القاعدة الثالثة عشرة: الدعوة سلعة شريفة لا تباع بالأغراض الدنيوية

الداعية يعمل بمقتضى تكليف الله تعالى ويأخذ أجره كاملًا من الله تعالى، ووظيفة الدعوة ليست من جنس الوظائف الدنيوية، فهي أسمى وأشق، وما من وظيفة تحتمل كل صور الهلاك والإنهاك كوظيفة الدعوة، ففيها توقع هلاك النفس والمال، وفيها احتمال البعد عن الأهل والولد والأوطان، ووظيفة فيها مثل هذا الجهد لا تعادلها الدنيا كلها.

ولقد كان كل نبي من أنبياء الله الكرام يؤكد هذا المبدأ قائلًا: {لا أسألكم عليه أجرًا} وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزام هذا النهج، وعندما أعرض أهل مكة عن الإيمان جاءت الآية تسألهم عن سبب إعراضهم وتقول: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}[الطور:40]، علمًا بأن طلاَّب الدنيا لا يفعلون شيئًا إلا بأجر دنيوي، وإن قصة السحرة مع موسى - عليه السلام - تثبت هذا عندما قالوا لفرعون: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الأعراف:113] فأكد لهم فرعون ذلك وقال: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الأعراف:114] وبعد دخول الإيمان إلى قلوبهم لم يتركوا الأجر فقط بل قالوا له: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[طه:72].

أنواع الأجر الذي يتنزه عنه الداعية:

والأجر الذي ينبغي أن يتنزه عنه الداعية لا يقتصر على المال، وإنما تشمل كل منفعة سببها الدعوة، وينبغي ألا ينتظر من الناس كلمة الشكر، ولا إسداء المعروف، وكل الذي يريده من المعروف أن تصل الدعوة إلى قلوب الخلق.

والتأكيد على عدم طلب الأجر له فوائد وحكم:

الأول: قد يظن المدعوون أن الداعية إنما شرع في الدعوة كي يتوصل بالدعوة إلى الرزق والاكتساب، فرب صاحب دعوة يريد صرف وجوه الناس إليه لينتفع من دعوته، ولا سيما أن معظم الدعاة إلى الله فقراء، وعلى رأسهم الأنبياء الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - يقول الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ...}[هود:29] كأنه عليه الصلاة و السلام قال لهم: إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيرًا، وظننتم إنما اشتغلت بهذه الدعوة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا.

الثانية: تعودت الشعوب أن تتعامل مع المشعوذين والدجالين من الكهنة الذين يتوصلون بالدين إلى الدنيا وملذاتها، فجاء التأكيد على أن هذه الدعوة نقية أصيلة لا يبتغي أهلها عرضًا من أعراض الدنيا يتوصلون بسببها.

الثالثة: كل عمل مأجور قد يعتريه النقص والخلل، وصاحبه يسير به حسب مقدار الأجر، ودين الله أكرم من أن يربط بمتاع الدنيا وتقلبه، ومن هنا فالعمل للدعوة مرتبط بالإخلاص.

الرابعة: والعمل المأجور يتأثر بمن يدفع الأجر، وإرادته تتدخل في العمل، وقد عرفت الدعوات نمطًا من الناس غيَّروا وبدَّلوا تحت ضغط الأجر الدنيوي، وأما الأنبياء الكرام  والصالحون من الدعاة إلى الله فقد ثبتوا على معالم دعوتهم قاطعين طمع كل طامع في أن يغيروا ما جاءوا به أو يبدلوه.

الخامسة: وإذا عرف الناس أن الداعية لا يلتمس منفعة دنيوية فإنهم يتبينون صدق الداعية في دعوته، وينجذبون إلى الدعوة، ومن هنا، فقد كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الدعوات تأثيرًا، وأعمقها أثرًا في نفوس الأتباع، قال الحسن البصري: لا تزال كريمًا على الناس ما لم تعط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك.

ومن لوازم غنى الداعية عن الناس أن يكون ذا كسب من تجارة أو زراعة أو عمل أو حرفة، كان أيوب السختياني يقول لأصحابه: الزموا السوق فإن العافية في الغنى، وقد عُرِفَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح بغناهم عن الناس، وذلك لما كانوا عليه من الكسب، وما اتصفوا به من القناعة، ولكن ينبغي أن لا يقوده الكسب - كحاجة - إلى الحرص ولا إلى تضييع العمر في جمع المال.

وقد يجد الداعية قبولًا عند الناس فيعبرون عن محبتهم له بالهبات والصلات والخدمات والدعوات، وقبول الداعية لمثل هذه الأمور يحط من دعوته في أنظار الناس، فيهون عليهم ويصبح الداعية مرذول الطريقة مذموم السيرة، والصادقون من الدعاة يعطون ولا يأخذون، وهم أصحاب الأيدي العالية والنفوس الكبيرة، ويدخل هذا تحت المروءة التي هي عنصر من عناصر الشخصية المسلمة، ومكون من مكونات الثقة، يقول الماوردي: وما المروءة إلا في العفة  والنزاهة و الصيانة، والعفة: البعد عن المحارم والمآثم، والنزاهة: البعد عن المطامع الذاتية و المواقف المريبة، وأما الصيانة فتكون بصيانة النفس عن تحمل المنن والاسترسال في الاستعانة بالخلق.

يقول الماوردي: والمحتاج إلى الناس كَلٌّ مهتضم وذليل مستثقل.

ومما يجب أن يلتفت إليه أن الوظائف التي يحبس عليها صاحبها كالتعليم والإمامة والخطابة إنما يأخذ الأجر لكونه مشغولًا بها عن الاحتراف والاكتساب وهذا جائز شرعًا، ويدخل في ذلك أيضًا مسئولية الإمامة العامة وولاية القضاء وكل ما كان من جنس هذه الأعمال وكان الداعية محبوسًا عليها.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم