مع صخب الدنيا وبريقها، وغلبة القيل والقال، وكثرة الخصومة والجدال، والعكوف على الملذات؛ تقسو القلوب، ويعتريها شعث ووحشة، وتستحكم الغفلة، وتنغمر النفوس فيما تهواه من شهوات.
فلعل في هذه السطور التربوية لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية والتي أعدّها د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، ما يوقظ غافلًا، ويحرّك قاسيًا، ويروّض جامحًا، ويحرّر النفوس من رقّ العوائد والمألوفات، وأسر الشهوات والملذات.
معنى التربية
أشار ابن تيمية إلى معنى التربية عند تفسيره قوله تعالى: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّـمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، فقال: «والرباني» منسوب إلى ربّان السفينة -على الأصح-؛ لأنهم منسوبون إلى تربية الناس، وكونهم يربّونهم.
فالحاصل أن التربية -عند هؤلاء السلف- بمعنى التأديب والتعليم، والأمر والنهي.
والتربية بهذا المعنى قريبة من معنى التزكية، فالتربية لغة تتضمن معنى الزيادة والنمو، وكذلك التزكية هي النمو والارتفاع، ثم إن التزكية ليست تطهيرًا من الذنوب فحسب، بل هي نماء وصعود بفعل المأمورات، وهذا ظاهر في معنى التربية، فهي أمر ونهي، وتأديب وتعليم.
قال ابن تيمية: «الزكاة في اللغة: النماء والزيادة في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولا بد مع ذلك من منع ما يضره، فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه، ودفع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتمّ صلاحه إلا بحصول ما ينفعه، ودفع ما يضره».
فيلحظ - في هذا التقرير - أن التزكية بمعنى التربية، فكلاهما نماء وزيادة، ثم إن التزكية والتربية لا بد فيهما من فعل وترك، وجلب ما ينفع ودفع ما يضر، كما هو مبيّن فيما يلي:
- التربية فعل وترك، فهي فعل المحبوب وترك المكروه، والقيام بالمأمورات، والكفّ عن المنهيات - كما سبق -، وكذا التزكية بفعل الحسنات، وترك السيئات؛ فالتربية النافعة بالأعمال والأفعال وليس بمجرد الترك والامتناع، إذ إن العمل يبعث على الترك، والعمل بالمأمورات مقصود لذاته بخلاف ترك المنهيات.
فترك المشروع يوقع في الممنوع، والإعراض عن التربية بالعلم النافع والعمل الصالح يوقع في التربية بجهالة وابتداع. ولذا قال: «هكذا أهل البدع لا تجد أحدًا ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل، إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئًا من السنة.. فمن لم يفعل المأمور فعل بعض المحظور، ومن فعل المحظور لم يفعل جميع المأمور».
- والتربية عنده تقوم على الدراية بحقيقة النفس وطبيعتها، ومعرفة آفاتها وأدوائها، وطالما تحدث أبو العباس عن هذه القضية، ومن خلال علم عميق بالنصوص الشرعية ودراية متينة بطبائع النفوس وكمائنها وعللها.
فأصدق ما يسمى الإنسان أنه حارث وهمام، كما ثبت في الشرع والواقع، وأن الإنسان له قوتان: قوة علمية وقوة عملية، وأن الإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا؛ لأنه لا بد له من حركة تجلب منفعته، وتدفع مضرته، والشرع هو الميزان في تحقيق وضبط تلك المنافع والمضار في المعاش والمعاد.
فالإنسان بطبيعته لا ينفك عن علم وفكر (همام)، كما لا ينفك عن عمل وسعي (حارث)، وجاءت نصوص الوحيين مستوعبة لتلك الطبيعة والجبلة، وجاءت محققة لكمالها ونجاتها وسعادتها في الدارين.
كما تحدّث أبو العباس عن آفات النفس البشرية وأدوائها، وسبل علاجها وشفائها، فكان رحيمًا بنفوس الخلق، عليمًا بالحق، فطالما تحدّث عن هذه الأدواء بعلم وعدل، وعالجها بإنصاف وواقعية، مجانبًا المثالية الجامحة عند المتصوفة ونحوهم - كما هو مبسوط في موضعه.
- نجزم أن القرآن العظيم في الشفاء والغَناء في كل مجالات الحياة، وفيه من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه.
قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْـحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: ٣٣]، قال ابن تيمية: «والقرآن قد دلّ على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها».
وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: ٥١]، قال ابن تيمية: «فزجر من لم يكتف بالكتاب المنزل» فالقرآن فيه الهداية والكفاية لتحقيق منهج تربوي تام.
- تحدث ابن تيمية عن الباطن، والقلب، وصلاح الإرادة، وصحة القصد والنية، وأن هذا هو الأصل، فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، والقلب ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده، كما جاءت بذلك النصوص الشرعية والحقائق الواقعية، فإن ذلك يجده الإنسان في نفسه، وأن الإرادة القلبية هي أصل كل حركة وفعل.
- وفي عصرنا المكتظ بركام الشهوات، وأكوام الشبهات، ومع غلبة الجهالات، وفتور حجج الرسالات، وانحسار العلم الشرعي، واندراس التعبد النبوي؛ قد توجد مدافعة لهذا التيار الجارف عبر محاضن تربوية تسعى إلى التوقي من هذا الواقع المتردي، لكن هذه المحاضن لا تخلو من محدثات وتجاوزات.
وقد حرر ابن تيمية الجواب عن هذه النازلة بعلم وتحقيق، ودراية بقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فقال: «قد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريقة المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريقة المشروعة علمًا وعملًا، فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية».
فأبو العباس يعالج واقعًا مكررًا عبر القرون والأزمان، فبقاء محاضن تربوية إسلامية -مصحوبة بخلل وابتداع- خير من زوال ذلك كلّه، ثم يعقب ذلك ريح عاصف من الشهوات الموبقة لا تبقى ولا تذر!
ولا يعني ذلك أن أبا العباس يجعل ذلك مشروعًا مأثورًا، إذ الشرع ما شرعه الله ورسوله، فالجهة ها هنا منفكة، كما في موقفه من الذين يصعقون عند سماع القرآن، فهذا واقع لبعض المتعبدة بلا تصنّع ولا تكلّف، وحال هؤلاء خيرٌ من قساة القلوب الذين لا تحرّك زواجر القرآن فيهم ساكنًا، ومع هذا فإن ذلك الصعق ونحوه ليس عملًا مشروعًا، إذ لم ترد به نصوص الوحيين، وليس من حال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وهم أعمق هذه الأمة علمًا، وأبرّها قلوبًا، وأزكاها نفوسًا.
.