجنة: كتم العلة، وكتم الصدقة، وكتم المصيبة.
هذا دور الشعور والمخيلة والعقل في إنشاء علي بن أبي طالب وأن هذه القوى الثلاث تتحدد بعضها ببعض اتحادًا متينًا ويرتبط ارتباطًا وثيقًا، فلا يحس القلب بشيء إلا ظهر صورة جميلة، يختم عليها العقل بخاتم الإيجاز، ويدفعها حكمة مصكوكة كقطعة النقود تتداولها العقول معجبة مستفيدة ومن كانت هذه مقدرته فلا عجب أن ننظر إلى الثقافة على أنها المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والقيم والقانون والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع.
وقد أكد الإمام علي على عملية تنقية التراث الثقافي من الشوائب وتقديمه للناشئين بعد ذلك، بقوله في وصيته لابنه الحسن: «أي بني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهي إلى من أمورهم قد عمرت مع أولهم، إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر جليله وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورأيت عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت في مقبل العمر ومقتبل الدهر ذو نية سليمة ونفس صافية».
ويرى الإمام علي كرم الله وجهه أن أول ما يجب تعليمه للأجيال الجديدة القرآن الكريم والتفسير، لاشتماله على كل ما يحتاج إليه الناس في حياتهم الدنيا والآخرة، ولبيانه كثيرًا من أحوال الأمم الماضية، قال الإمام علي في وصيته لابنه الحسن: «أني ابتدأتك بتعليم كتابه عز وجل وتأويله وشرائع الإسلام وأحكامه وحلاله، ولا أجاوز ذلك إلى غيره».
وواجب المربي حينئذ تنقية هذا التراث من الشوائب قبل تقديمه للمتعلم، وأكد على ذلك في وصيته لابنه الحسن بقوله: «ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلفت الناس فيه من أهوائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلي من إسلامك إلى أمر قد لا آمن عليك به الهلكة ورجوت أن يوقفك الله لرشدك، وأن يهديك لقصدك».
من كانت هذه مقدرته فلا عجب أن رغب فيه قوم، وحسده قوم آخرون فأبغضوه، وغالى الفريقان، حتى قال الشعبي: «أحبه قوم فكفروا في حبه وابغضه قوم فكفروا في بغضه».
.