لعل من الأمور التي يجب الحرص عليها والانتباه لها – خاصة في زمن الشبكة العنكبوتية والسماوات المفتوحة – هو أن نسعى جاهدين إلى التركيز مع شبابنا، من أجل معالجة قضاياهم وإعانتهم على ما يواجههم من تجليات وظواهر نفسية ترتبط بهذه المرحلة العمرية؛ إذ للشباب همومهم ومتاعبهم التي ترتبط بالتغيرات الفسيولوجية (الطبيعية)، والسيكولوجية (النفسية)، التي تحدث لهم في هذه المرحلة السنية.
من هنا ترى د. أمان محمد قحيف، وجوب الحديث عن «ثقافة الأمل».. تلك الثقافة التي من شأنها تخليصهم من نزعات التوتر، والقلق، والشك، واليأس، والقنوط، والضجر، تلك النزعات التي يحرص على بثها والتكريس لها في عقول أبنائنا أعداء الأمة وخصومها المتربصون بها.
الخطاب القرآني والتفاؤل
الخطاب القرآني نبه العقل الإنساني إلى العديد من القيم النبيلة والسامية التي من شأنها المساهمة بشكل فاعل في دفع الحياة إلى النور، وجعلها مضيئة، مشرقة، مبهجة، يملأ البِشر جنباتها ويتغلغل التفاؤل في أوصالها.. من هذه القيم، بل من أبرزها، قيمة «التفاؤل»؛ إذ اهتم القرآن الكريم كثيرا ببث ثقافة الأمل والتفاؤل في نفوس المؤمنين به لأهمية دورها الفاعل في تنمية الحياة الإنسانية وإشاعة الخير في جنباتها.
ونلمس ذلك الاتجاه في قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: 7). وأيضا في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 5 - 6).
فالنفس المفعمة بالأمل والتفاؤل هي النفس التي يتوافر لديها الإحساس بأن الغد سيكون أفضل من اليوم.. وهي نفسٌ تمتلك دافعا قويا نحو الاستمرار في الإنجاز والعمل والإبداع في مختلف مناحي الحياة.
زرع روح التفاؤل
وجدير بنا السعي– من خلال المقررات الدراسية، والوسائل الإعلامية، والخطب المنبرية- نحو غرس، وزرع، بل تعميق ثقافة التفاؤل والأمل في نفوس وعقول أبنائنا وأجيالنا الناهضة، لأن الأمل يدفع الإنسان إلى العمل والكد والاجتهاد والإبداع، وأمتنا بحاجة ماسة إلى تحميس الشباب لتحقيق آمالهم والوصول إلى أهدافهم التي هي في النهاية أهداف الأمة وطموحاتها.
الرسول وزرع الأمل
لقد كانت آيات القرآن الكريم تتنزل تترا لتزرع الأمل في نفس الرسول ﷺ كلما واجهته مواقف تتسم بالصعوبة، أو كلما مر بأحداث توصف بأنها شاقة ومؤلمة.
أكد الله تعالى لنبيه أنه معه وناصره، ومؤيده، وحافظه من كل أشكال الأذى والإيذاء، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } (الزمر: 36).
بث القرآن الكريم روح الأمل والتفاؤل في قلب النبي ﷺ وصحابته الكرام عقب «عهد الحديبية»، أو - صلح الحديبية – مباشرة، بأن أكد الله له أنه وصحابته الكرام سيدخلون المسجد الحرام في قابل الأيام مطمئنين، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح: 27).
ولما بلغ تعنت قريش مبلغه، وتجاوز عنادها غاية حدوده، بث الله تعالى الأمل في نفوس الجميع، ليس بإخبارهم بأنهم سيدخلون مكة فحسب بل أعلمهم - تبارك وتعالى- أن نبيه سيدخل مكة فاتحا، لا معتمرا فحسب، وسيجعل الله تبارك وتعالى هذا الفتح نصرا عزيزا مؤزرا، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} (الفتح: 1 – 3).
وهكذا حرص القرآن الكريم على تنمية وتكريس الأمل في نفس الرسول ﷺ في مختلف المواقف والأحداث، والثابت أن هذه الحالة من الأمل واليقين في النصر والانتصار انتقلت من الرسول ﷺ إلى صحابته الكرام رضي الله عنه ، فلقد كان الأمل يحبوهم بشكل دائم ومتواصل في نصر الله عز وجل لهم ودعمه إياهم؛ وذلك حتى بعد انتقال المصطفى ﷺ إلى الرفيق الأعلى.
ولكن ليس معنى ذلك أنهم توقفوا عن العمل أو تعطلوا عن الإنتاج انتظارا لمعجزة أو طلبا لكرامة، بل كانوا يستفرغون جهدهم في الأخذ بالأسباب المادية المتاحة لهم، ويحبوهم الأمل التام وتملؤهم الثقة المطلقة في توفيق الله تعالى لهم.
من هنا نجحوا في أن يقيموا دولة متكاملة الأركان متينة البنيان، ونشروا دين الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة في كل جنبات العالم المعروف لهم وقتذاك، ما استطاعوا إلى ذلك من سبيل.
ولم تتوقف دعوة القرآن الكريم إلى زرع الأمل عند حدود صحابة الرسول ﷺ فحسب، بل إن الله عز وجل يزرع الأمل في نفوس كل عباده الطيبين المخلصين الذين يصنعون الخير بقوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30).
والقرآن الكريم حرص على زرع الأمل في كل النفوس البشرية فلم يحرم حتى أولئك العصاة الذين تغافلوا عن حقوق ربهم واغتروا بالدنيا فألهتهم عن التعلق بالله تعالى؛ إذ بشرهم الله عز وجل بالعفو والمغفرة إذا رجعوا عن معاصيهم وندموا على أفعالهم، قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} (الفرقان: 70 – 71).
والله تعالى حذّر أيما تحذير من الدخول في حالات من اليأس أو الميل إلى القنوط، مشيرا إلى أن اليأس من الله قرين الكفر به والعياذ بالله، قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف: 87).
وهكذا يريد الله تعالى منا أن نتطلع إلى الأفضل دائما، وأن ننتظر الخير ونتوقعه، ونسعى إليه جاهدين.. من ثم يجب أن يحبونا الأمل دوما بأن الخير قادم، ويجب أن تمتلئ جوانحنا بالإحساس بأن الأفضل هو المنتظر - سواء كنا في سعادة وحبور أم كنا في ضيق وتوتر.
.