ليس من المبالغة القول: إن الحوار هو أهم آلية لنقل الأفكار والمشاعر، ومن ثم التوجيه والتعليم والتربية. لذلك فلا غرابة أن اشتمل القرآن الكريم على عدد هائل من الآيات المشتملة على الحوار. فثمة حوار بين الأنبياء وأقوامهم. وينقل القرآن الشبهات التي يثيرها هؤلاء، وردّ الأنبياء وجدل المشركين.
وهناك حوار الأب وأبنائه، كإبراهيم ويعقوب ولقمان ونوح، وهناك حوار أهل الجنة وأهل النار، وحوار أهل النار مع خزنة جهنم.. القرآن كتاب حي، لذلك فهو زاخر بالحوارات التي هي أفضل وسيلة لتوصيل المشاعر والأفكار.
وفي هذه الدراسة، ترصد الباحثة فاطمة عبد الرؤوف، كيف يمكن للحوار أن يكون منهجية تربوية ناجحة ومؤثرة، خاصة مع تنوع واختلاف المراحل العمرية للطفل، وتباين المشاعر النفسية والانفعالية له.
أهميته التربوية
إذا كان الحوار أمرا فطريا عفويا لصيق الصلة بالإنسان، منذ لحظة وجوده، وهو أمر طبيعي داخل نطاق الأسرة بين الوالدين والأطفال، فإن الفوائد التربوية التي يمكن تحقيقها من خلاله هي من الأهمية بحيث يجب أن يتنبه الوالدان للغايات المرجوة منها، والتي يأتي على رأسها:
- إقامة علاقة قوية عميقة مع الطفل وهو أمر ليس بالهين، لأنه يعتبر القاعدة الأساسية للبناء، حيث سيترتب على عمق هذه العلاقة مدى استجابة الطفل للتوجيهات أو التحذيرات. لذلك لا تندهش عندما يستجيب أحد الأطفال لوالديه ببساطة، بينما لا يبدو على طفل آخر أي بوادر استجابة أو حتى اهتمام بما يقوله والداه. فوراء الطفل الأول علاقة عميقة كان أساسها الحوار، بينما يقف وراء فتور الطفل الآخر علاقة يشوبها الإهمال والجفاف وضعف الحوار.
- وسيلة للتوجيه: فمن خلال الحوار نستطيع توجيه الطفل لما هو مطلوب منه، في أمر دينه ودنياه. فمثلا عندما يحين موعد عيد الأضحى تسأل الأم ابنها: هل تعرف لماذا اشترى والدك هذا الكبش؟ فتنبه الطفل عن طريق السؤال، وقد تتلقى الأم إجابة ما، أو يجيبها بالنفي، فتكون لديها الفرصة لشرح الأمر، وقد يسألها الطفل أو يستزيدها، كي يعرف أكثر عن قصة الذبيح. وفي نهاية الحوار ستقوم الأم الذكية باستخلاص أهم الدروس، وتجعل الطفل يشاركها في استخلاص هذه الدروس، وينزلها على واقعه.
- إزالة الشبهات والمشكلات: قد يعاني الطفل من شبهة ما، خاصة في البلاد التي يسكنها أغلبية من غير المسلمين، أو قد يعاني من مشكلات في المدرسة، أو مع جماعة الرفاق، وقد تسبب هذه الشبهات أو المشكلات أزمة نفسية شديدة عند الطفل. فإذا كانت تقنية الحوار مفعلة، فلن يكون هناك مشكلة عند الطفل، وسيطرح شبهته أو مشكلته ببساطة على طاولة الحوار.
- فض الشجار: من أهم المشكلات التي يعاني منها الوالدان كثرة الشجار بين الأبناء، بحيث يتحول جو البيت الهادئ إلى صراخ وصياح، وكل منهم يلقي بالسبب على الآخر.. هنا تعمل تقنية الحوار كفتيل لحل الأزمة، عن طريق إجراء حوار فوري مع الجميع، يوضح فيه كل طرف وجهة نظره، ويلتزم بآداب الحوار. وأهمها الاستماع للطرف الآخر وعدم مقاطعته، ثم منح كل منهم فرصة للتعقيب، حتى يتم الوصول لوجهة نظر مقبولة. وأهم درس يتعلمه الأبناء أن الحوار وسيلة فعالة لتحقيق الأهداف، وليس الشجار.
هناك عقبتان كبيرتان تمنعان إجراء حوار صحي مع الأبناء:
العقبة الأولى: هي آفة العصر الحديث، ألا وهي انشغال الوالدين في العمل والحياة العامة، بحيث يكونان واقعين في مصيدة الضغوط، ومستهلكين تماما، ولا يمتلكان الطاقة النفسية لإجراء حوار بناء مع الأبناء.
العقبة الثانية: هي الجهل بمنهجية الحوار البناء، فالكثير من الآباء يستعيرون نمط التربية الذي عايشوه بحلوه ومره، وكثيرا ما يكون التسلط وإصدار الأوامر الفوقية، وعدم الرغبة في الحوار واعتباره أمرا عبثيا، وإهدارا للوقت هي مكونات أساسية بارزة في هذه التربية التي كانت سببا وربما نتيجة لحالة التردي الحضاري الذي عايشته أمتنا، وربما لا تزال تعايشه على نحو ما.
العقبة الثالثة: هي لغة الحوار الباردة التي تخلو من العواطف الدافئة والتعاطف الصادق مع ما يقوله الأبناء، ففي كثير من الأحيان يكون الابن بحاجة لمن يقدر مشاعره، أكثر ممن يحل مشاكله بأفكار منطقية (ذلك لأن في أعماق الأطفال الصغار عموما حاجة ملحة إلى أن يكونوا محل حب الآخرين وعطفهم، وهذا ما يتغذون عليه نفسيا بهذه المحبة التي يجب أن ينعموا بها من قبل أمهاتهم وآبائهم على السواء).
الحوار والمرحلة العمرية
من الثابت علميا أن الجنين يسمع الأصوات بوضوح، وأنه يولد وحاسة السمع مكتملة لديه. إن الحديث للوليد ليس حوارا من طرف واحد كما قد يظن البعض، وإنما هو حديث من طرف، وانتباه وإنصات وتفاعل من آخر يريد أن يتعرف على أبجديات الحياة. لذلك فقد حث الإسلام على أن يكون أول عهد المولود بكلمات الحياة الأذان والإقامة.
ويستمر الرضيع عامين كاملين يستمع وينتبه ويبني ذاكرته العميقة التي تكون ملامح شخصيته فيما بعد. إن الطفل في هذه المرحلة يتحاور بملامح وتعبيرات وجهه، والهمهمات التي يصدرها كبداية للكلام، بل حتى بالبكاء والصراخ الذي يرسل من خلاله رسائل معينة لوالديه، رسائل احتجاج، أو غضب، أو لفت انتباه، أو تنبيه لحاجة غير مشبعة.
الطفولة المبكرة
ثم تأتي مرحلة الطفولة المبكرة (2- 6 سنوات) حيث العبارات الأولى ذات المغزى للطفل، ومن ثم يستطيع الحوار أن يأخذ شكله الطبيعي.. في هذه المرحلة ستكون الوظيفة الأولى للحوار هي تعميق العلاقة مع الطفل، تمهيدا لمرحلة التوجيه الحقيقية التي تبدأ من سن التمييز.
إن مادة الحوار الأساسية تدور حول اللعب كما أن الحوار في مرحلة الطفولة المبكرة يأخذ شكلا إيجابيا نشطا، فكما يتحدث ويسأل المربي، فإن الطفل أيضا يتحدث ويسأل (يطلق البعض على هذه المرحلة «مرحلة السؤال»، فما أكثر أسئلة الطفل في هذه المرحلة. إنك تسمع منه دائما ماذا؟ لماذا؟ أين؟ كيف؟ من؟ إن الطفل في هذه المرحلة علامة استفهام حية لكل شيء، إنه يحاول الاستزادة العقلية المعرفية، يريد أن يعرف الأشياء التي تثير انتباهه، وأن يفهم الخبرات التي يمر بها. هو يسأل وقد يفهم الإجابات، وقد لا يفهم، وقد ينصت وقتا كافيا لسماع الإجابات، وقد لا يفعل. ويقرر بعض الباحثين أن حوالى 10-15 % من حديث الطفل في هذه المرحلة يكون عبارة عن أسئلة).
والسؤال يعني الحوار، فلابد للسؤال من إجابة. ومهارة المربي أن يجعل من إجابته مادة غنية لإثراء الحوار مع الطفل: ولكي يتحقق ذلك لابد أن:
- تكون الإجابة قصيرة، وواضحة.
- شيقة لطرح مزيد من الأسئلة، إذا كنا نريد تعميق الحوار.
- جاذبة لانتباه الطفل، حتى يتأثر بها.
سن التمييز
مرحلة الطفولة المتوسطة (6-9) يطلق عليها في الأدبيات الإسلامية سن التمييز. حيث يبلغ النضج العقلي للطفل مرحلة جيدة، يميز فيها الأمور بشكل حقيقي، هنا ينطلق الحوار كأهم وسائل التربية، إنها مرحلة الأسئلة الواعية، والإنصات للإجابة والتعليق والتعقيب عليها.
.