لله در الشاعر محمود غنيم حين قال:
هل تطلبون من المختار معجزة يكفيــه شعـب من الأجداث أحيــاه
وكيف ساس رعاة الإبل مملكة ما ساسها قيصر من قبل أو شاه
فالصحابة الكرام نماذج فريدة لم تعرف البشرية لهم مثيلا عبر تاريخها الطويل، رغم أنهم لم يخلقوا بخصائص غريبة عن عالم البشر، لكن الشيء الذي تفوقوا به على البشر هو فضل صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الصحبة التي أتاحت لهم أعظم قدر من التربية النبوية على يد معلم البشرية صلى الله عليه وسلم فكانوا القمة في الأرض والقدوة في الخلق.
وفي هذا المقال نتناول بعض الدروس التربية المستفادة من السيرة النبوية لنتعلم كيف ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه.
الدرس السادس: التربية بالدعاء
يقول على رضي الله عنه -بعد أن التقى الجيشان في بدر- أتيت فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم ساجدًا يقول: (يا حي يا قيوم). فانطلقت فقاتلت ثم عدت فإذا به ساجدًا يقول: (يا حي يا قيوم). ثم ذهبت فقاتلت ثم عدت فوجدته صلى الله عليه وسلم ساجدًا يقول: (يا حي يا قيوم). وبعد ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم وعدك الذي وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)، وبقي يدعو ويناشد ربه عز وجل حتى قال أبو بكر: (يا نبي الله: كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك)، وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: (أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده، على ثناياه النقع)، وهذا درس لكل القيادات؛ الالتجاء إلى الله عز وجل وعدم الركون إلى إمكانياتهم وما عندهم من علم وطاقة.
الدرس السابع: التربية في الأَسْر
انتصر المسلمون في بدر وعاد معهم سبعون أسيرًا من المشركين فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعًا وقال: أشيروا علي، ماذا نفعل بهؤلاء الأسرى؟
فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء أهلك وقومك قد أعطاك الله الظفر والنصر عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونوا لك عضدًا.
ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما تقول يا ابن الخطاب؟
فقال عمر: يا رسول الله قد كذّبوك وقاتلوك وأخرجوك فأرى أن تمكِّنني من فلان ــــ لقريب له ــــ فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من فلان وهكذا..، ما أرى أن يكون لك أسرى، فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. ووافقه على ذلك سعد بن معاذ وعبد الله بن رواحة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليُليِّن قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب أقوام حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ورأى عليه الصلاة والسلام رأي أبي بكر بعد أن مدح كلا الرأيين؛ لأن الوجهة واحدة وهي إعزاز الدين وخذلان المشركين، وقد بلغ قريشًا ما عزم عليه رسول الله في أمر الأسرى، فناحت على القتلى شهرًا، ثم أشير عليهم من كبارهم ألاّ يفعلوا كيلا يبلغ محمدًا وأصحابه جزعهم فيشمتوا بهم، فسكتوا وصمّموا على ألا يبكوا قتلاهم حتى يأخذوا بثأرهم، وتواصوا فيما بينهم ألاّ يعجلوا في طلب الفداء لئلا يتغالى المسلمون فيه.
انظروا إلى اتساع الهوة بين الآراء، وأرجو أن نركز في هذه المعاني فكل نقطة وكل كلمة فيها تربية، أقول: لو كان هذا في واقعنا في الوقت الحاضر لوجدنا حزب أبي بكر يبدأ بمهاجمة حزب عمر، تيار أبي بكر يقول: هذا الرجل يريد فقط القتل وسفك الدماء والقضاء على الناس، وحزب عمر يقول: هؤلاء يهادنون في دين الله، وهؤلاء الناس ضعفاء هؤلاء الناس تخلوا عن ثوابتهم.. وأريد أن أشير إلى أكثر من ذلك؛ حركة إسلامية كاملة انشقت (6) سنوات على بعضها للخلاف في هذين الرأيين، وبعد (6) سنوات أدركوا أن العدو لا يعطي شيئا فعادوا جماعة واحدة. قضية مثل هذه القضية نأخذ منها آدابًا ثلاثة:
الأدب الأول: لا حاجة لتكرار الرأي إذا كان هناك من نقله بوضوح.
الأدب الثاني: ألا نتهم بعضنا في ديننا، فلم يقل عمر: يا أبا بكر أنت داهنت في دينك، لم يشكك في عقيدة ولا موقف، وكذلك أبو بكر لم يهاجم عمر ويقول: أنت رجل دموي تريد أن تستمر الحرب وتريد أن تتأجج وتقتل قريش كلها؛ احترم كل منهما رأي صاحبه.
الأدب الثالث: موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذين الرأيين، فالقائد بحاجة إلى أن يكون حكيمًا يستوعب كل التيارات الموجودة عنده فبدلًا من التشكيك بموقف عمر أو التشكيك بموقف أبي بكر أكد أن كلا الموقفين من الإسلام وله مثل في الأنبياء والرسل، وهذا الموقف عظيم جدا نحن بحاجة إلى أن نقف عنده طويلا، نحن كلنا حريصون على دعوة الله وأي موقف يتخذه الإنسان في رأيه أنه الأصلح للدعوة ليس ضعفًا ولا تخاذلا، وليس كذلك بطشًا ولا عصبيةً ولا عدم مسئولية، نتعلم إذن من هذه التربية كيف نسمع الرأي وكيف نتعامل مع الرأي وكيف نحافظ على وحدة صفنا مهما تباعدت الآراء، ومن عظمة الجواب الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بدا وكأنه جمع بين الرأيين، فقال: (لا يفلت أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق)، الرسول صلى الله عليه وسلم قال الكلمة بأسلوب كأنه اقترب من رأي عمر لكنه أخذ بالفداء لتبقى القلوب كلها ملتحمة.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
.