الإنسان هو محور الاهتمام في الأرض، خلقه الخالق من طين، ونفخ فيه من روحه، وعلّمه من عِلمه، وأمر الملائكة بالسجود له، وكرّمه على كثير من الخلق، فقد جعله الله سبحانه وتعالى خليفته في الأرض دون سائر مخلوقاته الأخرى، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30).
وفى دراسة بعنوان: «المنهج التربوي القُدوة»، للدكتور يوسف الأمين يوسف، يتناول فيها محاور، منها: المفهوم الإسلامي للتربية والتعليم، وخصائص المنهج الإسلامي، ومميزات المنهج التربوي الإسلامي على مدار التاريخ، وما يجده الطفل من الاهتمام والرعاية فيه.
المفهوم الإسلامي للتربية والتعليم
التربية والتعليم في الإسلام، هي الوسيلة التي ميز بها الله آدم على غيره من المخلوقات، والأداة التي استخدمها الرسول ﷺ في نشر الدين وتنظيم الحياة بجميع ميادينها، قال سبحانه وتعالى: {هو الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2)، وأولى الإسلام التربية والتعليم أهميته الكبرى، فلقد كانت أولى الآيات القرآنية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العَلَق: 1-5) وتهدف التربية الإسلامية إلى:
- اكتساب المعارف والتزود بالثقافة.
- النمو المتوازن لقوى الإنسان: جسميًا، وعقليًا، وروحيًا.
- التكوين الأخلاقي.
- التمرس على أعباء الحياة، واكتساب الرزق.
- التكوين الاجتماعي.
فالأصل في التربية– من المنظور الإسلامي– أنها نظام، يتكامل فيه مجموع المواد والأنشطة المدرسية، بشكل يؤدي في النهاية إلى إعداد الشخصية المسلمة.
ويرى الإمام الغزالي أن غاية التربية أن: «تحقق الكمال الإنساني الذي يقرب صاحبه إلى المولى عز وجل، وتتحقق بذلك سعادته في الدارين الأولى والآخرة».
وبينما تلتقي مناهج التربية الأرضية على أن هدف التربية هو إعداد (المواطن الصلاح).. نجد أن التربية الإسلامية لا تحصر نفسها في تلك الحدود الضيقة، إنما تسعى لتحقيق هدف أكبر وأشمل، وهو إعداد (الإنسان الصالح).
خصائص المنهج الإسلامي
- منهج رباني، مستمد من كتاب الله العزيز الحكيم: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ومستمد من سنة رسول الله ﷺ الذي قال الله فيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3،4).
- الشمول والتكامل: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 148).
- متوازن ومعتدل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143).
- الواقعية والمثالية: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 9.).
- الإيجابية السوية: قال ﷺ: «لا عَدْوَى، ولا طيرةَ، ولا هامةَ، ولا صَفرَ، و فِرَّ مِنَ المجذومِ كما تَفِرُّ مِنَ الأسدِ». وملخص الحديث: النَّهيُ عن التَّشاؤُمِ، وبيان أن الأسبابِ تُفضِي إلى مُسبباتِها؛ ولا تستقِلُّ بذاتِها، بل اللهُ هو الذي إن شاءَ سلَبها قُواها فلا تؤثِّرُ شيئًا، وإنْ شاءَ أبقاها فأثَّرتْ.
- التطور والثبات.
مميزات المنهج التربوي الإسلامي على مدار التاريخ
- أن المواد التي كانت مقررة في الكتاتيب تعطينا تصورًا صحيحًا عن أهمية القرآن الكريم في بوابة التعليم، فمنذ فجر الإسلام وإلى اليوم، تتابعت أجيال عديدة، كلها رُبيت وعلمت في ظل القرآن وتحت رايته، فالطفل المسلم يبدأ تعليمه بحفظ القرآن وتعلمه، ونظم التربية والتعليم كلها تقوم على منهج قرآني، أساسه أن القرآن هو محور الثقافة، وباب العلم، وهو العمود الفقري للعلوم جميعها، سواء أكانت علومًا دينية، أم علومًا مكتسبة.
- أن التركيز على القرآن الكريم وتدريسه في الكتاتيب، الهدف منه توجيه أبناء الأمة الإسلامية توجيهًا إسلاميًا صحيحًا، بحيث يتأثر بخلق القرآن، ويتمثل ذلك في سلوكياته، ويحفظه من الزيغ والانحراف، ويُكسبه مهارات لغوية قد يغفل عن فائدتها كثير من الناس.
- احتوى المنهج على علوم اللغة العربية، التي هي لغة القرآن الكريم ومفتاح فهمه وتدبره، ولا يمكن حفظه وفهمه وتدبر معانيه إلا بحفظ لغته والمحافظة عليها.
- أن المنهج الدراسي سعى إلى تنويع القاعدة التعليمية، وإيجاد مختلف التخصصات في شتى صنوف المعرفة؛ حتى تتوفر الكفاءات العلمية التي تستفيد منها البلاد، وتكتفي اكتفاء ذاتيًا عن الاستعانة بالآخرين، إلا في مجالات ضيقة ومحدودة، وفي المواد غير الدينية، وأن إغفال هذه التخصصات في المنهج الدراسي وإهمالها يعتبر عائقًا في تنويع القاعة، وإهمالًا للعقول البشرية وتعطيلها من المساهمة في تنمية وتطوير البلاد، وتغطية مختلف التخصصات التي تحتاجها البلاد وينتفع منها العباد.
- أن المنهج الدراسي اهتم بالجانب المهني، هادفًا من وراء ذلك استغناءَ الأمة الإسلامية عن غيرها، والاعتماد على أبنائها في هذا الجانب.
- المرونة في المنهج التربوي، وتظهر أصالة المنهج الدراسي في أنه مرن وغير جامد، بمعنى أنه يستوعب الجديد، وينفتح على الحضارات الأخرى، بحيث لا يتعارض ذلك مع الدين الإسلامي، لأن العلم في تطور مستمر.
- ويمتاز المنهج بالتدرج في طلب العلم، فلا يقدم ما حقه التأخير، ولا يؤخر ما حقه التقديم، وهذا مبدأ نبوي كريم، فالمقياس الذي يميز علمًا من آخر يتقرر بشيئين: ثمرة العلم، ووثاقة دلالته؛ فمثلًا علم الدين ثمرته الحياة الأبدية التي لا آخرة لها، وعلم الطب ثمرته حياة البدن حتى الموت، لذا فعلم الدين أشرف منه.
- ويمتاز المنهاج الدراسي بأنه قام على أساس مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين واستعداداتهم وميلوهم، ولم يقم على القهر والإجبار، فكل متعلم متخصص في العلم الذي يميل إليه، ويتقن صناعةً يرومها ويحبها، وهذا مبدأ قرآني ونبوي في آن واحد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) والنظام التربوي الأمثل هو الذي يراعي هذا المبدأ.
- يقوم منهج التربية في الإسلام على مبدأ الارتباط الكامل بالدين، وما فيه من تعاليم وقيم، ولهذا نجد أن هذا المنهج يهدف إلى تحقيق عبودية الله سبحانه وتعالى، ويُجل القرآن الكريم أساس التربية لكل المواد التالية للقرآن، فالعلوم تكمل بعضها بعضًا، فهناك علوم الأداء، فهي وسيلة لفهم القرآن والسنة، مثل: اللغة، والصرف، والنحو الذي يستعان به لفهم القرآن والسنة، وهذا شبيه بنظام الساعات الموجودة حاليًا في بعض أقطار العالم الإسلامي، والذي قدم مواد دراسية بشكل تسلسلي منطقي بحيث لا يقوم المتعلم على فن حتى يتقن الذي قبله.. وهكذا، وعلى هذا الأساس يتلخص هذا المنهج الذي كان قائمًا في عصور الإسلام الأولى في نوعين من المواد الدراسية، أولاهما: المواد الدراسية الأساسية؛ ومنها الكتاب، والسنة، والسيرة النبوية، وثانيهما: العلوم العصرية.
- يتميز منهج التربية الإسلامية بتكامل المعرفة.
تربية الطفل في الإسلام
اهتم الإسلام بالأطفال قبل أن يولدوا، وبعد أن يولدوا، ورغّب في الولد والإنجاب، وجعل الأولاد قرة العين، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74) وجعل العلاقة الشرعية بين الأب والأم هي الضمان والأمان للطفل، وأن التوحيد العقائدي بين الأب والأم هو أساس العلاقة التي يخرج مها هذا الطفل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (البقرة: 221).
فالطفل الذي ينشأ بين أبوين متنافرين يُعقد نفسيًا، وبعد الاتفاق في الدين لا بد من حسن الاختيار، وقد سُئل عمر بن الخطاب: ما حق الولد على أبيه؟ فقال: «أن ينتقي أمه، ويُحسن اسمه، ويعلمه القرآن»، ومن هذه المقولة تعلم أن الإسلام يهتم بالطفل قبل أن يأتي. يرعاه بفكره ويخطط لمستقبله.
ونبه القرآن أن الصفات الوراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء، فوجب حسن الاختيار؛ ليكون الولد أخصب عقلًا، وأقوى جسمًا؛ لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (الإنسان: 2).
ودعا الإسلام إلى أهمية الاستعداد لمَقْدِم الطفل قبل مولده، وحذر من الهم والخوف بشأن كيفية معيشتهم ورزقهم، فالله سبحانه وتعالى تكفل بالرزق، قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا} (الإسراء: 31) فهو سبحانه وتعالى يخلق ويرزق؛ فيجب الاستعداد لقدوم الأطفال مهما بلغ عددهم. وإذا كان الأولادُ همًّا وتعبًا؛ فلهم فوائد قدر الهم والتعب الذي يُبذل من أجلهم، منها: البِرّ، وبَقاء الذِّكرِ، والولد يحمل اسم أبيه، ومنها التمتع بهم، لقوله سبحانه وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46) ومنها الدعاء للوالدين بعد الموت، لقول الرسول ﷺ: « إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عملُه إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»، والولد يشمل الذكر والأنثى، ومنها شفاعة الولد يوم القيامة لوالديه إذا مات صغيرًا.
نموذج من حرص الوالد على تربية ابنه
ونأتي إلى نموذج تربوي فريد، حيث أورد القرآن أهم عِظات التأديب والتربية للأطفال، وجاءت على لسان الحكيم لقمان، وهو يعظ ابنه في عشر خصال هي كمال التربية لا جدال فيها:
الأولى: عدم الإشراك بالله، قال سبحانه وتعالى: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (لقمان: 13).
الثانية: الإيمان بقدرة الله وصفاته، وأنه يعلم كل شيء، قال سبحانه وتعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 16).
الثالثة: إقامة الصلاة، قال سبحانه وتعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} (لقمان: 17).
الرابعة والخامسة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان:17).
السادسة: الصبر على البلاء، قال سبحانه وتعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17).
السابعة: التواضع وعدم التكبر، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} (لقمان: 18).
الثامنة: السكينة وعدم الاختيال، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (لقمان: 18).
التاسعة: الاعتدال، قال سبحانه وتعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (لقمان: 19).
العاشرة: عدم رفع الصوت، قال سبحانه وتعالى: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 19).
.