دكتورة: هالة حساني
إنّ التفويض آلية من آليات تنمية القادة، إذ إنها تمكن القيادة من معرفة حقيقة طاقات المرشح للقيادة وحقيقة قدراته، ومهاراته، واكتشاف مواطن القوة ونقاط الضعف في شخصيته ومعارفه وميزاته.
إن القيادة تحتاج إلى أخذ أمور معينة تساعدها على تحقيق أهداف التفويض واستثمار إيجابياته، وهذا ما سيتم التطرق إليه من خلال مطلبين:
المطلب الأول: العوامل.
المطلب الثاني: الأسباب.
المطلــب الأول: العوامـــل
إنّ نجاح عملية التفويض يتوقف على عدة عوامل ينبغي على القيادة أخذها بعين الاعتبار لتحقيق أهداف التفويض ومن هذه العوامل ما يلي:
- أن يكون المرشح للقيادة على معرفة وافية بالمهمة وطبيعتها، ومتطلباتها، ومدتها، والتحديات التي قد تواجهه أثناء أدائها، وواجباتها وحقوقها.
- ضرورة اقتناع المؤهل بالمهمة.
- تفويض كل من السلطة والمسؤولية، حتى يتحمل المسؤولية كاملة.
- انتهاج سياسة الباب المفتوح، لأنها تساعد على التفويض الفعال.
- احترام مستويات التفويض(١) والتي منها:
المستوى الأول: ويناسب هذا المستوى ذوي النضج الوظيفي المنخفض نسبياً.
المستوى الثاني: يوفر مزيداً من الحرية والفرص، ويناسب ذوي النضج الوظيفي المرتفع نسبيا.
المستوى الثالث: تصل القيادة بالمفوض إليه إلى الوضع الذي يتحمل فيه مسؤوليات العمل اليومي دون تدخل منها ويناسب ذوي النضج العالي.
- اهتمام القيادة بمتابعة كيفية ممارسة السلطات المفوضة واجتناب التدخل المستمر.
- اعتبار الأخطاء الواقعة من طرف المفوض إليه طبيعية؛ لأن هذا الأخير لا تتاح له فرصة التعلم وكسب الخبرة إلا إذا أخطأ، وصحح له رئيسه هذا الخطأ (٢).
- ضرورة قيام القيادة بعد عملية التقييم ببعض الإجراءات؛ فإذا لوحظ أن العمل يؤدَّى بطريقة خاطئة وبأساليب فاشلة، فعليها:
أ-مراجعة طريقة التكليف والتفويض بالمهمة وطرح الأسئلة التالية:
- هل تم تحديد معايير أداء واضحة؟
- هل تم شرح طرق أداء المهمة بالتفصيل؟
- هل تم تشجيع الفرد على طرح الأسئلة والاستفسارات؟
- هل تم إعطاؤه نموذجا أو مثالا يقيس أداءه عليه؟
- هل تم القيام بعملية المتابعة بعد التكليف بالمهمة؟
ب- اجتناب سحب التفويض بشكل مفاجئ وفوري، لأن هذا يؤثر على الفرد سلبيا.
ت– الإشعار بالمسؤولية والالتزام المشترك.
ث– الاقتراح على المرشح للقيادة بالحصول على مزيد من التدريب والإعداد لأداء المهام القيادية.
ج– تفويض أجزاء إضافية من المهمة كلما تحسن الأداء لتعميق الثقة في النفس، وزيادة التدريب.
- يقوم القائد بتكليف المؤهل بمهام قيادية في الجماعة بشكل تدويري أو تحويلي من مهمة إلى أخرى حتى يتم اكتشاف القدرات والاستعداد والمهام التي يصلح لها.
- عدم تفويض نفس المهام أو الأعمال إلى مجموعة من المرشحين في نفس الوقت حتى لا يحدث اختلال في التوازن بين السلطات والمسؤوليات، والتداخل في حدود الصلاحيات وتوزيع الأدوار، كما ينبغي ألا يخل تفويض السلطة بمبدأ التكامل.
المطلــب الثانــي: الأسبــاب
- آلية من أهم آليات الإعداد القيادي فعملية التفويض تساعد على تنمية المهارات، وتطوير المعارف وترقية القدرات، ورفع كفاءة المؤهلين للقيادة، وصناعة قادة مهرة واثقين من أنفسهم.
- حافز مهم للمفوض إليهم، وآلية من آليات رفع المعنويات وتعزيز الثقة بالنفس وبالقيادات.
- إتاحة فرصة المشاركة الفعلية للأفراد في صنع القرارات، و الحصول على أقصى درجة من الكفاءة.
- توزيع عبء العمل بطريقة أفضل، والاستفادة من الطاقات والطروحات والخبرات والتجارب.
- توفير مزيد من الوقت للقيادات لحل المشكلات الكبرى، والقيام بالمهام غير الروتينية، والتفرغ للقضايا المصيرية والمسائل الحساسة التي تمس بمصلحة الجماعة، وللتخطيط ورسم السياسات والإستراتيجيات.
- تأمين مستقبل الجماعة بتأمين تقلد المناصب القيادية من طرف الأكفاء الذين سهرت الجماعة على إعدادهم قيادياً.
لقد اهتم الإسلام بعملية التفويض والوكالة التي هي «إقامة الغير مقام النفس في تصرف جائز معلوم ممن يملكه.» (٣)
﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾(الأعراف: ١٤٢).
- كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وظف آلية التفويض والتدوير نظراً لأهميتها وفعاليتها في الإعداد القيادي، والتمرس على فنون القيادة، إذ إنه صلى الله عليه وسلم كلف الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين بعدة مهام إعداداً لهم ليكونوا قيادات مستقبلية تحافظ على الدين والدولة والأمة، ومن بين الصحابة الذين وظف معهم آلية التفويض والتدوير على سبيل المثال لا الحصر:
1- أبو بكر الصديق رضي الله عنه كلفه بعدة مهام ووظائف، فمن أهم ما فوضه إليه:
- تكليفه بشراء من أسلم من الموالي المستضعفين التماسا بقوله: «لو كان عندنا شيء ابتعنا بلالاً، اعتبر الصديق رضي الله عنه هذه الكلمة بمثابة خط دائم وتفويض مستمر بهذا الاتجاه، فمضى يضع صلب ماله في تحرير رقاب المؤمنين المنضمين إلى هذا الدين الجديد من الرق.» (٤).
- التكليف بمهمة الصحبة في الهجرة وتأمين القيادة، وهي أخطر المهام التي يمكن أن يكلف بها عضو في جماعة إلا إذا كان قمة في القوة والثقة والأمانة.
- التكليف بالحج: «قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالاً وذي القعدة، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج من سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، فخرج أبو بكر رضي الله عنه ومن معه من المسلمين.»(٥)
- التكليف والتفويض لمهمة الإمامة والصلاة بالناس، كما كلفه صلى لله عليه وسلم بالإمامة لما اشتد عليه المرض قال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.» (٦)
2- أما علي رضي الله عنه فقد كلفه وفوضه الرسول صلى الله عليه وسلم للقيام بعدة مهام إعداداً وتدريباً له على الأدوار القيادية، ومن المهام التي قام بها تفويضاً وتدويراً ما يلي:
- مهمة المبيت في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة وأداء الودائع التي كانت معه لأصحابها وهي مهمة فدائية خطيرة.
- مهمة القضاء: وهي مهمة صعبة لا يؤدي حقها إلا من أوتي القوة والعلم والحكمة وهي من الخصائص القيادية: «عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت: يا رسول الله ترسلني وأنا حديث سن ولا علم لي بالقضاء فقال: «إِنَّ اللهَ يَهْدِي قَلْبَكَ، وَيُثَبِّتَ لِسَانَكَ، فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِي حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآَخِرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ»(٧)
- مهمة الغزوة: هي الأخرى تبين طبيعة الإنسان وإمكانياته، وتدربه على المهام القيادية، «قال ابن هشام: قال أبو عمرو المدني: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب إلى اليمن وبعث خالد بن الوليد في جند آخر، وقال: «إِنَّ الْتَقَيْتُمَا، فَالْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»(٨)، «وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في مائة وخمسين رجلاً من الأنصار على مائة بعير، وخمسين فرساً ومعه راية سوداء وراية بيضاء إلى الفلس، وهو صنم طيء ليهدمه»(٩).
- مهمة المبارزة: التي عليها تتوقف نتائج الحرب لما لها من تأثير على الروح المعنوية للجند، مثال غزوة بدر:«قال ابن إسحاق: ثم خرج عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي... وبارز علي الوليد بن عتبة... وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله.» (١٠)
- مهمة قراءة تعليمات الله التي جاءت في سورة التوبة: «قال ابن إسحاق: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان بعث أبا بكر رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبي بكر؛ فقال: لا يؤدي عني إلاّ رجل من أهل بيتي؛ ثم دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته.» (١١)
- مهمة الكتابة في صلح الحديبية.
لم يتوقف التكليف والتدوير والتفويض على كبار الصحابة الذين أعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكونوا خلفاء راشدين، بل تعداه إلى غيرهم؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يستهدف جميع الصحابة للإعداد القيادي حتى يكونوا قادة قدوة هداة يهتدي بهم المسلمون عبر الأزمان والأمصار.
3- فقد وكل مثلاً مصعب بن عمير ليكون سفيراً في المدينة المنورة، فكان أول سفير في الإسلام يقوم بدور دبلوماسي دعوي تنظيمي يؤسس به قاعدة لاحتضان الدعوة، ونواة أساسية لبناء دولة.
4- كما كان صلى الله عليه وسلم يكلف زيد بن حارثة بالأدوار القيادية تكويناً وتأهيلاً له ليكون قائداً نموذجياً، «فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمَّره عليها، ولو بقى لاستخلفه.» (١٢)
إنّ آلية التفويض مهمة جدّاً في الإعداد القيادي مهما كان مستوى القيادة، ومهما كان نوعها، والقيادة الناجحة تدرك أهميتها وضرورتها في الحياة القيادية والجماعية، هذا ما أدركه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال في أول خطبة له: «أما بعد، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبي، فمن كان بحضرتنا باشرناه، ومهما غاب عنا ولينا أهل القوة، والأمانة، فمن يحسن نزده حسناً، ومن يسئ نعاقبه، ويغفر الله لنا ولكم.»(١٣)
—————————————————
- هذا مختصر من كتاب "آليات إعداد القادة …تأصيل شرعي " للدكتورة هالة حساني
- محمد فتحي، أبجديات التفوق الإداري، ص(١٧٩-١٨١)بتصرف.
- عطية حسين أفندي، ود. أحمد رشيد، مقدمة، ص٧٨.
- محمد رواس قلعة جي، موسوعة فقه علي بن أبي طالب، دمشق، دار الفكر ص ٦٤٢.
- د.منير غضبان،التربية القيادية، السابقون الأولون من المهاجرين، ط١، مصر،دار الوفاء١٩٩٨، ص١٤١.
- ابن هشام، السيرة النبوية،ج٣-٤، ص٤٥٩.
- المرجع السابق ص٥٤٦.
- الكتاني، التراتيل الإدارية، ص٢٦١.
- ابن هشام، السيرة النبوية، ج٢، ص٥٣٩.
- ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، ص٤٧١.
- ابن هشام، السيرة النبوية، ج١-٢، ص٥٢٢.
- نفس المرجع ج٣-٤،ص(٤٦١-٤٦٢).
- ابن حجر، الإصابة، ج١،ص٥٦٤.
- ابن سعد، الطبقات الكبري،ج٣،ص٢٧٤.
.