لا زالت الإنسانية في حاجة لأنموذج أسري واقعي تسترشد به في زمن العولمة والحداثة، وفي وقت تناسلت فيه الأفكار والرؤى التي تنظر للأسرة، وإذ لا خلاف في أن كل تلك النظريات الحديثة والمحدثة لم تستطع حل مشاكل الأسرة وإشكالاتها المتجددة؛ من ارتفاع نسب الطلاق، وإهمال الأطفال، وفشو الزنا، وظهور ما يسمى بالأم العازبة.
وفى هذه الدراسة، يرى الباحث الدكتور حميد مسرار، أن خير أنموذج أسري على الأمة أن ترجع إليه، بيت رسول الله صلى عليه وسلم، فهو بيت التوحيد والدعوة إلى الله وهو بيت الأخلاق والقيم والعمران، بل هو بيت صناعة الإنسان بامتياز ونظرًا لأن صناعة الإنسان تستلزم الاعتراف به وبكينونته وذاته المادية والروحية.
بيت النبي معالم ودلالات
إن المتأمل في بيت النبي ليجده زاخرا بألوان الدلالات والعبر التي على الأمة أن تعيها إن هي أرادت بناء جيل متفرد يحمل هم الدعوة ويصبو لتحقيق الشريعة.
تزوجها النبي وهي التي رأت أخلاق الرجولة والوفاء والأمانة شاخصة في محمد بن عبد الله، فبادرت لخطبته، فكان الزواج الميمون التي أثمر أعظم بيت في التاريخ، هي الطاهرة في الجاهلية والإسلام وهي التي شهد لها التاريخ بوقوفها إلى جنب رسول الله في أصعب الظروف وأشدها قساوة، لقد أعطت أمنًا خديجة أنموذجا للزوجة المساندة لزوجها في وقت العسر والشدة كما أعطى الزوج النبي أنموذجا للزوج المحب الوفي لها في الحياة وبعد الممات.
توفيت خديجة، فتزوج رسول الله ﷺ تباعًا بعشرة أزواج هن سودة بنت زمعة وعائشة وحفصة وأم سلمة ورملة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وميمونة بنت الحارث وجويرية وصفية، أزواج مختلفات في العمر والجمال وفي البكارة والثيوبة وفي الصفات والأنساب، فكانت حياته مليئة بالبر والرحمة، والمحبة والمودة، والفرح والحزن، والغيرة والخصام، والمعاناة وضيق الحال إنها حياة حافلة بالأحداث الإنسانية التي تعبر عن تكريم الإنسان والاعتراف بفطرته، بل تعبر عن أهمية الأسرة في بناء شخصية الفرد المسلم.
ولد للنبي أبناء: ذكورًا وإناثًا، من خديجة ومارية، ولد له من الذكور القاسم وعبد الله وإبراهيم ومن الإناث زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وإذ رزأ فقد الذكور وهم صغارا والذي خلف حزنًا عميقا في نفسه، حيث قال في وفاة ابنه إبراهيم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك، يا إبراهيم لمحزنون»، فقد كان في معاملته لبناته وأبنائهن دليل على تكريم المرأة ومساواتها الفعلية للذكر، لقد كان في احترام رسول الله لبناته دعوة لاحترام الأبناء داخل الأسرة، فقد كان عليه السلام يقبل فاطمة ويجلسها مجلسه تكريما لها وإعلانًا لمحبته لها، وكان يشاور بناته في تزويجهن اعترافًا منه بحرية الاختيار، كما أجار ابنته زينب لما أجارت زوجها الربيع بن العاص وأصلح بين علي وفاطمة إفصاحًا عن رحمته بالبنات وعدم عضلهن والصلح بينهن وأزواجهن، وإذا كان عطفه على بناته قد بلغ مبلغًا عظيما فقد قدم في تعامله مع أحفاده؛ الحسن والحسين وأميمة بنت زينب دروسًا لكيفية تربية الأبناء وتوجيههم داخل الأسرة برحمتهم ومداعبتهم ومصاحبتهم في جميع أحوالهم تربية وتهذيبًا.
أبعاد إنسانية من حياة رسول الله الأسرية
إن المتتبع لمعالم بيت النبي يتبين له بالملموس حضور البعد الإنساني في حياته الأسرية، فهو بيت التوحيد والأخلاق وهو بيت التعمير والاستخلاف وهي أسس قد نجد تجلياتها من خلال العناصر الآتية:
إن اعتراف البيت بالفطرة وتوجيهها والتعامل وفقها يجعل من البيت بيت مودة ورحمة وتسامح، واستقرار وسعادة، من هنا نفهم اعتراف رسول الله بالفطرة داخل بيته وتعامله وفقها فقد كان عليه السلام يبدي محبته لأزواجه ويعلن إرضاءه لهن ويكشف رحمته للأبناء ويتجاوز عن الزلات، لقد كان بيت رسول الله بيت اعتراف بالأحاسيس والمشاعر التي تخالج النفس البشرية، تلك النفس التي تحتاج إلى من يحنو عليها ويقدرها ويصون كرامتها، لذلك نقول إن الاعتراف بالفطرة داخل بيت رسول الله هو اعتراف بإنسانية الإنسان.
إن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحرية، وإذ جعلت الشريعة الحرية مقصدًا من مقاصدها، فقد كان بيت رسول الله ترجمة عملية لها، فقد كان نساؤه يراجعنه في كثر من الأمور ، كما خيرهن بين البقاء معه أو تسريحهن لما اشتكين ضيق الإنفاق إعلانًا بأن الحياة الزوجية هي حياة اختيار وليست حياة إجبار، كما خير عليا بين الإبقاء على عصمة ابنته فاطمة أو فراقها لما هم بزواج بنت عدو الله أبي جهل، فدل كل ذلك على أن الحرية شرط أساس لضمان إنسانية الإنسان داخل الأسرة.
- المشاركة في التعليم والسياسة والحياة العامة:
لقد كان بيت رسول الله بيت علم ومشاركة في الحياة العامة، فقد كانت أمنًا عائشة أول مرجع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إليه قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، وكان عمر رضي الله عنه يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء وبأحوال النبي البيتية، لا يضاهيها في هذا الاختصاص أحد من النساء على الإطلاق.
.