إن الحكيم هو الذي يتعهد ولده بالتربية والرعاية في الصغر، رجاء أن يجني البر والإحسان في الكبر، وهناك كثير من النماذج التي حقق فيها الآباء نجاحًا ملحوظًا في تربية أبنائهم، ومن أفضل النماذج التي ننصح بها الآباء ليستخلصوا منها القواعد المثلى في التربية، هي وصايا لقمان الحكيم لولده.
وفى هذه الدراسة، يحاول الباحث نادر محمد العريقي، استخراج القواعد التي قامت عليه هذه الوصايا، اعتقادًا منه أن التربية الناجحة ليست مجرد وصايا ومواعظ لا تقوم على أساس؛ بل لا بد أن تكون وصايا قائمة على قواعَد صحيحةٍ ينتهجها الآباء في تنشئة أبنائهم عند الطفولة حتى تؤتي التربية ثمارها.
ويمكن إجمال هذه القواعد فيما يلي:
أولًا: تعهُّد الأبِ ابنَه بالنصح والتوجيه، وهو ما يزال تحت كنفه؛ وبالأخص في المراحل الأولى من العمر التي يتهيأ فيها الأبناء لاكتساب القيم.
ثانيًا: انطلاق وصايا لقمان من الحكمة: فهي لم تكن اعتباطًا، بل كانت عن معرفة وخبرة. قال- تعالى-: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ} (لقمان: 12).
ثالثًا: أن يستخدم فيها وسائل الإقناع المتنوعة كما يلى:
- تعليل الأمر وبيان سببه: فعندما أوصى لقمان ولده بالإحسان لوالديه علل فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان: 14).
- تقبيح المنكر وتعظيم خطره: وعندما نهاه عن الشرك بيَّن له خطره فقال: {يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)
- تحسين المعروف وذكر فضله: وعندما أمر ولده بالصبر على مشاق الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد والمفسدين، ذكر له محاسن هذا السلوك وأنه من خلق ذوي العزم فقال: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17).
- ربط هذه التوجيهات بالآخرة: فعندما أوصى ولده بشكر الله المنعم الأول، وشكر والديه (سبب النعمة) قرن كل ذلك بالآخرة: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان: 14).
- ربط التوجهات برقابة الله وحسابه: فعندما طلب منه صحبة والديه بالمعروف- وإن كانا حريصين على شركه- قرن ذلك برقابة الله وحسابه: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15)
- ربط التوجهات بمحبة الله ورضاه: فعندما نهى ولده عن مظاهر الكبر قرن تَرْك ذلك بمحبة الله ورضاه {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 18).
رابعًا: وصايا تسعى إلى بناء الشخصية المتوازنة، فلا تجنح إلى طرف على حساب الطرف الآخر فلا طاعة للوالدين في دعوتهما للشرك، وفي الوقت ذاته لا قطع لهذه العلاقة حفظًا للمعروف الذي كان منهما في صغره: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً} (لقمان: 15)، وإذا مشى فمشيته قصد {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (لقمان: 19)، وإذا تكلم فهو يغض صوته {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} (لقمان: 19).
خامسًا: توجيهات تراعي الأولويات، وَفْق ميزان الشرع، فتقدم ما هو أَوْلى بالتقديم، وتؤخر ما حقه التأخير: فحق الله في التوحيد الخالص، أَوْلى بالتقديم من حق الوالدين في الطاعة ولذلك بدأ بحق الله- تعالى- فقال: {يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)، ثم ثنَّى بحق الوالدين.
سادسًا: توجيهات لا تحذِّر من المساوئ إلا بقدر ما تعرِّف بالمحاسن، ولا تنهى عن المنكر إلا بقدر ما تأمر بالمعروف، فهي ليست تربية سلبية تحذِّر من الشر ثم تترك الدلالة على الخير؛ فالتربية الناجحة تقوم على الهدم والبناء، على التخلية والتحلية، على التطهير والتنمية.
سابعًا: توجيهات تقوم على اقتراح البدائل وعلى كشف الداء ووصف الدواء؛ فيقول: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 18)، ثم انظر إليه وهو يضع الحلول والوسائل والدواء للشفاء من هذا المرض والظفر بنقيضه فيقول: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} (لقمان: 19).
ثامنًا: استخدام كل الوسائل التوضيحية المتاحة التي تتقرب بها المعاني، وخاصة للناشئة الذين ما زالوا يحتاجون إلى الصور المحسوسَة والمألوفة لتلقِّي المعرفة وإدراك المعاني، ولقد استخدم لقمان عدة وسائل، كضرب الأمثال واستخدام الكنايات والتشبيهات، فقال: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 16).
تاسعًا: وصايا شاملة تسعى إلى إصلاح حال المتربي مع الله بالتوحيد الصافي وإقامة الشعائر، وإصلاح حاله بالتزام مكارم الأخلاق واجتناب مساوئها، وإصلاح حاله داخل نطاق الأسرة بالإحسان إلى والديه، وإصلاح حاله داخل المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عاشرًا: الحنان والدفء والتقريب: وهذا ما نلمسه في نداء لقمان لابنه فهو لم يناده باسمه، بل ناداه بكلمة (يا بني !) وكررها في أغلب وصاياه، وهي كلمة تزول عندها المسافات، ويلمس الأبناء في جرسها دفء الأبوَّة، وتجعلهم أكثر استجابة لوصايا آبائهم.
.