إن المعيار الحقيقي الذي يُقاس به مستوى وجود الشخص في الدنيا، هو ما خَلَّفَهُ ذلك الشخص من آثار- سواء كانت فكرية أو مادية- ومدى قوة تأثيرها على غيره من الناس.
وبما أن مهمة الإنسان الوجودية تتمثل في عبادة الله- تعالى- وإعمار الأرض، فإن الله- سبحانه- أرسل محمدًا ﷺ ليربي المسلمين حتى يكونوا صالحين للقيام بدورهم الاستخلافي بالشكل المطلوب الذي يليق بمكانتهم، وعملية التربية والتزكية من الرسول ﷺ للأمة الإسلامية لم تكن محصورة فقط في مرحلة البعثة النبوية.
وفى هذه الدراسة، يتطرق الباحث طارق زوكاغ، للأسس الموضوعية التي جعلت معاني التربية متحققة على الدوام، وللمسالك الإجرائية التي تجعل الأمة الإسلامية تتلقى التربية النبوية.
شمول السنة النبوية
السنة النبوية الشريفة شاملة لجميع التصرفات والمراحل والأحوال التي يمكن أن يوجد عليها الإنسان: من فقر أو غنى، وفرح أو حزن، وقوة أو ضعف، وصحة أو مرض، وخوف أو أمن، وفراغ أو انشغال... إلخ، وتشمل أيضًا جميع الأدوار والمناصب التي يمكن أن يُمارسها الناس بشكل عام، فقد كان- عليه السلام- إمامًا ومفتيًا وقاضيًا وقائدًا عسكريًا، وكان تاجرًا وزوجًا وأبًا {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرً} (الأحزاب: 46).
كما أن مواضيع السنة الشريفة تغطي جميع المجالات التي تؤطر حياة الإنسان: من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وغيرها.
هذه المسالك مترابطة ومتكاملة فيما بينها، ومجموعها يمكن أن يحقق المعية المعنوية للرسول ﷺ بالنسبة للمسلم الذي يسلكها، وهي:
أولًا: محبة الرسول ﷺ
الكلام عن «المحبة النبوية» هنا ليس مُجرّد دعوى ناقصة تَصْدُقُ على صاحبها بمجرد النطق بها؛ بل نتحدث عنها باعتبارها عقيدة كاملة لها أسباب تُنتِجها، ومقتضيات تلزمها؛ فمن أسباب تمتين محبة الرسول ﷺ في النفس المؤمنة:
- كثرة ذكره والصلاة عليه ﷺ، والدعاء الدائم بقبول شفاعته في المسلمين، وبالاجتماع معه- عليه السلام- على الحوض يوم الدين.
- تعظيمه وتوقيره ﷺ وتذكّر مكانته عند الله- سبحانه وتعالى- وفضله على الناس، وذكره بما يليق به من الأوصاف ﷺ. قال- سبحانه-: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضً} (النور: 63).
- أما العلامات والمقتضيات التي تبرهن على حصول محبة الرسول ﷺ، فمنها: أن يلحظ المسلم في نفسه أنه يحيي السنة النبوية؛ فهو القائل ﷺ: «من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة».
- أن يجد المسلم في نفسه رغبة دائمة في الاطلاع على أخباره وقراءة سيرته ﷺ، والشوق إلى لقائه.
ثانيًا: مطالعة السنة النبوية وتدبرها:
قال- سبحانه-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً} (الأحزاب: 21)، ومُنْطَلَق هذا التأسي أمران، هما:
- القراءة المستمرة لأحد المتون الجامعة للسنة النبوية النبوية الصحيحة، والكتاب الذي جمع وأوعى في هذا الباب هو «رياض الصالحين» للنووي، رحمه الله.
- تدبُّر أقوال وأفعال الرسول ﷺ والسعي الدائم والدؤوب لمقاربتها واتباعها؛ لأنها المقياس الذي أمرنا بأن نَزِنَ به أعمالنا، وهي الوسيلة التي نمارس بها النقد والتمحيص لتصرفاتنا.
ثالثًا: ملازمة العلماء الربانيين:
منزلة العلماء الربانيين في الأمة بمنزلة الأطباء، وهم ورثة الأنبياء، ولا تسمع منهم سوى: « قال الله... قال رسول الله»، كما أن رؤيتهم تُذكّر بالله، ولا تُبصِرُ في تعاملهم إلا التطبيق لما جاء في القرآن والسنة؛ حتى اعْتُبِرَ تقليد الناس لهم نوعًا من الإفتاء بأفعالهم.
.