أبى الإمام حسن البنا رحمه الله أن يتورط فيما تورط فيه غيره، ولأمرٍ ما نجد أن الأصول العشرين تحدثت عن قضية التكفير، وجعلها أصلًا من أصول الفهم، ولم يقف عند ما تستهويه سطحية الفكر والأعمال، فنظر إلى المجتمع من جوانب ثلاثة: النفسي والديني والحضاري.
أما الجانب النفسي: فكان يرى أن الأمة تشعر بأنها أبناء حضارة سالفة، قامت على بصائر الوحي، وامتدت في الزمان قرابة ألف عام، ولذلك هناك حرص أكيد لدى الأمة أن تُقَوِّمَ ما انحرف من مظاهر حياتها عن سمت الدين.
وأما العامل الديني: فكان يرى أن ما فقده المجتمع في مظاهره الخارجية من قوة الدين لا يساوي ما هو في مخزون ضميره من وفرة لا يعلمها إلا الله، وكان دائما ما يقول: «إن لهذا الدين من الاستقرار في النفوس والقدسية ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه، فضلًا عن الاستجابة له والسير عليه متى ما وُجهوا إليه، وفى ذلك ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل».
ودليل ذلك، ما شاهدته بنفسي عندما كنت طالبًا بكلية الطب، عام 1961م، في أحد المؤتمرات المذاعة على الهواء مباشرة وبحضور جمال عبد الناصر، حيث قام الشيخ محمد الغزالي بدعوة الأمة، ونسائها على الأخص أن تحتشم في ثيابها، وتلتزم بمبادئ الإسلام، ما قوبل بتصفيق حاد، وفى ذلك الوقت لم تكن هناك امرأة محجبة إلا ما ندر، وهذا من صور تقويم الأمة لما انحرف من مظاهر حياتها.
أما العامل الحضاري: فإن البنا رحمه الله كان يقول عن أوروبا: «قد غزتنا غزوًا حضاريًا عنيفًا، ليس بأفكارها ولا بمناهجها، ولا كتبها ولا اختراعاتها وسلاحها، ولا الأموال والرجال فحسب، وإنما بحياتها اللاهية الناعمة، والتى لم نكن نعرفها من قبل». وكان يرى أن الامة قادرة على أن تخلع ذلك كله وتلبس لباس الجد، إذا سرت فيها روح القرآن.
وكان دائًما ما يقول: «إنما تُرَبى الأمة بالقدوة والأسوة»، ولذلك جعل من نفسه هذه القدوة، فلبس لباس الجد وفارق الملذات، رغم أنه صاحب المواهب، فكان ينتقص من متعة نفسه ليهدى الناس، وحتى يرتفع عن الظنون، وليظفر هؤلاء الذين يريد هدايتهم بجهده كله.
ويحكي الأستاذ فريد عبد الخالق في شهادته على العصر، أنه كان يرى الإمام البنا يرتدي جوربًا مهترئاً أثناء وضوئه، وكما قال البهي الخولي: «كان يروم الدنيا على هوادة، ولا يصيب منها إلا بمقدار، يأكل ما حضر من الطعام، ويلبس ما تيسر من الثياب، ويتخذ من السكن ما قلّ وكفى، همه أن يرى دعوته عالية تحيا بين الناس»، وقال عنه الشيخ محمد الغزالي: «لقد بدت وراثة النبوة ظاهرة على جوارحه».
فالهدايات الكبرى تحتاج إلى قامات كبرى يراها الناس أمامهم ويقتدون بها، لا إلى كتب يقرؤونها، وكان البنا يقول إن كل أمة تريد النهوض عليها أن تدرس أسباب نهضتها، نظريًا وعمليًا وروحيًا، وكان يطالب الإخوان بأن يكونوا قدوات، ويقول: «لكي تكون لبنة قوية في هذا البناء، فعليك أن تؤدي هذه الواجبات».
وطاقة الفرد عندما يتخيل أنه يستطيع أن يمنح بها الأمة كل ما يريد، خدعة عقلية، لأن الفرد جهده محدود وعمره محدود، ولذلك في دعوته التفت إلى أمته، وكان دائمًا ما يقول: «لسنا وحدنا القادرون»، ويعنى بها أن الاخوان فصيل من فصائل الأمة، فألّف خطابًا للأمة تأليفًا لقلبها، ودفعًا لآذاها، وإيضاحًا للحقائق. مقتديًا في ذلك بفعل النبي ﷺ مع عتبة بن ربيعة.
وكان البنا رحمه الله يريد أن يخاطب الجميع ويتحدث إلى الجميع ويلم شتات الجميع، تأليفًا لقلبها حين قال: «مصر العزيزة الغالية، نتألم حين نراها تتأرجح بين ما يريدها لها أعداؤها، وما نريده لها من نهج رباني قويم يقوم على تعاليم الإسلام وإرشاده»، ويقول: «إن عناصر السلامة لا تزال صالحة قوية في نفوس شعوبكم المؤمنة الفتية»، وكان كثيرًا ما يردد في مجالسه: «اسلمي يا مصر إنني الفدا».
ولما صنف البنا الناس أمام دعوته لم يصنفهم ذلك التصنيف الحرج، وإنما صنفهم ذلك التصنيف الذى يتجنب به أذاهم، فقال: «الناس أمام دعوتنا واحد من أربعة: مؤمن أُعجِب بمبادئنا ورأى وجه الحق في قولنا، فذلك ندعوه إلى الانضمام إلينا وإلى المبادرة للعمل معنا؛ ومتردد لم يتبين وجه الحق في قولنا ولا معنى الإخلاص في مبادئنا، ومثله مثل المترددين من أتباع الرسل ممن يحتاجون إلى التأمل وحسن العرض، وهذا حقه علينا أن نبين ونوضح له؛ ونفعيٌّ لا يبذل مغرمة حتى يعلم ما تجره عليه من مغنم، وذلك نقول له شعارنا التضحية وهدفنا رضوان الله؛ ومتحامل لا يرانا إلا بمنظاره الأسود ولا يتكلم عنا إلا بلسانه المتشكك»، ويكمل: «فسنظل نحبه ونرجو فيه، شأننا معه شأن رسول الله مع من كان قبله، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون».
وإيضاحًا للحقيقة كذلك يقول: «إن جهود المصلحين ورضاهم برتبة الوعظ والإرشاد وترتيب التعاليم وتقرير الأحكام، في الوقت الذي يدعون فيه أهل التشريع يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره، جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص الحكم من أيدي هؤلاء الذين لا يؤمنون بأحكام الإسلام وتعاليمه».
شاهد أيضًا ضمن السلسلة:
.