وليس من التربية في شيء الظن بأنك تملك آلة تتعامل مع مادة خام هي فرد من المجتمع، فتخرجه لنا بعد إجراء مسلسل العمليات التربوية عليه أخًا من الإخوان هذا المنظور الآلي الهندسي يصلح لآلات تنتج مثلًا المسامير القلاووظ بمقاسات محددة، أو آلات تنتج صواميل بمقاسات أخرى، مثل هذه الآلات إذا ألقمتها حديدًا من ناحية أخرجت لك المسمار أو الصامولة النمطية المطابقة للمواصفات من الناحية الأخرى، وكلما زودتها بالحديد الخام كلما أنتجت لك ذات المنتج، أما في عملية الإنتاج التربوي عندنا فالأمر مختلف، فنحن لا نملك هذه الآلة الساحرة، هذا النموذج الصناعي وهذا التصور الهندسي ليس له مجال في العملية التربوية التي تتعامل مع البشر وما فيهم من تفاوت. النموذج الصناعي في التربية مرفوض حيث لا يوجد مثل هذه الآلة العجيبة.
العملية التربوية عندنا في الحقيقة هي أقرب للنموذج الزراعي منها للنموذج الصناعي، والمربي عندنا يسلك أساليب الفلاح ويسير سيرته أكثر مما ينهج نهج العامل الفني أو المهندس أو الصانع، فالعملية التربوية أشبه بالزراعة منها بالصناعة.
الفلاح حين يريد الزراعة لا يرضى بأية أرض أو حقل، لكنه يختار من الحقول المتاحة أو الأراضي الموجودة أرضًا ذات خصوبة، والمربي أيضًا يختار الحقل الذي يعمل فيه حقلًا خصبًا مناسبًا، والفلاح حين يبذر البذور ينتقي البذور الجيدة، ينتقي البذرة القوية الممتلئة، ويستبعد البذور المكسورة وما شابهها، فهذه الأخيرة قد تصلح لطعامه أو طعام ماشيته، لكنها لا تصلح للتربية والإنبات، والبذور الصالحة هي التي تسمَّى البذور المنتقاة، والمربي كذلك، بعد أن يدقق في اختيار الحقل يتقن انتقاء بذوره التي سيبذل وقته وجهده في تعهدها بالتربية.
والفلاح لا يرمي بالبذرة في الأرض ثم ينساها، لكنه يتعهدها بالري ويتعهدها بالسماد الذي هو الغذاء، والمربي أيضًا لا بد له من أن يتعهد الأفراد بالري الذي هو الروحانيات، والغذاء الذي هو الفهم والعلم والإرشاد، وكما أن الفلاح يوقن تمام اليقين أنه ليس كل بذرة جيدة زرعت فسقيت الماء وزودت بالسماد سوف تنبت بالضرورة، وكما أنه يُرجِع الإذن بالإنبات إلى خالق الأرض والسماوات، فتراه عندما يرجع إلى بيته يدعو الله تعالى أن يشمل الزرع بعنايته وأن يأذن بنباته، فكذلك المربي.
المربي عندنا لا يكون مربيًّا حتى يخلو إلى ربه سبحانه وتعالى ثم يدعو لبذوره بظاهر الغيب، ثم ليعلم أن التربية مثل الزراعة، ستنبت فيها بعض البذور ولن تنبت أخرى، ومن لم يفعل ذلك فقد يكون ممن يجمعون لحزب أو فكرة أو مذهب، لكنه أبدًا لن يكون مربيًا يرتكز على الربانية.
النموذج الزراعي هو النموذج الأقرب لعملية التربية عندنا حيث يسلك المربى نفس أساليب الفلاح في عمله في حقله، (لاحظ العمل الشاق تحت لهيب الشمس الحارقة) نموذج مراحل الزراعة يتوافق مع مراحل التربية وليست التربية تصنيعًا حيث مراحل العمل في النموذج الزراعي:
1- اختيار حقل العمل.
2- انتقاء البذور الصالحة وتنحية البذور غير الصالحة.
3- بذر البذور.
4- ري الحقل.
5- نزع الحشائش الضارة.
6- جني الثمار.
وعندما تنبت النباتات التي أذن الله سبحانه وتعالى لها بالإنبات، فإن الفلاح يحوطها من كل جوانبها، وتراه يعزل عنها كل الحشائش الضارة التي تظهر من حولها لتشاركها في غذائها أو لتحرمها منه، وكذلك المربي يحوط من يرعاهم، وينقي الوسط من حولهم في أيامهم الأولى، حتى تصح البدايات ويصل الري والزاد، ومع كل ذلك يجد الفلاح نباتات قوية وأخرى ضعيفة، وكذلك المربي عندنا عليه أن يهيئ نفسه لقبول هذه الحقيقة
من الجائز جدًا اختلاف النتائج في التربية رغم التسوية في الرعاية.
وكما في النموذج الزراعي عندما يستخرج الفلاح من الثمار الجيدة بذورًا ليعيد دورة الإنبات مرة أخرى، فإنه يجد دائمًا أن هناك من البذور بذورًا تنتج وأخرى لا تنتج، وهذا بالضبط ما يراه المربي.
أليست التربية قريبة الشبه جدًّا من الزراعة؟
.