الدعاة قوم أصحاب رسالة يتفانون في بذل الغالي والرخيص كي تصل بالناس إلى طريق الهداية، وهم قوم منشغلون بدعوتهم كثيرًا مما يؤثر على نمط حياتهم وبيوتهم، حيث يعتاد أبناء الداعية وأسرته غيابه عنهم فهو عائل يسعى غالب يومه مثل باقي الآباء كي يكفي أسرته ماديًّا، وهو يزيد عن باقي الآباء بانشغاله باقي يومه وليلته بالقيام على شئون دعوته وحمل همها، وهذا يؤثر على دوره التربوي وربما يكون لذلك انعكاسات سلبية نفسيًا وسلوكيًا واجتماعيًا على الأبناء.
إن غياب التواجد وغياب دور الأب الداعية في تربية أبنائه تاركًا المهمة للأم وحدها وربما قليل من محاضن التربية التي توفرها الدعوة للمراحل العمرية المختلفة للأبناء قد أحدث تشوهًا في رؤية بعض الأجيال من أبناء الدعاة تجاه الدعوة وأهمية دور الداعية، فكانت لهم ردات فعل غير متوائمة مع الدعوة وسمو أهدافها.
والداعية الناجح هو الذي يعتمد الكيف التربوي ليعالج به الكم المتعذر تواجده نتيجة تعدد الانشغالات الدعوية الواجبة والتي يحتاجها المجتمع والدعوة بشكل فعلي، وقد روت الدكتورة سلوى المنوفي عن الداعية المهندس محمد الصروي أنه رغم أنه كان منشغلًا بالدعوة ليل نهار إلا أنه كان يتابع أولاده بشكل جيد، فيتفقد أحوال دراستهم ويتفقد وردهم القرآني ومقدار ما حفظوا، ويتناقش معهم في المشكلات التي يواجهونها خلال يومهم، ولم يتركهم يومًا يشعرون أن أباهم منشغل عنهم وغير محيط بما يحدث لهم، كان معهم سواء بجسده أو بأثره.
وكان الدكتور سناء أبو زيد وهو داعية تربوي معروف بأثره ودوره وكتاباته التربوية وبشهادات كل من عايشوه فقد كان نعم الأب ونعم الداعية ونعم الزوج، وقد حدد هدفه منذ بداية حياته فقد قام بترتيب حياته على الموازنة بين أدوار الداعية وأدور المربي وأدوار العائل، فقد أخذ على نفسه عهدًا ألا تأخذه المهنة ليلًا ونهارًا مثلما يفعل كل الأطباء ولكنه مارس منها بقدر ما يحتاج هو وما يحتاج المرضى، وكان بقية يومه موزعًا بين الدعوة التي لم تكن تفارق قلبه ولا عقله، وبين أسرته وكانت تربيته لأولاده دعوة، فقد كان حريصًا أن يصطحب أولاده إلى مدارسهم بنفسه خلال الذهاب والعودة ولم يوكل لأحد القيام بذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وخلال الطريق يكون الحديث معهم إنسانيًا تفقديًا ودعويًا من خلال التعليق على المواقف الحياتية بما يوافقها من القرآن والسنة.
وكان لديه موعد يومي مع عائلته عقب صلاة الفجر وقد كتب أحد أبنائه عن هذا اللقاء الذي كان هو وأخوته يستثقلونه حينها حيث كانوا يشعرون بأنهم محرومون من الذهاب إلى الفراش بعد الفجر بسبب هذا اللقاء الأبوي الذي كما يقول الابن قد أثر في حياتهم أيما تأثير بحيث ما زالوا يعيشون على زاد ذلك اللقاء بعد أن غيب الموت والدهم الفاضل.
إن من يتابع كتابات أبناء وبنات الدكتور التربوية يجد أن طريقة الأب قد تركت آثارًا عميقة ليست على مستوى سلوك وأخلاق الأبناء وإنما امتدت لتشمل الفهم والرؤية، إذ يملكون رؤًى تربوية لا يمتلكها المتخصصون في المجال إلا بعد أن يعتكفون على المجال التربوي ويقرأون ويدرسون فيه لسنوات.
يُحكى أن الدكتور كان بصحبة ابنتيه الصغيرتين، إذ كان كعادته يهتم بتوصيلهما إلى المدرسة وقبل أن ينزل أول درجه في السلم كان يقف لبرهة، فسألته إحداهن.. لماذا تقف يا أبى وتسكت قليلًا؟ فأجابها: «إني أستحضر النية»، وطفق يشرح لها مسألة النية وكيف أننا يمكن أن نأخذ ثواب على عمل حياتي عادي بالنية لله، فالنية تجعل العمل العادي كالعبادة في الأجر والثواب.
هكذا الداعية الذي يربي المجتمعات لا يترك بيته مكشوفًا خاليًا، فقد كان الإمام البنا رحمه الله مع وقته المزدحم يجد وقتًا يقضيه مع أبنائه، ومن قبل كل هؤلاء كان الرسول القدوة مع أهله يربي ويتفقد دينهم وأخلاقياتهم وسلوكياتهم وحتى حالتهم النفسية، وكان الصحابة يصطحبون أولادهم إلى مجلس رسول الله ﷺ الذي به كبار القوم كي يتعلموا ويأخذوا الإسلام عن النبي ﷺ كما يأخذه عنه آباؤهم.
.