ينتاب العالم الرعب والفزع الآن مما خلفه وباء كورونا من فزع في النفوس على المستويات الرسمية والشعبية، سواء في الدول المتقدمة أو الدول الأقل تقدما، حيث اجتاح الوباء المدن وخلف الوفيات والاصابات، ولذا لجأت البلدان التي انتشر فيها فيروس كورونا القاتل إلى فرض الحجر الصحي على الأماكن التي تفشى فيها الفيروس.
ورغم التقدم الطبي المذهل الذي نجح في إيقاف مد العديد من الأوبئة التي ضربت البشرية حاصدة الملايين من الأرواح، ما تزال بين الحين والآخر تظهر أجيال جديدة منها تشكل تحديا أمام العلم، وهذا ما يحصل اليوم مع هذا الفيروس في الصين.
حتى إن الطبيب ابن سينا قال قديما في متنه (دفع المَضَار الكلية عن الأبدان الإنسانية): «أمّا الوباء، فهو عفونة، وذلك إذا خالط أبخرة رديئة أو طيبة، لكنّها بقيت ولم تفارقها الرّيح حتّى تعذب». ومن هول الوباء صار النّاس يحسبون سنينهم على إثره.
ولذا ينطلق الإسلام في مسألة العلاج والتداوي والجوانب الصحية بصورة عامة من منطلق أن الحفاظ على النفس والبدن والعقل والفكر من الضروريات الأساسية التي جاءت الشريعة لأجل الحفاظ عليها، وحمايتها وتنميتها، ولذلك أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالتداوي، فقال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة 195] وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء 29]، وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة أمرت بالتداوي مثل حديث أسامة بن شريك قال: (أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت، ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال: تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم]( رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، والحاكم).
وإن كانت هذه الأوبئة بقدر الله سبحانه إلا أن الإسلام الحنيف وضع معايير ومبادئ للمسلم أن يلتزم بها حتى يعافيه الله منه وحتى لا ينتقل المرض لغيره من البشر.
فقد انتشرت أوبئة كثيرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مثل الطاعون والذي توفي فيه عدد من الصحابة الكرام كأبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، حيث أصيبوا في طاعون عمواس الذي ضرب الشام أثناء خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولقد أخذ الصحابة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه:[لا يوردن ممرض على مصحّ]، وهو ما جعل سيدنا عمر بن الخطاب يعود أدراجه من الشام حينما انتشر مرض الطاعون وقال نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، بعدما أكد له الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، فقال: إن عندي في هذا علمًا، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتُم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تَخْرُجُوا فرارًا منه».
الإسلام والطب الوقائي
إن العزل والحجر الصحي قاعدتان وضعهما الرسول صلى الله عليه وسلم لمنع انتشار الأوبئة. وقد كانت الأوبئة الفتاكة والأمراض المعدية في العالم الإسلامي أقل بكثير منها في أوروبا في الفترة التاريخية نفسها، بل إن موجات الطاعون التي كانت تقضي على ربع سكان أوروبا كانت تنكسر حدّتها عند حدود العالم الإسلامي. لأن الإسلام تفرد بوضع أسس الطب الوقائي التي أثبت العلم الحديث إعجازها، وزعم الغرب أنه مكتشفها، بينما هي متأصلة في جذور العقيدة الإسلامية.
ولقد أمر الإسلام المريض أن يسعى جاهدا للعلاج إن كان ذلك ممكنا، ويكون آثما إذا تركه، وعليه كذلك أن يبذل كل جهده لعدم انتشار مرضه وتعديته إلى غيره، من خلال عدم الاختلاط، وعدم الخروج إلاّ للضرورة، وذلك لأن إيذاءه للآخر محرم وإضراره بالآخر- بأي طريق كان- ممنوع شرعا، وأما غير المريض فيجب عليه أيضًا ألا يقترب من المريض المصاب بمرض معد، يقول- صلى الله عليه وسلم-: «اجعل بينك وبين المجذوم قدر رمح أو رمحين».
ويجب على المريض أن يكون راضيا بقضاء الله تعالى صابرا على مرضه محتسبا لله تعالى الأجر العظيم لكل مصاب بقدر مصيبته فلا تتملكه روح الغيرة والحقد والانتقام فيخرج وسط الناس متعمدا لينقل لهم الوباء – مثلما رأينا مؤخرا في الصين أن بعض المرضى خرجوا وسط الناس لينشر وباء كورونا.
فحينما حذر الإسلام من خروج حتى الصحيح من المكان الذي انتشر الوباء فيه خوفا من أن يكون حاملا للمرض وهو لا يعلم يقول د. محمد على البار: «إن الشخص السليم في منطقة الوباء قد يكون حاملًا للميكروب، وكثير من الأوبئة تصيب العديد من الناس، ولكن ليس كل من دخل جسمه الميكروب يصبح مريضًا، فكم من شخص يحمل جراثيم المرض دون أن يبدو عليه أثر من آثاره، فالحمى الشوكية، وحمى التيفود، والزحار، والباسيلي، والسل، بل وحتى الكوليرا والطاعون قد تصيب أشخاصًا عديدين دون أن يبدو على أي منهم علامات المرض، بل ويبدو الشخص وافر الصحة سليم الجسم، ومع ذلك فهو ينقل المرض إلى غيره من الأصحاء».
فقد كان المسلمون هم الوحيدون بين البشر الذين لا يفرون من مكان الوباء منفذين أمر نبيهم ولا يدركون لذلك حكمة وكانوا محط سخرية من غير المسلمين لذلك التصرف حتى اكتشف أن الأصحاء ذوا المناعة الأقوى؛ الذين لا تبدو عليهم أعراض المرض في مكان الوباء هم حاملون لميكروب المرض الوبائي، وأنهم يشكلون مصدر الخطر الحقيقي في نقل الوباء إلى أماكن أخرى إذا انتقلوا إليها، ولأنهم يتحركون ويختلطون بالأصحاء بلا حذر أو خوف فينقلون لهم جرثومة الوباء المدمرة فهم أخطر من المرضى الحقيقين لتجنب الناس لهم.
ومن ضمن الأمور التي تطرق إليها اليها الإسلام نظافة البيئة خلق بيئة صحية لا تنفذ إليها الأمراض بفضل النظافة، واهتمام الإسلام بالنظافة أمر لا يدانيه فيه أي دين سماوي، أو حتى مذهب أرضي قديم أو حديث.. وإذا كانت أول سورة نزلت في القرآن الكريم تحدثت عن العلم في قوله تعالى: (اقْرَأْ)، فإن ثاني سورة نزلت بعدها مباشرة أمرت بالنظافة في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ).
ومن التعاليم الإسلامية أيضا أنه نهى عن العطس في وجوه الناس، إذ إن ذلك ينتشر بينهم كالإنفلونزا والتهاب الحلق، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا عطس غطى وجهه بكفيه أو طرف ثوبه.
وهكذا شرع الإسلام الحنيف الطرق الصحيحة والعلمية التي استند إليها العلم الحديث في التعامل مع الأوبئة، ومع ذلك أمر الأمة بحسن اللجوء إلى الله سبحانه، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: [اللّهمّ إنّي أعوذ بك من البرص والجنون والجُذام ومن سيِّئ الأسقام].
.