تربية الحوار من سيرة الأنبياء

يموج العالم الآن بلغة الانفرادية بالرأي فلا يسمع لصوت الآخرين، ولا مصالح الناس أجمعين، وتلاشت ثقافة الحوار البناء والهادف بين الجميع، فلا يسمع الفرد إلا لنفسه وذاته وقراراته، ولا تسمع الأنظمة إلا لمصالحها وما يحفظ كينونتها، ولا يسمع الحاكم لشعبه.

إن أشد أوقات تمر على الحوار هذه الأوقات التي أصبح العنف سمة فرض الرأي، والقوة لغة الحوار، وأصبح الهوس من الخوف من الحوار نفسه يسيطر على أصحاب القوة والنفوذ، بل وعلى الكل، حتى في بيوتنا.

ولقد ذكر القرآن الكريم الحوار في أكثر من موضع ليربي في هذه الأمة كيف تغرس وتحصد لغة الحوار البناء للحفاظ على النفس والدين والعرض والأرض.

ولم يقتصر على ذلك بل نقل لنا لغة الحوار التي دارت في عصور الجاهلية ليؤسس فينا الصفات الحميدة التي أرادها الله لنا، بعيدا عن المفهوم الجاهلي المستعلي الذي كان يتملك القوم أثناء الحوار، والذي نخشاه أن يكون قد تملك كثير من الناس في هذا الزمان، وهو ما يجب على كل أب وأم أن تحرص أن تعدله وتغرسه في نفوس أبنائهم حتى نربي أجيالا تفهم لغة الحوار من أجل الصالح العام لا المصالح الشخصية، وفق المعايير التي رسمها القرآن الكريم.

فالقرآن يعد أهم روافد الفكر وضبط المفاهيم وتحديد الاتجاهات والذي يؤصل لتلك المشكلة ويصحح لها البوصلة، وقصص الأنبياء الذي تستحوذ على النصيب الأكبر في السرد القرآني تجسد مشهد المفارقة بين معايير الجاهلية، ومعايير الإسلام، وكيف استطاع أنبياء الله مناظرة قومهم، وكيف ردوهم إلى المعايير الصحيحة وأبطلوا معايير الجاهلية، وهو ما يجب أن يفهمه ويتعلمه مصلحي هذا الزمان.

 

إبراهيم عليه السلام ومدرسة الحوار

لقد تحلى إبراهيم عليه السلام بالتعقل واللين والهدوء حتى يثمر الحوار إلى نتيجة بناء؛ فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (مريم:42)، وظل إبراهيم على حواره اللين، مقدما لغة الأبوة وهو ما جعل والده ينصت فلا يقاطعه حتى انتهى من دعوته، إلا أنه كان إنصات المصعوق الذي انتابته دهشة الدعوة الجديدة التي بها ابنه إبراهيم، فلما استجمع قواه، عاد إلى جحوده، ولم يجد ردًا حقيقيًا يجيب به على دعوة إبراهيم إلا أن قال له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (مريم:46)، وهي نفس الحالة الحوارية التي مارسها إبراهيم مع قومه، فلما لم يجدوا ردا واقعيا على ما ذكره إبراهيم قالوا: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} (الأنبياء:65)، وذلك قبل أن يبلغ الملك ليحاوره بلغة غلبة عليها لغة العقل دون المواعظ فقال: { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} (البقرة:258).

وهكذا لابد أن يتعلم المصلحون كيف يبدأون الحوار وكيف يختمونه بمكاسب للصالح العام، وعليهم استعمال التدرج في الحجة والإقناع واتخاذ المنطق السليم والحكمة، بالإضافة إلى الانتقال لمخاطبة العقل مصاحبا معه الدليل الواضح لإثبات بطلان ما يتكلم به الطرف الثاني، مبتعدا عن سفاسف الأمور والصدام مع العقل المادي.

 

نوح عليه السلام وفن الحوار

أرسل الله سبحانه سيدنا نوح إلى قومه حيث ضرب المثل العليا في فن الحوار والصبر عليه، ومفهوم ضبط النفس على هذا المعني فظل يدعو قومه ما يقرب من الألف عام مع التجديد الدائم في لغة الحوار المثمر، إلا أنهم أبوا أن يؤمنوا بالله، وكان من جملة حججهم قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود:27)، هكذا وسم هؤلاء الكفار الذين آمنوا مع نوح بأنهم أراذل لا قيمة لهم ولا شأن لهم ولا منصب لهم ولا مال لهم، بل أخذهم الكبرياء بأن يؤمنوا بالله ومعهم هؤلاء الضعفاء الفقراء فاشترطوا على نبي الله نوح أن يطردهم مقابل إيمانهم بالله، وهم بذلك يجهلون القيم الحقيقية التي يُقًدر بها الناس في ميزان الله، ويجهلون أن مرد الناس كلهم إلى الله.

فكان الرد المنطقي من نبي الله نوح أن هؤلاء الضعفاء، وأنتم عند الله سواء، وأن الإسلام لا يفرق بين الناس حسب أموالهم ومناصبهم، بل قد يتفضل الفقير الضعيف على الغني القوي بعمله وحسن عبادته لله، وهكذا صحح الإسلام جانبًا من المفاهيم الخاطئة عن تقييم الناس، فقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (هود:29- 30)، وهكذا تكسرت غطرسة الجاهلية على صخرة الحوار الهادف الذي لم يرجو منه إلا الخير لهم لكنهم أبوا وتمسكوا بغيهم.

 

أصول الحوار

للحوار أصولٌ يجب أن يضعها المحاور في كينونة نفسه وقت أن يقدم على التفاوض والتحاور ومنها:

  1. أن يكون الحوار مبتغاه وجه الله سبحانه وإظهار الحق وبريئًا من التعصب.
  2. لابد للمحاور أن يكون عالماً بالمسألة التي يريد أن يحاور فيها، والتسلح بالحجج والبراهين المؤيدة له.
  3. حسن الاستماع، إن كثيراً من الناس يخفقون في ترك أثر طيب في نفوس من يقابلونهم لأول مرة، لأنهم لا يصغون إليهم باهتمام، إنهم يحصرون همهم فيما سيقولونه لمستمعهم، فإن تكلم المستمع لم يلقوا له بالاً.
  4. العدل والإنصاف، يجب على المحاور أن يكون منصفاً، فلا يدر حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره.
  5. الحوار الإيجابي الصحي هو الحوار الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت، ويرى العقبات ويرى أيضًا إمكانيات التغلب عليها، وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها وهو الحوار المتكافئ الذي يعطى لكلا الطرفين فرصة التعبير.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم