المشروع الإسلامي والعمل الحزبي بين الفتوى والحكم الشرعي

عادل الأنصاري

ليس خافيا الموقف المعلن الذي طرحه الإمام حسن البنا حول الحياة الحزبية التي رفضها ورأى أنها مخالفة لمنهج الإسلام وبعيدة عن قيمه، فقد كان البنا واضحا وصريحا في رفضها حيث ذكر في رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ قناعته بأن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شيء، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه .

ويرى الإمام البنا أن التحزب يخلق الانقسامات والتفرقة بين المسلمين في الإسلام، فيقول: «وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي، من تنابذ وتقاطع، وتدابر وبغضاء يمقته الإسلام أشد المقت، ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات».

ثم يفرق في ذات الرسالة بصورة جلية بين الحزبية التي شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفي كل ما يتفرع منها من جانب، وبين حرية الآراء التي يبيحها الإسلام ويحض عليها، وكذلك تمحيص الأمور وبحث الشؤون والاختلاف فيما يعرض تحريا للحق، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع.

 

الفتوى والحكم الشرعي

 ومن خلال هذا الاستعراض يتضح جليا أن رأي الإمام البنا كان بينا غير ملتبس في رفضه للعمل الحزبي، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الأسباب التي دفعت بمن جاء بعد البنا لقبول العمل الحزبي بل وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين للأحزاب السياسية في غير بلد من البلدان حتى بات العمل الحزبي نظاما مستقرا وأداة معتبرة في الأداء السياسي للجماعة في كثير من البلدان.

والحقيقة أن قراءة متأنية لكلام الإمام البنا يمكن أن يحل هذا الإشكال ويجعله طبيعيا ومنطقيا ويحرر التعارض بين الموقف السابق للمؤسس وبين الخيار السياسي الجديد للجماعة والذي يرتكز على عدد من الأسباب، أهمها: أن رؤية البنا بقبول الأحزاب أو رفضها لم تكن بحال من الأحوال في إطار طرح الحكم الشرعي الثابت، ولكنها كانت في إطار الفتوى التي تسقط الحكم الشرعي على الواقع المتغير.

والفارق واضح وكبير بين الحكم الشرعي الثابت الذي لا يقبل التغيير على مدار الزمان والمكان والملابسات، وبين الفتوى التي تدور مع أسبابها وجودا وعدما، فالحكم كما عرفه الأصوليون هو: خطاب الشرع المتعلق بأحكام المكلفين بالاقتضاء أو التخيير؛ أما الرأي الفقهي فهو: اجتهاد الفقيه في المسألة.

كما فرق الأصوليون أيضا بين المحرم لذاته والمحرم لغيره، فالمحرم لذاته هو ما حرمه الشارع بأصله ابتداء لسبب قائم في عين المحرم لا ينفك عنه كالخمر والميتة والخنزير والدم، أما المحرم لغيره فهو ما حرمه الشارع لأمر خارج عن ذاته، مثل: المعازف التي استند الفقهاء في تحريمها على ارتباطها بمجالس المجون والخمور.

والواقع أن الإمام البنا في فتواه حول رفض الأحزاب والحياة السياسية لم يحرم أصل الأحزاب والحياة الحزبية لذاتها، ولكن حرمها لما ارتبط بها من ممارسات تتعارض كامل التعارض -كما أوضح- مع قيم الإسلام، مثل: تفريق وحدة الأمة وما يعتريها من تنابذ وتقاطع، وتدابر وبغضاء وهو ما ذكر أن الإسلام يمقته بشكل واضح أشد المقت.

هناك سبب آخر استند عليه الإمام البنا في فتواه بعدم جواز الأحزاب السياسية، وهو أن الأمة كانت تواجه حينها المستعمر البريطاني الذي كان جاثما على صدور المصريين، وأن هذا الواقع كان يستدعي وحدة الأمة في مواجهته والتصدي له، بينما كانت الأحزاب في حينها تفرز واقعا مشتتا عن الوحدة المطلوبة في مواجهة المستبد، وأن الواجب حينها على الجميع أن يتكاتف في إطار مشروع وطني جامع لمواجهة الخطر الداهم المتمثل في الاحتلال الأجنبي.

وبذلك، فإن نتائج الفتوى هنا مرهونة بمنطلقاتها، فإن كانت الأحزاب السياسية تفرق الأمة وتضعف وحدتها وتثير البغضاء بين مكوناتها وتصرفها عن هدفها الرئيس في مواجهة المستعمر والمستبد؛ فإن ضررها حينئذ يكون أكبر من نفعها.

وإن كانت الأحزاب السياسية وسيلة مناسبة للحفاظ على وحدة الأمة ونبذ الشقاق بين أبنائها نظرا لأنها تتيح التداول السلمي للسلطة بين مكونات المجتمع، فهي بذلك وسيلة مباحة تصل إلى حد الوجوب بديلا عن حالة الفوضى التي يمكن أن تتحقق حال التنازع بين قوى المجتمع على السلطة بعيدا عن الآليات الديمقراطية والحزبية والتي تعد حلا مناسبا لمشكلة وليست سببا في تحقيقها.

 

الإخوان والأحزاب.. وقفات تاريخية

ولعل وقفات مع تاريخ جماعة الإخوان حول رؤيتهم للأحزاب السياسية وفقا لتتابع الأحداث وتغيرها على مدار العقود الماضية في مصر يكون مهما لتجلية الصورة عن طبيعة هذه العلاقة ومدى تغيرها مع تغير الدوافع والملابسات والأسباب، وبالتالي تنوع وتغير الحكم عليها وتكوين الموقف السياسي حيالها قبولا أو رفضا.

فالإمام البنا في ظل الاحتلال البريطاني وفي ظل حاجة الأمة لمشروع وطني جامع لمواجهة الاستعمار وفي ظل حالة التردي الواضح والتنافر والتشرذم التي كانت بادية على الحياة السياسية حينها، في ظل ذلك كله لم يجد البنا حينها في الاحزاب السياسية النموذج الذي يمكن أن يساعد على الخروج من هذا الواقع، بل على العكس كانت الممارسات الحزبية حينها تصب في إحداث حالة من الانقسام بعيدا عن المشروع الوطني الجامع الذي يناهش المستعمر، ولذا رجح الإمام البنا الفتوى برفض الأحزاب وفقا لطبيعة دورها في حينها ووفقا للدور المطلوب منها في ذات الوقت.

وإذا انتقلنا إلى مرحلة الخمسينات والستينات وجدنا مصادرة حقيقية ليس للأحزاب، ولكن لكل أشكال العمل السياسي التنافسي وأصبحنا أمام مشروع أحادي يقوده الحاكم ويصادر ما دونه من أفكار، ولم يكن حينها لأحد أن يفكر في استئناف أي عمل سياسي سواء كان حزبيا أو غير حزبي.

وجاءت مرحلة السادات حيث أسس المنابر وفكك الاتحاد الاشتراكي -وهو الحزب الواحد إبان عهد عبد الناصر- إلى ثلاثة منابر، حولها فيما بعد إلى ثلاثة أحزاب، أحدها يساري [التجمع] والثاني ليبرالي [الأحرار] والثالث وسط وهو [الحزب الوطني الديمقراطي].

وفي حقبة مبارك سمح بتأسيس عدد من الأحزاب، إلا أنه جعل قرار السماح بتشكيل الحزب مرهونا بموافقته، فأسس لجنة الأحزاب التي شكلها من أعضاء حزبه ليكونوا حكما على الشعب في الموافقة على تأسيس أي حزب أو رفضه.

وقد كان موقف الإخوان واضحا أيضا في حقبتي السادات ومبارك، حيث رفضت الجماعة بصورة قاطعة الحصول على الموافقة بتأسيس حزب لها من خلال الحاكم أو حزبه، وأصرت بل وطالبت مرارا أن يكون تأسيس الأحزاب بالإخطار دون تدخل من الحاكم بحيث يكون الشعب هو صاحب القرار في بقاء الحزب أو تهميشه ورفضه.

إلى أن جاءت ثورة يناير فتحقق الهدف الذي سعت له الجماعة منذ نشأتها بأن يكون الشعب هو صاحب القرار وهو من يملك عصمته بنفسه، وأصبح تأسيس الأحزاب في هذه المرحلة بالإخطار واقتصر دور الحاكم على مجرد متابعة وتقنين الإجراءات، فأسست الجماعة حينها حزب الحرية والعدالة كأول حزب سياسي لها، بل وكانت أول التيارات السياسية التي حصلت على ترخيص حزب سياسي بعد الثورة.

ثم جاءت مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري حيث تمسكت الجماعة بحقها في استمرار حزب الحرية والعدالة وباقي الأحزاب باعتبارها أحزابا نشأت وتأسست نتيجة إرادة شعبية تمثلت في مكتسبات ثورة يناير.

وبالرغم من تمسك الجماعة بكل المتكسبات التي حصل عليها الشعب في ظل ثورته، إلا أنها جعلت همها الأكبر في توحيد كافة القوى الشعبية لإنهاء هذا الانقلاب الذي حرم الشعب من كافة مكتسباته، ومنها ممارسة العمل الحزبي التنافسي والذي كان أحد مكاسب ثورة يناير، في ظل حالة من التسليم الكامل للغالبية الغالبة من الأحزاب السياسية لترجع من جديد لتكون جزءا من إرادة الحاكم.

 

محددات تحكم رؤية الجماعة مع الأحزاب

وخلاصة ما نقلنا من تاريخ جماعة الإخوان مع الاحزاب السياسية منذ أربعينات القرن الماضي وحتى مرحلة ما بعد الانقلاب نجد أن هناك عددا من المحددات التي حكمت رؤية الإخوان مع الأحزاب السياسية قبولا أو رفضا:

أولها: أن تكون الأحزاب السياسية رافعة للمجتمع وحائلا دون تقسيمه وتشرذمه، ويكون الحال كذلك عندما تتحول الأحزاب إلى أداة لحسم الخلاف على الحكم وتساهم في إيجاد آليات ديمقراطية لمنع الصراعات المريرة التي تعاني منها الشعوب في مراحل الانتقال من حقبة حكم إلى ما يليها.

ثانيها: أن تتأسس الأحزاب وفقا لإرادة شعبية لا وفقا لإرادة الحاكم، ويقتصر دور السلطة في تأسيس الأحزاب فقط على مجرد التقنين في إطار مؤسسات الدولة وليس في إطار مؤسسات تابعة للحاكم.

ثالثها: أن تكون الأحزاب معبرة عن إرادة شعبية حقيقية وليست صدى أو مبررا لاستمرار مستبد أو أداة لتحقيق أهدافه.

ووفقا لهذه المحددات الثلاثة يظل موقف المشروع الإسلامي من فكرة الأحزاب مرتبطا بأسبابها ويظل الحكم في كل الحالات مرهونا بأسبابه وآثاره وجودا وعدما.

فإذا كانت الأحزاب السياسية في الوقت الحاضر –في عدد من الأقطار- تعبر عن إرادة شعبية حقيقية وتتأسس وفقا لإرادة الشعب، وتكون عاملا حاسما وحقيقيا في نقل السلطة بين الفرقاء السياسيين من عهد إلى عهد وفقا لآليات ديمقراطية، ولا تكون أداة في يد المستبد يوظفها للاستمرار في استبداده، فهي بذلك تكون طريقا مناسبا ووسيلة مجدية لحسم الخلاف بين الفرقاء السياسيين، وهي هنا حصن أمان للمجتمع، ووجودها يحقق المقاصد الشرعية في إصلاح ذات البين ورأب الصدع بين المتخاصمين وضمانا للانتقال السلمي للسلطة، كما وأنها تكون منبرا حقيقيا للتعبير عن الإرادة الشعبية بصورة واضحة ومقننة، وبهذا ينتقل حكمها في هذه الحالة إلى الوجوب.

أما إذا كانت الأحزاب منة من الحاكم أو فقدت الفاعلية في نقل السلطة من عهد لعهد بطرق وآليات ديمقراطية، أو فقدت الأحزاب أثرها في نقل السلطة وحسم الخلاف بين الفرقاء، ثم تحولت إلى أداة في يد المستبد يبرر بها استبداده وعادت سيرتها الأولى صارفة لجهود الأمة عن أهدافها، وباتت وسيلة لتفريق الأمة؛ حينها يكون ضررها أعظم من نفعها، وينتقل بذلك حكمها من الوجوب إلى الكراهة بل وإلى التحريم.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم