الصيام عبادة عظيمة لها آثارها الجليلة، وهي لا تقتصر على الواجب كرمضان، بل تتعدى ذلك إلى المستحب والمندوب كصيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام عاشوراء، وذلك حتى يبقى المؤمن على اتصال بمولاه من خلال هذا الباب العظيم، طمعًا في القرب منه، والفوز بمحبته ورضاه: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» (رواه البخاري).
وصيام يوم عاشوراء أحد مجالات الطاعة، والقرب من الله، وسبيل إلى حمل الزاد إلى دار المعاد، ووسيلة لتكفير السيئات ورفع الدرجات.. ومن خلال هذا المقال نتعرف على فضله وفق ما جاء من سيرة وهدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
فضل الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم» (رواه مسلم 1982). قوله: «شهر الله» إضافة الشّهر إلى الله إضافةَ تعظيم، قال القاري: الظاهر أن المراد جميع شهر المحرّم. ولكن قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرًا كاملًا قطّ غير رمضان، فيحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله. وقد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان، ولعلّ لم يوح إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه. (شرح النووي على صحيح مسلم).
فضله
وردَ في ذكر فضل يوم عاشوراء عددٌ من الأحاديث النبوية الشريفة، ومن فضلِه أنّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان يتحرّى يوم عاشوراء ويتحرّى صيامه، وهذا دليل على فضله.
وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «ما رأيت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يتحرّى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان» (مسند أحمد)، أي أنّه كان يتحرّى هذا اليوم كي يصومه ويحصل على أجره وثوابه لما فيه كفارة للذنوب، ويوم عاشوراء له فضلٌ عند اليهود والنصارى، وكان له فضل عند قبيلة قريش أيضًا رغم أنّهم كانوا يعبدون الأوثان، تقول عائشة -رضي الله عنها-: «كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية» (رواه مسلم)، وفضله عند اليهود أنّ الله تعالى أنقذ موسى وقومه في هذا اليوم وأهلك فرعون، كما أنّ النصارى كانوا يعتبرون يوم عاشوراء تقليدًا واتباعًا لليهود، وعندما جاء الإسلام، أعظَمَ الرسول -عليه الصلاة والسلام- شأن هذا اليوم وأمر بصيامه، لأنّ المسلمين أولى بموسى- عليه السلام- من اليهود، وهو أولى بالأجر والثواب لأنّ الدين عند الله الإسلام.
كما جاء في فضل صيام يوم عاشوراء أحاديث، فصيام يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية، لقوله: صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» (رواه مسلم).
وجاء عن عمر بن صهبان، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبدالله، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوم عرفة غفر له سنة أمامه وسنة خلفه، ومن صام عاشوراء غفر له سنة» (صحيح الترغيب).
ويستحب صوم التاسع مع العاشر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» (رواه مسلم) قال شيخ الإسلام في المجموع: يعني مع العاشر ولأجل مخالفة اليهود.
وقال ابن حجر في الفتح: وظاهر أن صيام عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى عليه السلام، ويوم عرفة منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك كان أفضل.
مراتب صيامه
فقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله، صمنا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» (رواه مسلم). وعند الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود: صوموا قبله يومًا، وبعده يومًا».
وعند الإمام أحمد أيضًا وابن خزيمة «صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده» كما عزاه ابن القيم في زاد المعاد.
وعليه تكون مراتب صوم يوم عاشوراء ثلاثة وفق كلام الإمام ابن القيم في زاد المعاد:
1- أكملها: أن يصام قبله يوم وبعده يوم.
2- أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.
3- إفراد العاشر وحده بالصوم.
وأما إفراد التاسع، فمن نقص فهم الآثار، وعدم تتبع ألفاظها وطرقها، وهو بعيد من اللغة والشرع
ويغتر بعض المغرورين بالاعتماد على مثل صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة، حتى يقول بعضهم: صوم يوم عاشوراء يكفّر ذنوب العام كلها، ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر. قال ابن القيم: لم يدرِ هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفّر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر. ومن المغرورين من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه، لأنه لا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقد ذنوبه، وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرّة، ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم، ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبدًا يتأمّل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذّابين والنمّامين، إلى غير ذلك من آفات اللّسان، وذلك محض غرور. (الموسوعة الفقهية ج31، غرور).
.