كان موقف الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من هذه الأزمة يعتبر مثلًا فريدًا ورائعًا يجب أن يعرفه ويطلع عليه كل من ولي أمرًا من أمور هذه الأمة وغيرها من أمم العالم، فكان يرى أنه لا يمكن أن يعنيه شأن الأمة إذا لم يكن يشعر بشعور من هو أشدهم فقرًا وإملاقًا، ويدل ذلك على أنه كان جادًا كل الجد بالوفاء بعهده وبارًا بالقسم الذي قطعه على نفسه حين حلف ألا يذوق لبنًا ولا سمنًا ولا لحمًا حتى تنفرج هذه الأزمة.
وكان يتناول البسيط من الطعام حتى وإن أثر على نفسه وصحته، فقد روي أنه لما اشتد الجوع بالناس -وكان لا يوافقه الشعير والزيت ولا التمر، وإنما يوافقه السمن- حلف ألا يأتدم بالسمن حتى يفتح على المسلمين عامةُ هذا، فصار إذا أكل الشعير والتمر بغير أدم يقرقر بطنه في المجلس فيضع يده عليه؛ ويقول: «إن شئت قرقر وإن شئت لا تقرقر، مالك عندي أدم حتى يفتح الله على المسلمين».
وقد ضرب الفاروق بذلك مثلًا رائعًا في تحمل المسؤولية كاملة، فكان يجوع ليشبع الناس ويجهد ليريح الرعية، وقد ترك ذلك أثرًا على وجهه رضي الله عنه، فقد ذكر ابن الأثير أن عمر -رضي الله عنه- كان أبيض أمهق، تعلوه حمرة.. وإنما تغير لونه عام الرمادة لأنه أكثر أكل الزيت لأنه حرَّم على نفسه السمن واللبن حتى يخصب الناس.
ولو تتبعنا الروايات لنقلتنا إلى أبعد من ذلك ولوجدنا فيها الأغرب فهي تخبرنا، أن الفاروق لم يضع هذه القيود على نفسه وحدها بل سار ليقيد بها أفراد أسرته.
إن سياسة الفاروق في هذه الأزمة ونزوله في عيشه إلى مستوى حياة الفقراء الذين لم يجدوا ما يدفع عنهم الهلاك، حيث كان يتناول معهم طعامه بعيدًا عن بيته فلا يُؤثر نفسه بشيء لا يناله ذو الفاقة من رعيته، محققًا بذلك التصرف أمرين جليلين، الأول: الإحساس بمعاناة الناس وألمهم مما يدفعه إلى مضاعفة العمل والجهد لدفع الضر عنُهم. والثاني: رضى السواد الأعظم من الناس بكل ما يصيبهم من بلاء، لأن أكبر رجل مسؤول في الدولة يشاركهم فيه وبالتالي يكون ذلك مدعاة إلى اطمئنانهم إلى أمير المؤمنين الذي مسَّه ما مسَّهم.
.