Business

الهجرة النبوية وواقع أمتنا

إن مواسم الخير تتعاقب على حياتنا في الأشهر القليلة الماضية، بما تحويه من دروس وعبر، وما تقدمه من زاد على الطريق، وما تُتيحُه من فُرَص أمام قوافل الإيمان؛ لترتقي قُدُمًا إلى غايتها العظمى؛ وهى رضا ورضوان الله عز وجل.، فبعد عطاءِ رمضانَ والصومِ جاء عطاءُ الحج وعيدُ الأضحى، ثم تأتي ذكرى الهجرة وفيوضاتُها، وبَدْءُ عام هجري جديد، جعله الله عامَ بركةٍ ونصر.

فكتب أحد المصلحين: لقد كانت الهجرة نصرًا مبينًا، كما وصفها الله- عز وجل- في قوله: ﴿إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:40).

ولم يكن خروج النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحابته مستخْفين من مكة إلى المدينة هزيمةً أو فِرارًا؛ فقد بذلت قريش جهودها لمنعه، لِمَا تعلمُ من خطورة هذه النَّقلَة في حياة الدعوة ورجالها، وقد نجح هؤلاء الرجال في مُغالبةِ واقعهم بين ظهراني الكُفر، والصمودِ في وجهه، والتوسعِ على حسابه، ثم نجحوا في صُنعِ واقعٍ جديدٍ ينتظرهم حين وجدت الدعوة بين أهل المدينة أنصارًا يتحرَّقون شوقًا لنصرتها، وإقامة دولتها، والتمكين لها.

ولم يكن ذلك التغيير الكبير وتلك النقلة الهائلة سوى تتويجٍ للجهد المبذول طوال ثلاثة عشر عامًا بمكة في الدعوة والتربية، واستخلاصِ أفضل ما في ذلك المجتمع من عناصر الخير، أولئك الذين قدموا التضحية النبيلة؛ فعُذِّبوا في بطحاءِ مكة، وظَفَر بالشهادة في سبيل الله من اصطفاه الله لها، وسُجِنوا في شِعْبِ ""أبي طالب"" ثلاث سنوات، عَرَفوا فيها قسوةَ الحِصارِ والتجويعِ والمقاطعة، واضطُّر بعضُهم إلى الهجرة من الوطن- الذي تحكمُ فيه الأراذِل والطغاة- إلى الحبشة، وتسابَق إلى التضحيةِ منهم القادةُ والجنودُ، والأشرافُ والعبيدُ، وأُوذِي رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- وحوصِر، وهاجَر إلى الطائف، فما ردَّه سوى الصبيان والعبيد والسفهاء؛ يعذبونه بالحجارة حتى دَمِيَت قدماه الشريفتان.

ورغم ذلك استمرت حركتهم بالإسلام والدعوة إليه، وكانت تضحياتهم المثيرة دافعًا إلى غزو القلوب التي هزَّتها نماذجُ البطولةِ والصمودِ من أجل العقيدةِ والمبدأِ، ومضَت القيادة الحصيفة البارعة تتلمَّس أرضًا أخرى أصلحَ للدعوة، يمكن فيها إقامة الدولة، وتقديم الهداية إلى العالمين.. حتى قدَّر الله- تعالى- أن يصطفي لذلك المدينة المنورة وأهلَها، الذين غدَوا أنصارًا للدين الجديد، يبايعون قيادته على الجهاد من أجله، في بصيرةٍ واعيةٍ لمتطلبات ذلك الجهاد، وفي عزيمةٍ صادقةٍ على تحمُّلِ تبِعاتِه ونتائجه.

"كانت الهجرة إذًا نصرًا عزيزًا".. تَحقَّق أولاً داخل النفوس المؤمنة، التي استَعْلَت على جواذِب الأرض وإِلْفِ الباطل، وأخلصت لدينها، وضحَّت في سبيله، وانحازت انحيازًا مطلقًا لخيار العقيدة ومطلوبِها، فتركت من أجله العشيرةَ والوطنَ- الذي ضاق بطغاته- ولم تنفسح لهم أرضه.. فلما علم الله في قلوبهم خيرًا، آتاهم خيرًا ممَّا أُخِذَ منهم، فوجدوا في دار مهجرهم الوطن والأهل والعزة جميعًا، وكان الأنصار بالمدينة على ذات المستوى من الوعي بخطورة المستقبل الذي يشاركون في صياغته، وأهمية الاستعداد للبذل في سبيله؛ فكانوا كما وصفهم الله- تعالى-: "﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَاْلإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾" (الحشر: 9)، ولم تكن الهجرة عملاً ممكنًا، ولم يكن من المستطاع أن تحقق أهدافها من غير وجود النُّصرة الراشدة الواعية المضحِّية.

لقد كانت الهجرةُ الحدثَ الأخطرَ في مسيرةِ الإسلام والجماعة المسلمة الأولى؛ فيه انتقلت الدعوة من طَوْر الاستضعاف والمِحنة إلى طورِ النصرِ والتمكينِ وإقامةِ الدولةِ، وبدءِ الجهادِ لتبليغِ العالمين رسالةَ الإسلام؛ ولذا فقد كان" "عُمَرُ بنُ الخطاب""- رضي الله عنه- مُلهَمًا حين اختار تاريخ الهجرة إلى المدينة ليكون بَدْءَ التأريخِ عند المسلمين، وجعلَه في بداية شهر (المحرم)؛ حيث بدأت فيه هجرة المؤمنين في أعقاب بيعة العقبة الثانية في (ذي الحجة)، الذي يُعد- بحق- عهدَ تأسيس الدولة الإسلامية الأولى.

وبمجرد وصول النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بدأ يُرسي دعائم هذه الدولة، التي تعبر عن شمول الرسالة وكمال الدعوة، فشرع في بناء المسجد؛ ليكون مقرَّ التربية والقيادة والتوجيه، وأخذ يوطِّدُ دعائم الأخوَّة الإيمانية لتحقيق المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ويقرر مبادئ المواطنة العامة لكل سكان الدولة، بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، بعَقْد معاهدةٍ مع سكانها من اليهود، الذين ما لبِثوا أن نقَضوا عهدهم ومواثيقَهم.

إن الدرس الذي ينبغي أن نؤكد عليه في هذا المقام؛ هو أن إقامة دولة الإسلام الأولى- بما مثَّلها من نصرٍ مبينٍ- كانت نتيجةً للتغيير الضخم الذي شهدته نفوس الجماعة المؤمنة الأولى، التي ارتضت الإسلام دينًا، وتربَّت عليه، وضحَّت من أجله، كما قال تعالى: "﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾" (الرعد: من الآية 11)؛ ولذلك فقد كان نصرًا حقيقيًّا باقيًا.. وكلُّ تغييرٍ لا يأتي من داخل الأمة نفسها لا يؤتي ثمرتَه المرجوَّةَ، فكلُّ تغيير تصنعه القوة القاهرة أو القرارات الفوقية تغييرٌ محدود الأثر.

إنَّ أمتنا تشهد في هذه الفترة من تاريخها محاولاتٍ لتغيير واقعها الأليم، الذي يدرك كافةُ أبنائها أنه قد آنَ الأوانُ لتغييرِه، وإحداثِ تطورٍ حقيقيٍّ فيه؛ لكنَّ البعض منا يروِّجُ لمشاريع تغيير مستورَدة من الخارج في ظل العولمة والقطب الدولي الوحيد، ويتلمَّس لنفسه العذرَ في ذلك بأن أبواب التغيير من الداخل موصدةٌ بأيدي حكامنا الذين لا يرَون في الإمكان أبدعَ مما هو كائن، وتتقاصر إمكاناتهم عن آمال شعوبهم، ويزداد حرصهم على مكاسبهم؛ فيزداد تشبثُهم بكراسي حكمهم، ويزداد بطشهم بمُعارضيهم..

والحق أن واقعنا أليم قد أصابه التيبُّس والجمودُ؛ لكننا واثقون في الوقت ذاته من أن الحلول المستوردة الجاهزة لن تحل مشكلاتنا، وأن أعداءَنا لا يريدون خيرًا بنا، وأن (دغدغة) مشاعر البسطاء والمضطَّهَدين بشعارات الحرية الأمريكية لن تُفيد، وقد رأينا ثمرة تلك الشعارات في (العراق)، ونراها منذ أمد في (فلسطين)، التي يعاني أهلها ما لا يطيقه بشرٌ بفعل الاحتلال الصهيوني، الذي تباركه الإدارة الأمريكية.

إننا بإزاءِ استراتيجية أمريكيةٍ تسعى إلى قيادة العالم وتغييره ليكون تابعًا لها، وقد عبَّر عن ذلك الرئيس الأمريكي "بوش" بقوله: ""مَن ليس معنا فهو علينا""، وتحت شعار (محاربة الإرهاب)- الذي بات يُطلَق على كلِّ معارَضَةٍ لأمريكا وسياساتها- شنَّت الحروب ضد المسلمين في أفغانستان والعراق، واحتلت بلادهم، ونهبت ثرواتهم، وأطلقت يد الكيان الصهيوني في فلسطين ليُعربِد كما يشاء، وله في كل يوم جرائمُه وضحاياه..

يعيش عالمنا الإسلامي أسوء لحظات تاريخه من الذل والانقياد لرغبات الكيان الصهيوني المدعوم بالإدارة الأمريكية العنصرية تحت قيادة ترامب، والذي أستطيع أن يخرج كمائن نفوس الحكام العرب، ويجلى علاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني للواقع في مقابلة التصدي للزحف الاسلامي بل ومحاولة القضاء عليه بأيدي الحكام العرب.

إن ذكرى الهجرى العظيمة تحل علينا وقد بدأ الاستعلاء الثاني لليهود في الأرض، ومحاولة ترقيع الأمة الإسلامية أو ذبحها بأيدي حكامها الحريصين على عروشهم أكثر من حرصهم على أرواح شعوبهم، غير أن هذه الإدارات والحكومات أصبح تعيش واقع منفصل عن هذه الشعوب التي تستعر قلوبها نارا مما يحدث، وتنتظر الفرصة التي تتفجر كالبركان ليقضى على كل مظاهر هذا الفساد، ولن يتحقق ذلك إلا بغرس ورعاية معاني الهجرة التربوية التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في صحابته يوم أن هاجر من الإخاء بين الجميع، والإيثار والتخلي عن حظوظ النفس.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم