لما كانت أزمة الأمة الأولى في هذا العصر هي أزمة تربية، ولما كانت الأسرة هي الدرع الحصينة والحصن الأخير لأمة الإسلام الذي يريد أعداؤها ضربه في مقتل؛ فيستهدفون الأمومة تارة بأكذوبة تحرير المرأة، وتارة البنوة وتربية الأبناء بدعوى الحرية.
ولما أصبح دور المدارس في كثير من الدول الإسلامية بعيدًا كل البعد عن المنهج التربوي القويم، أراد الباحث محمود أبو مسلم في هذا الدراسة أن يساهم ببعض القواعد التربوية من خلال استقراء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف قدمت لنا السنة صورة لقواعد تربوية عظيمة يمكن أن تصاغ منها مناهج علمية تربوية تساعد على ترميم التصدعات العميقة في بناء الأمة والأسرة.
ربِّ ولدك على كبير المعاني وصحيح المعتقد
نعم، كثير من الناس يتعجب من عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، كيف أصبح غلامًا فقيهًا مفسرًا بحرًا يدخله عمر مجلسه على أشياخ بدر، فيقولون لعمر: «لِم تدْخِل هذا الفتى معنا ولنا أبنْاءٌ مِثلْه؟» فقال عمر: إِنّه مِمّنْ قدْ علِمْتمْ، فدعاهمْ ذات يوْمٍ ودعاه معهمْ، فقال: ما تقولون فِي: (إِذا جاء نصْر اللّهِ والْفتْح (1) ورأيْت النّاس يدْخلون فِي دِينِ اللّهِ أفْواجًا) (النصر 1، 2)؟ حتّى ختم السّورة، فقال بعْضهمْ: أمِرْنا أنْ نحْمد الله ونسْتغفِره إِذا نصِرْنا وفتِح علينْا، وقال بعْضهمْ: لا ندْرِي أوْ لمْ يقلْ بعْضهمْ شيئْا؟ فقال لِي: يا ابنْ عبّاسٍ، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسولِ اللهِّ صلى الله عليه وسلم أعْلمه الله له (إِذا جاء نصْر اللّهِ والْفتْح) فتح مكّة، فذاك علامة أجلِك (فسبِّحْ بِحمْدِ ربِّك واسْتغْفِرْه إِنّه كان توّابًا) (النصر: 3)، قال عمر: ما أعْلم مِنها إِلّا ما تعْلم.
تربيتك لولدك تكون بقدوتك له
وهذا ما جعل أغلب المجتمع، إلا من رحم ربي، يعاني انفصامًا في شخصيته، لوجود اصطدام واضح أمام الطفل بين التوجيه النظري والفعل العملي من قدوة الطفل المتمثلة في شخصية والديه أو معلمه أو حتى شيخه، ومسألة القدوة وتطابق التوجيه النظري مع ما يفعله القدوة عمليًا أمر في غاية الخطورة في حياة الطفل، وهو ما جعل طفلًا كابن عباس رضي الله عنه، يتربى على السلوك القويم والنفسية الملتزمة في السر والعلن، إذ لما بات ليلة عند خالته ميمونة ونام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته رأى من ليل النبي عمليًا ما يأمر به الناس نظريًا، فرآي رسول الله نام، ثم قام، فمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الخواتيم من آل عمران، ثم قام إلى قربة معلقة فتوضأ منها وضوءًا خفيفًا، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم اضطجع، ثم صلى ركعتي سنة الفجر، راقبه عبد الله بن عباس، وفعل مثلما فعل، ثم قام يصلي عن يساره، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن عبد الله ابن عباس فجعله عن يمينه، والحديث في دواوين السنة كلها، وهذه قمة القواعد التربوية على الإطلاق، وتمنح الطفل اتزانا نفسيًا، واحترامًا لمربيه وما يربيه عليه .
مراعاة حاجة الطفل النفسية للعب واللهو
فكما أننا نعطي الطفل جرعات التربية على معالي الأمور، فكذلك نراعي حاجته للهو واللعب، بل ونغض الطرف أحيانًا عن تقصيرهم في بعض الأمور من أجل هذه الحاجة، وفيما ورد الإمام مسلم (2312): قال أنسٌ: «كان رسول اللهِّ مِنْ أحْسنِ النّاسِ خلقًا، فأرْسلنِي يوْمًا لِحاجةٍ، فقلت: واللهِّ لا أذْهب وفِي نفْسِي أنْ أذْهب، لِما أمرنِي بِهِ نبِيّ اللهِّ، فخرجْت حتّى أمرّ على صِبيْانٍ وهمْ يلعبون فِي السّوقِ، فإِذا رسول اللهِّ قدْ قبض بِقفاي مِنْ ورائِي، قال: فنظرْت إِليهِ وهو يضحك، فقال: يا أنيس، أذهبتْ حيثْ أمرْتك، قلت: نعمْ، أنا أذْهب يا رسول اللهِّ. قال أنسٌ: واللهِّ لقدْ خدمْته تِسْع سِنِين، ما علِمْته قال لِشيْءٍ صنعْته، لِم فعلت كذا وكذا، أوْ لِشيْءٍ تركْته، هلاّ فعلت كذا وكذا».
تربية الطفل على الحلال والحرام والأخلاق
فعنْ أبِي هريرة رضِي الله عنه: أنّ الْحسن بنْ علِيٍّ أخذ تمْرةً مِنْ تمْرِ الصّدقةِ فجعلها فِي فِيهِ، فقال النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «كِخْ كِخْ أما تعْرِف أنّا لا نأكل الصّدقة»، والحسن في ذلك الوقت كان طفلًا صغيرًا ربما لم يكمل عامين أو ثلاثة لكن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه يدل على التأكيد على تدريب الطفل على الحلال والحرام والورع أيضًا.
ومما تعلمه أنس رضي الله عنه، كما في الصحيحين وغيرهما، قال: انتْهى إِلينْا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأنا فِي غِلمانٍ، فسلم علينْا، ثمّ أخذ بِيديّ، فأرْسلنِي بِرِسالةٍ، وقعد فِي ظِلِّ جِدارٍ أوْ فِي جِدارٍ حتّى رجعْت إِليهِ، فلمّا أتيتْ أمّ سليمٍ، قالتْ: ما حبسك؟ قال: قلت: أرْسلنِي رسول اللهِّ صلى الله عليه وسلم بِرِسالةٍ، قالتْ: وما هِي؟ قلت: إِنّها سِرٌّ، قالتْ: «احْفظْ سِرّ رسولِ اللهِّ»، فما أخْبرْت بِهِ بعْد أحدًا قطّ.
فليحرص الآباء على توجيه أطفالهم دائمًا في كل فرصة، وفي كل وقت، على الحلال والحرام والآداب، والأخلاق، ويكرسوا من وقتهم من أجلهم، بل وجب عليهم أن يقتطعوا من أوقاتهم ليجلسوا مع أبنائهم من أجل ذلك، وهذا أولى وأثمن في الدنيا والآخرة من جمع الأموال وإنفاقها عليهم.
الرحمة
وكان صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال رحمة بهم، كما في الصحيح أيضًا، عنْ أمِّ خالِدٍ بِنتِ خالِدِ بنِ سعِيدٍ، قالتْ: أتيتْ رسول اللهِّ صلى الله عليه وسلم مع أبِي وعليّ قمِيصٌ أصْفر، قال رسول اللهِّ صلى الله عليه وسلم: «سنهْ سنهْ»، قال عبدْ اللهِ: وهِي بِالْحبشِيّةِ حسنة، قالتْ: فذهبتْ ألعب بِخاتمِ النّبوةِ فزجرني أبِي، قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دعْها»، ثمّ قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أبلِي وأخْلِفِي، ثمّ أبلِي وأخْلِفِي، ثمّ أبلِي وأخْلِفِي»، ومعنى أبلي وأخلفي.. دعاء بطول البقاء للمخاطب فتطول حياته حتى يبلى الثوب ويخلف غيره وهكذا.
وخفف الصلاة مرة من أجل بكاء طفل كي لا يشق على أمه، وحمل أمامة بنت بنته زينب في الصلاة وهو إمام، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، وكان يجلس أسامة بن زيد على فخذه والحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يقول: «اللهمّ ارْحمْهما فإِنِّي أرْحمهما».
.