Business

حياة القلوب

يقول ابن القيم: «كلما قوي الإيمان وازداد نوره في القلب؛ أحس المرء بانشراح في صدره، وتضاءل شعوره بالضيق، فإذا ما استمر النور في دخول القلب، ازدادت مساحة الإيمان فيه، وشيئا فشيئا تصبح مساحة الإيمان في القلب أكثر وأكثر اتِّساعًا من غيرها».

فالقلب في الغالب يكون متعلقا بأشياء تحول بينه وبين العبودية؛ من المال، أو المنصب، أو العقار، هذه الأشياء تكون بمثابة السجن الذي يعيش فيه العبد، والوثاق الذي يقيده، فإذا ما نما الإيمان في قلبه ضعفت تلك العلائق والأغلال؛ حتى تأتي اللحظة السعيدة عندما تنقطع وتنفصل عن القلب، فيصير حرا منها، متعلقا بربه، لذلك تجده يخشع ويهبط ويضطرب عند ذكر الله ودعائه والتضرع إليه.

يقول أحد السلف الصالح: «كنت ساجدًا في صلاة فجر يوم من الأيام، وقمت من السجود، لكني شعرت بأن قلبي لم يقم من سجدته»؛ أي: حدث له خشوع.

وسأل أحد العلماء تلميذه: منذ متى صحبتني؟

فقال التلميذ: منذ ثلاث وثلاثين سنة.

فقال العالم: فماذا تعلمت مني في هذه المدة؟

فقال التلميذ: ثماني مسائل.

قال العالم: إنا لله وإنا إليه راجعون.

ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل فقط!

قال التلميذ: لم أتعلم غيرها، ولا أحب أن أكذب عليك.

فقال العالم: هات ما عندك لأسمع.

قال التلميذ: الأولى: أني نظرت إلى الخلق فرأيت كل واحد يتخذ صاحبًا، فإذا ذهب إلى قبره فارقه صاحبه، فصاحبت الحسنات، فإذا دخلت القبر دخلت معي.

الثانية: أني نظرت في قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41] فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت طاعة الله تعالى في قلبي.

الثالثة: أني نظرت إلى الخلق فرأيت أن كل من معه شيء له قيمة؛ حفظه حتى لا يضيع، ثم نظرت إلى قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] فكلما وقع في يدي شيء له قيمة وجهته لله تعالى ليحفظه عنده.

الرابعة: أني نظرت إلى الخلق فرأيت كلا يتباهى بماله أو حسبه أو نسبه، ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريمًا.

الخامسة: أني نظرت إلى الخلق وهم يتحاسدون على نعيم الدنيا فنظرت إلى قول الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] فعلمت أن القسمة من عند الله، فتركت الحسد عني.

السادسة: أني نظرت إلى الخلق يعادي بعضهم بعضًا، ويبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضًا، ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]. فتركت عداوة الخلق، وتفرغت لعداوة الشيطان وحده.

السابعة: إني نظرت إلى الخلق فرأيت كل واحد منهم يكابد نفسه ويذلها في طلب الرزق حتى أنه قد يدخل فيما لا يحل له، فنظرت إلى قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. فعلمت أني واحد من هذه الدواب، فاشتغلت بما لله علي، وتركت ما لي عنده.

الثامنة: أني نظرت إلى الخلق فرأيت كل مخلوق منهم متوكلًا على مخلوق مثله؛ هذا على ماله، وهذا على ضيعته، وهذا على مركزه، ونظرت إلى قول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] فتركت التوكل على المخلوق، واجتهدت في التوكل على الله الخالق.

فقال العالم: بارك الله فيك، نعم التلميذ الصالح أنت.

وكما ورد في بعض الآثار: «ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتَك كل شيء».

ولابد للإنسان أن يطلب حياة قلبه، فمن حيا قلبه كان غضبه لله ولرسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل.

قال القاسم بن عبد الرحمن رحمه الله: «من أعطي قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً وجسداً على البلاء صابراً، فقد أوتي في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقي من عذاب النار».

ومن أسباب حياة القلوب: [أن تدعو الله تعالى بصلاح قلبك- تدبر كلام الله تعالى ولو صفحة واحدة يومياً- جالس الصالحين ولازم مجالسهم- تذكر الموت وغصصه وسكراته- تذكر الجنة والنار وما فيهما- تجنب الذنوب صغيرها وكبيرها: كترك الصلاة، وسماع الغناء، ومتابعة الأفلام المحرمة- تدرج في نوافل العبادات من صيام وصلاة وقراءة قرآن وتعاهد نفسك بذلك- تجنب الإغراق في المباحات من ضحك وأكل وشرب ولعب ونحوها- أكثر من ذكر الله تعالى].

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم