عرض القرآن الكريم بعض المواقف التي حصل فيها الحزن عند الأنبياء عليهم السلام، وبيّن أسبابه والآثار المترتبة عليه. وتبين أن الحزن الذي حصل لبعض الأنبياء عليهم السلام، إمَّا أنه كان يمثل حالة عاطفية، باعتبار الأنبياء بشراً يعتريهم ما يعتري البشر في هذا الجانب، وإما أنه كان حزنًا على واقع الأمة، وموقف الأقوام من الدعوة إلى دين الله تعالى.
وهذا البحث الذى اشترك فيه الباحثون عودة عبد عبد الله، رسمية عبد القادر حنون، إبراهيم عبد الرحيم داود، كلية الدعوة الإسلامية، فلسطين، هو عبارة عن تتبعٍ لهذه المشاهد في القرآن الكريم والتي برز فيها انفعال الحزن عند الأنبياء عليهم السلام، وانعكاس هذا الانفعال عليهم، سواء على أقوالهم وأفعالهم، أو على سلوكهم وتصرفاتهم، أو حتى على قلوبهم أو ملامح وجوههم. ثم دراسة شخصية هذا النبي أو ذاك على ضوء هذا الانفعال، وتحليل موقفه تجاه هذا الانفعال، ومن ثمّ استخلاص العبر والدروس والقيم التربوية المستفادة.
أقسام الحزن
بالنظر إلى ما يخالط الحزن أو ينتج عنه يمكن تقسيمه إلى قسمين هما:
الأول: الحزن المباح، وهو الحزن الذي فطر الله تعالى الخلق عليه، وجعله من الغرائز التي لا تنفكّ عنهم. وقد ينتج عنه (دمع العين ورقّة القلب من غير سخط لأمر الله).
وقد أثبته الله تعالى لنبيّه محمد في غير ما موضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام/33]. ولنبيه يعقوب عليه السلام عند فَقدِ ابنه يوسف عليه السلام، قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف/84].
الثاني: الحزن المذموم : هو الحزن الذي لا صبر لدى صاحبه، ولا رضى بقضاء الله وقدره. ويخالطه في الغالب أو ينتج عنه ما حذّر منه الشارع الحكيم من لطم الخدود وشقّ الجيوب وغيرها من السلوكيات التي تنم عن عدم الرضا بقضاء الله وقدره.
ومن الحزن المذموم ما أدى إلى الهوان والعجز، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران/139].
القيم التربوية لانفعال الحزن عند الأنبياء عليهم السلام
ذكر القرآن الكريم حزن بعض الأنبياء عليهم السلام، وكشف عن مكنونات نفوسهم تجاه سبب هذا الحزن، فمنهم من كان حزنه عاطفياً كحزن يعقوب، ومنهم من كان حزنه على واقع أمته ومآل قومه في الدنيا والآخرة كحزن نبينا محمد، وكلا النوعين يفيد الأمة، ويجعل منهما وسيلة تأس واقتداء في التربية، ومن أهم القيم التي نستفيدها من الحزن عند الأنبياء عليهم السلام:
أولاً: أصل الحزن جائز، وذلك أنه انفعال طبيعي فطر الله الإنسان عليه، قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم/43] ، وأنبياء الله ورسله عليهم السلام- لكونهم بشراً- أصابهم الحزن بأنواعه وأشكاله، فهذا يعقوب قد حزن حزناً شديداً، حتى كان كلما ذكر يوسف بكى بكاءً شديداً لشدة وجده وحزنه عليه حتى كاد البكاء يودي به: {قالوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف/85] ونبينا محمد حزن حزناً شديداً، وكاد الحزن يقتله كمداً وأسى على قومه الكافرين: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف/6].
ثانياً: الحزن لا يحمل على الركون والقعود والضعف والدعة؛ وذلك أن الحزن انفعال عابر لظرف طارئ لا يجوز أن يلازم الإنسان وخاصة المسلم؛ لأن الحزن إن لازم الإنسان أياماً وأسابيع يصبح أسى (والأسى حالة مزاجية) تقعد الإنسان عن العمل، وتثبط همته، وتشغل فكره فترةً غير قصيرة من الزمن.
من هنا جاء النهي عن الحزن الذي يؤدي إلى القعود أو النكوص على الأعقاب، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. [آل عمران/139]
ثالثًا: من أهم وسائل دفع الحزن التي نتلمسها من انفعال الحزن عند الأنبياء، ما يأتي:
- التوجه إلى الله تعالى، والاتصال به، والاطمئنان إليه، والاستعانة به، والصبر على قضائه، واستشعار معيّة الله.
فهذا يعقوب يعطينا أروع الأمثلة في دفع أحزانه والتخفيف من آلامه، من خلال صلته بربه عز وجل، فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف/18]، وحين وصله نبأ فقد ولده الثاني كرّر نفس الوسيلة لنجاعتها وأهميتها، مضيفاً إليها بارقة أمل باللقاء ولم الشمل قائلاً: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف/83]، ثم بيّن أن الشكاية لله تعالى، واحتساب الأحزان والهموم عند خالقها يخفف المصاب، ويهوّن الأحزان: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف/86].
وحين انفعل النبي حزناً على عدم إيمان قومه، وجهه ربه سبحانه أن يجعل صبره في ذلك عليه، ولا يحزن، قائلاً: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل/127]، ولقد وجه الرسول رفيق دربه في الهجرة الى هذه الوسيلة الناجحة بقوله: {لا تحزن إنَّ اللهَ معَنَا}.[التوبة/40]
- المكاشفة والمصارحة، وهي من الوسائل العملية في التخفيف من الأحزان، حيث إنَّ المحزون إنْ نفّس عن أحزانه ببيان سبب حزنه، وكشف ما في نفسه والإفصاح عنه، فإنه يخفف عنه حزنه.
لقد استعمل الرسول هذا الأسلوب كثيراً، فما كان يُسأَلُ عن حزن حزنه أو دمعة نزلت منه إلا وصرح للسائل عن سببها.
فقد جاء في سبب نزول قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام/33] أن جبريل جاء إلى رسول الله وهو حزين فسأله عن سبب حزنه، فكشف له وصارحه بقوله: «كذبني قومي»، فخفف عنه جبريل بقوله: {إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ...}.
.