بنى الإسلام شخصية المسلم على الإيجابية والمبادرة في تقديم العون والغوث للآخـرين عنـدما يمرون بأحوال طارئة أو ظروف كارثية، فإذا كان المنكوب طفلا يتيما أصبح هـذا الغـوث واجبـا اجتماعيا، وعبادة يتقرب بواسطتها المسلم إلى الله تعالى.
وفى هذه الدراسة التي أعدّها الدكتور محمد بني دومي، يرصد كيف أن القرآن يغرس في نفس المـسلم حـب مساعدة الأيتام، ولم تقتصر الرعاية القرآنية للأيتام على الجانب المادي من طعام وشـراب وملـبس ومسكن فقط، بل تعدت ذلك، فقدمت له الدعم المعنوي والنفسي، مما أثمر نتائج إيجابية على الحالة النفسية والاجتماعية لهؤلاء الأيتام.
عناية الإسلام باليتيم
بدأت العناية القرآنية بالأيتام مبكرا فنجد في القرآن المكي قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّه} (الأنعام: ١٥٢)، وجاء في سورة الإسراء قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الإسراء: ٣٤)، كما نهاهم عن زجر اليتيم ودفعه بعنف في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: ٩).
واستمرت العناية الربانية لليتيم في القرآن المدني أيضا، من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة: ٢٢٠)، تتحدث الآية الكريمة عن إصلاح شؤون اليتيم الاجتماعية والتربوية والمادية، وتجمع النظر في مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرها لكي ينشأ على علم وأدب وفضل، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله من جهة التجارة كي لا تأكله النفقة.
حقوق اليتيم في القرآن الكريم
نظم القرآن الكريم شؤون اليتيم، وأوجب له حقوقا على المجتمع الإسلامي عموما، وعلى أقاربه ومن يكفلونه على وجه الخصوص، على النحو الآتي:
أولا: حق النفقة على اليتيم: جعل القرآن الكريم نفقة اليتيم حقا على الميسورين من المسلمين، ولا يكتمل إيمانهم إلا بها، فهي من تمام البر قال الله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} (البقرة: ١٧٧)، وقال الله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (البلد: ١١-١٥).
ثانيا: الحفاظ على ماله، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: ٦).
ثالثا: حق الإيواء، يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} (الضحى: ٧)، والإيواء هو إغاثـة لليتيم في المأوى والإسكان وتوفير الأمن الاجتماعي له، وبـالإيواء يتحقـق لليتـيم الـدفء الاجتماعي.
رابعا: حق حفظ الميراث حتى بلوغ سن الرشد، يقول الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (الكهف: ٨٢)، فالأمة مطالبة بحفظ ميراث ومال اليتيم حتى سن البلوغ، ولو ضاع حق يتيم لأثم أهل الحي كلهم.
خامسا: حق الإحسان، وهو تقديم كل ما هو خير لليتيم، ويتناول الجوانب المادية والمعنوية، يقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} (البقرة: ٨٣)، والإحسان لليتيم يكون بكل تصرف حسن.
الآثار الاجتماعية لإغاثة اليتيم في القرآن الكريم
إن الإحسان إلى اليتيم وتطيب خاطره ولو بالكلمة الطيبة، أو بلمسة يد حانية لطيفة يترك أثرا إيجابيا ينطبع في نفس ذلك الطفل اليتيم الضعيف؛ لأن اليتيم في صغره يمر في حالـة ذل وانكسار بسبب فقدان والده ومعيله.
- أثر التنشئة الاجتماعية في شخصية اليتيم
أثنى القرآن الكريم على المسلمين بسبب مبادرتهم في إغاثة أصحاب الحاجات وتقديم العون لهم، قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنـسان: 8).
وهذه النظرة تريح الطرف المقابل، فلا يشعر الأيتام والمساكين بنظرة استعلاء أو منـة ممن يقدم لهم العون والغوث، وفي ذلك ملحظ في غاية الأهمية وهو التنشئة الاجتماعية العزيزة لليتيم، فالآية الكريمة لا تريد لليتيم أن ينشأ نشأة اجتماعية يكون فيها مكسور الإرادة ذليل النفس، بسبب حاجته للعون والغوث من الآخرين، من هنا ربى القرآن الكريم من يقدم العون لليتيم ولغيرة مـن أصـحاب الحاجة ألا يمتن على هذا اليتيم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان: ٩) .
والقرآن الكريم لما طلب من المسلمين الإحسان إلى اليتيم لم تغب عنه هذه النظـرة الاجتماعيـة لليتيم، فالإحسان إلى اليتيم يشمل رعايته الاجتماعية بما يشعره بأن كل أبناء مجتمعه يدعمونه ويناصرونه.
- دمج اليتيم في المجتمع الإسلامي
بعد تحقيق الرعاية الاجتماعية لليتيم طلبت آيات القرآن دمج الأيتام في ثنايا المجتمع، جاء ذلك على صيغة تساؤل الصحابة عن كيفية التعامل مع اليتامى وتنشئتهم الاجتماعية وإدارة أموالهم، بعد التحذير والوعيد من الاعتداء على أموالهم، في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (الإسراء: ٣٤).
فمصلحة اليتيم تقتضي أن ينخرط في المجتمع وألا يفصل عنه كجسم غريب، وكأن منطوق الآية الكريمة يقول: خالطوهم وادمجوهم في مجتمعكم ليتعلموا القيم الاجتماعية السامية، وينشئوا نشأة متوازنة، وهذا من تمام صلاحهم وإصلاحهم.
- تحذير آيات القرآن من الإيذاء النفسي لليتيم
حذرت آيات القرآن من إيذاء الأيتام بأي شكل من أشكال الإيذاء، ولو بزجرهم بكلمـة قاسية أو بنظرة ازدراء من شأنها إلحاق الضرر النفسي بهم، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ} (الضحى: ٩)؛ لأن ذلك من شأنه أن يولد السواد والحقد في نفسية ذلك الطفل المقهور، فيترتب على ذلك عداوة وبغض للمجتمـع ، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير بيـت فـي المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه».
.