قليلة هي اللحظات التاريخية المحورية التي تؤذن بتحول في مسار الجماعة البشرية، ورغم كثرة الأحداث الدامية لأطراف الأمة الإسلامية إلا أن أحداث (غزة الأقصى) تمس قلب الأمة وتزلزلها؛ إنها آيات ودروس، تحيي القلوب الميتة وتهديل السبيل، وتنحي الأقوال لترى الأفعال، وتكتب بدماء الشهداء والجرحى بدلًا من الدموع على الخدود، وتستبدل مشهد الأشلاء البشرية المتناثرة بالأجساد الساجدة والراكعة؛ إنها لحظة ترتفع فيها الفتوى الشرعية بالجهاد لدفع الصائل بوصفه فرض عين على كل مسلم بلا شروط ولا إذن والد ولا غريم، لتضع أقدام من كان له قلب من أمة الإسلام على طريق النصر أو الشهادة.
وفى هذه الدراسة، يطرح الدكتور طارق بن إبراهيم، هذا السؤال الهام: هل تربى المسلمون في الأسر المسلمة ليكونوا على استعداد لتلبية نداء الحق وإتمام بيعة الله: (إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ...) [التوبة: 111]؟ وقبل أن تأتي الإجابة بالنفي تأتي أحداث غزة لتقول: لقد تكفل الله بتربية من يتفضل عليه ويختاره ليكون من المجاهدين (والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
ففي غزة ستجد الأسرة القدوة التي تحولت من حياة المترفين الخاملين إلى حياة المرابطين المجاهدين؛ ليجعلها الله آية وحجة على المنافقين الذين: (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) [آل عمران: 167]، (وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 42]، فإن الإعلان عن بطولات هذه الأسرة هو إعلان عن صمود الحق وهزيمة الباطل؛ وهذه الأسر هي القدوة القليلة حتى داخل غزة ذاتها، ولكن الفرد منها بألف بل بأمة ممن سواهم من المسلمين؛ لأنهم بجهادهم وثباتهم ستحيا – بإذن الله – قلوب أمة الإسلام في كل مكان.
مناهج التربية المستوردة لا تصلح لأبناء المسلمين
على القائمين بالعملية التربوية إدراك أن منهاج التربية المستوردة والمستخدمة حاليًا لا يصلح لتربية أجيال المسلمين، ولا بد من الإسراع في تغييره، واستغلال أحداث تلك اللحظة التاريخية في غزة والعالم الإسلامي لإعداد جيل المجاهدين المرابطين من آباء المستقبل وأمهاته، وأقل ما يمكن وصف المنهج التربوي المنشود أنه منهج لتربية الأبناء لمواجهة ظروف مماثلة لما يلقاه المسلمون في غزة، وأن يكون هدف المنهج هو إنتاج شخصية إسلامية قوية تتطلع لقيادة العالم ونشر الرحمة والعدالة، ومواجهة قوى الطغيان بالقوة المناسبة؛ لمنعها من استعباد الناس.
ولتبسيط فكرة المنهج التربوي المنشود نضع كلمة (التوحيد) لتكون القاعدة الصلبة التي يبنى عليها المنهج، كما تكون هي أيضًا قمة الهرم في هذا المنهج، وأما ما يملأ ما بين القاعدة والقمة فهو (فطرة الله) التي فطر الناس عليها، وأما السياج الذي يحمي البناء فهو (الكتاب والسنة).
أطفال غزة
ولعلنا نوضح بعض معالم المنهج التربوي المنشود بأمثلة نحاول اقتباسها من داخل نموذج (غزة الأقصى)، ونبدأ بأطفال غزة الذين أثبتوا درسًا أمام حكام المسلمين وساداتهم وكل قادة الجيوش الإسلامية وكل رجالها؛ إن الحجر بتلك الأيادي الطاهرة قوية الإرادة؛ يتحول إلى حجارة من سجيل بإذن الله، تلقي الرعب في قلوب العدو الصائل، كما أن هؤلاء الأطفال لم يعترفوا بأن سن الطفولة تصل حتى الثامنة عشرة، بل إن أطفال السابعة استعدوا لمقامات الشهادة والبطولة وأعادوا أمجال أسلافهم من أطفال المهاجرين والأنصار.
لم تعد مظاهر الموت والدمار مرعبة لهم، بل إنها تثير فيهم إحساس المسؤولية عن أهلهم وأرضهم وأموالهم. أين أطفالنا من هؤلاء الأطفال؟ وما مقدار خيانة الأمانة الذي نتحمله إذا لم نعد أطفالنا لمواجهة مثل هذا المصير الذي نال من أطفال المسلمين في غزة والعراق والشيشان والبوسنة وما لا ينتهي من الأمثلة. إن علينا أن نفكر بأمانة وصدق في تغيير مناهجنا التربوية، وابتكار المنهج والأساليب المناسبة لكل واقع اجتماعي للمسلمين في كل مكان، وأن نبدأ بالقرآن والسنة ونقل تجارب صادقة من داخل ثغور المرابطين لترشدنا إلى أفضل طرق العمل بالكتاب والسنة، والاستعداد الدائم للجهاد بالنفس، مع مداومة المشاركة الوجدانية والعملية لكل ثغور الإسلام المرابطة بأن لا نشعر بالراحة ما داموا هم في تعب ونصب.
الوالدين فى غزة
وإذا انتقلنا إلى الوالدين في أسرة (غزة الأقصى) فهما إما شهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وإما شهداء على الناس في الأرض، ولعلك تعجب إذا علمت أن مقدار المودة والرحمة بين الزوجين في تلك الأسرة لا يمكن أن يشعر به أي زوجين غيرهما؛ لأن قلبيهما متعلقان بالله، وقد نفضت عنهما لعاعة الدنيا، وكلاهما يرجو الشهادة في سبيل الله اليوم قبل الغد، ويرجو أن يجمعهما الله في الجنة معًا حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر، وحيث يجدون الأحبة محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه، وفوق كل ذلك يتمنون أن يسعدوا برؤيه الله سبحانه.
وفى الختام
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ومن مات غاشًا لرعيته لن يشم رائحة الجنة، وإن من أعظم الغش للرعية في مجال التربية الأسرية أن يمنع أحد الرعاة عن رعيته الخير، أو يكون سببًا في صدهم عن أبواب الخير، وقد فتح الله للمسلمين في هذه اللحظة التاريخية أعظم أبواب الخير على الإطلاق بعد الإيمان والصلاة ألا وهو الجهاد؛ لدفع العدو الصائل عن أرض المسلمين ومقدساتهم، فلا تحرم نفسك ولا أسرتك، ولا تحرمي نفسك ولا أسرتك من اللحاق بزمرة المرابطين والمجاهدين؛ حتى لا يقال لكم: (إنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ) [التوبة: 83].
.