(2) شهداء الإخوان في فلسطين.. تضحية وتربية

عجيب أمر القلب! فهو لا يثبت على حال أبدًا وما سمي القلب قلبًا إلا لكثرة تقلبه.. فكل شيء يؤثر فيه! وكل أمر يغير منه بقدر.. ولا بد من تعاهده والمحافظة على استقامته وإصلاح هفواته ولهواته.

وللناس في علاج أمراضها أحوالًا ومسالك، ولا يسلم معالج لقلبه من فتور أو عوائق؛ لذا نيطت سلامة القلب باتباع الحق ولزوم الجماعة، فمن كان كذلك فقد لزم الجماعة.

وفي قصص الشهداء كثير من تزكية النفوس وتطهير القلوب، ويرى من خلالها استعراض لبطولاتهم العالية، ونفوسهم المؤمنة المجاهدة، ونرى الهول الذي تحملوه تحت بارقة وفتن السيوف، والنصر الذي أحرزوه، ونرى كيف كانت الدنيا وزينتها أمام هؤلاء الصادقين تتضاءل، فسطروا بدمائهم الزكية تاريخا لا ينسى مهما طال الزمان.

فالحي حي في حياته وبعد مماته، وميت القلب ميت في حياته وبعد موته، وحياة قلب الشهيد توحي بها.

ولنا وقفه مع قصص بعض الشهداء الشباب في القرن العشرين وذويهم الذين ضربوا أروع الأمثال فصاروا قدوة لكل شاب.

 

الشهيدان محمد حسن العناني وأخوه عبدالوكيل

ولدا في «كفر وهب» مركز قويسنا، وحفظا القرآن الكريم وهما صغيران؛ حيث حرص والدهما على تربيتهما وتنشئتهما تنشئة إسلامية.

وفي بداية الأربعينيات انضما إلى دعوة الإخوان المسلمين، وما إن دعا الإمام حسن البنا الإخوان بالمسارعة للجهاد في سبيل الله في فلسطين عام 1948م حتى اجتمعت عائلة الشهيدين في شبه مؤتمر لتدرس مسألة الجهاد، وكان رئيسها –أبوهما- قد قرر أن الجهاد فرض مقدس، وأنه يرى أن يتقدم أولاده الثلاثة للتطوع (محمد وعلي وعبد الوكيل)، رغم أنهم كانوا قد عُوفوا جميعًا من الخدمة العسكرية، ولكن محمد حسن كان يرى أن يذهب وحده للجهاد ويترك أخويه ليعاونا والدَهما على شئون الحياة، فكان أبوه يقول: «إن الرزق بيد الله، ولا يتوقف على والد ولا ولد».

وبينما هم جالسون يومًا على مائدة الطعام إذا بأحمد الطفل -شقيق محمد- يقول: «رأيتُ جدِّي في المنام يقول لي: قل لأبيك اترك الأولاد ليذهبوا للجهاد، عند ذلك ضحك الرجل وقال لأولاده، وها هو الإذن قد جاءكم فتطوَّعوا.. وفعلًا تقدموا للكشف الطبي، ولكن لم ينجح سوى محمد وعبد الوكيل».

وبعد نجاح محمد وعبدالوكيل في الكشف الطبي قال محمد: «إنني وأخي عبد الوكيل قد نجحنا في الكشف الطبي للمتطوعين.. أما أخي علي فلم ينجح، وإن والدنا قد وافق على سفرنا فلسطين ولولا ظروفه الأخرى لتقدم هو أيضًا للتطوع على أن والدتي قالت مستفسرةً ضاحكةً: ألا يأخذون السيدات أيضًا.. يا الله! ماذا يستطيع القلم أن يكتب في مثل هذه الحال؟! وبماذا كنت أجيب أخي محمدًا إلا بأن أُطأطئ رأسي أمامه تقديرًا وإعجابًا به وبأسرته الكريمة».

وسافر الشهيدان إلى الميدان في صبيحة يوم الأحد 16 جمادى الآخر سنة 1267هـ الموافق 25 إبريل سنة 1948م، وكان أبوهما في توديعهما، فكان مما قاله لهما: «اعلما أنكما ذاهبان للموت في سبيل الله، فكونا عند الله هديةً مقبولةً».

وجاء يوم الثلاثاء الموافق 2 رجب سنة 1367هـ = 11 مايو سنة 1948م فكانت معركة كفار ديروم الثانية، وكان محمد في مقدمة الإخوان المجاهدين أمام الأسلاك الشائكة، قرى مستعمرة العدو؛ حيث كان (حكمدار) لفرقة النسف والتدمير، وقبل دخوله هذه المعركة فرَّق ملابسه الملكية وأمتعته الخاصة على الفقراء من إخوانه إحساسًا منه بقرب استشهاده، وبعد ذلك أصيب بإصابة جعلته ينادي أخاه (عبد الوكيل) فأسرع إليه أخوه، وما كاد يقترب منه حتى أصيب هو الآخر فوقعا شهيدين، وفاضت روحاهما معًا، وكأنهما كانا مع الموت على ميعاد.

وصل خبر استشهادهما لأبويهما؛ فكان مما قاله والد الشهيدين في خطبةً مؤثرةً بليغةً أمام (الميكرفون) في الحفل الذي أقيم لتأبينهما في (كفر وهب)، وحضره مندوب من المركز العام: «نبَتا في بيت واحد وتربَّيا في بيت واحد، وتطوَّعا في يوم واحد، وخرجا للجهاد في يوم واحد، واستُشهدا في يوم واحد وفي مكان واحد»، وهنا خنقته العبرات ثم وجه كلمته إلى المستمعين قائلًا: «لا عزاء في الشهداء، فمن أراد منكم أن يتقدم إليَّ بشيءٍ فليتقدم بالتهنئة على ما أعطاني الله من خير في استشهاد ولديَّ وإكرامهما».

ولما ذهب الإمام الشهيد حسن البنا لمواساة الأب الصالح، ردَّ عليه قائلًا: «لو أردت ولدي الثالث لأرسلته فورًا إلى ميدان الجهاد».

ولم يقل موقف الأم عن الأب فحينما ذاع نبأ استشهاد ولديها وجاء إليها النسوة يصرخن ويُعلِنَّ حزنَهن بأصوات منكرةً، قامت فيهم واعظةً ومرشدةً لتبين لهنَّ فضل الشهادة ومنزلة من اختصه الله بهذا الفضل العظيم.

 

عبد السميع على قنديل عريس في الجنة

وهذا عبدالسميع علي قنديل والذي كان في سن العشرين، ويعمل موظَّفًا في المتحف الحربي، وكان من الإخوان العاملين في شعبة الإخوان بأولاد علام بالجيزة، تنافس هو وأخوه عبدالمنعم في التطوع والسفر إلى فلسطين، واحتكما إلى أبيهما الرجل الصالح علي قنديل، الذي دمعت عيناه من التأثر، واقترح عليهما عمل قرعة، فكانت من نصيب عبد السميع، وكان من نصيبه الشهادة.

 

حلمي جبريل المربي الشهيد

وهذا حلمي جبريل من قرية جنزور بمحافظة المنوفية، وكان طالبًا بكلية أصول الدين، وكان معروفًا بالعمل الكثير والصمت الطويل، متفانيًا في الحركة لدعوته، فعهد إليه بتربية مجموعات من إخوانه وزملائه فكان مربيًّا نموذجيًّا يربي بالقدوة والعمل والالتزام قبل القول والبيان، وما إن ارتفع منادي الجهاد حتى ترجم تربيته إلى عمل فكان في مقدمة الصفوف كما كان في مقدمة الشهداء الذين صدقوا الله في القول والعمل.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم