لا زالت الإنسانية في حاجة لأنموذج أسري واقعي تسترشد به في زمن العولمة والحداثة وفي وقت تناسلت فيه الأفكار والرؤى التي تنظر للأسرة وإذ لا خلاف في أن كل تلك النظريات الحديثة والمحدثة لم تستطع حل مشاكل الأسرة وإشكالاتها المتجددة (من ارتفاع نسب الطلاق وإهمال الأطفال وفشو الزنا وظهور ما يسمى بالأم العازبة) فلا شك أن حلها يحتاج لدستور أسري واقعي يعترف بالإنسان وينشد صناعته من محضن التربية والأخلاق والقيم.
وفي هذه الدراسة، يرى الدكتور حميد مسرار- المغرب، أن خير أنموذج أسري على الأمة أن ترجع إليه، بيت رسول الله صلى عليه وسلم، فهو بيت التوحيد والدعوة إلى الله وهو بيت الأخلاق والقيم والعمران بل هو بيت صناعة الإنسان بامتياز ونظرًا لأن صناعة الإنسان تستلزم الاعتراف به وبكينونته وذاته المادية والروحية.
فلا شك أن الكشف عن معالم الإنسانية من داخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم للأمة طريقًا واضحا لما يجب أن تكون عليه الأسرة إن هي أرادت أن تلعب دورها الحضاري المنوط بها.
أبعاد إنسانية من حياة رسول الله الأسرية
إن المتتبع لمعالم بيت النبي يتبين له بالملموس حضور البعد الإنساني في حياته الأسرية، فهو بيت التوحيد والأخلاق وهو بيت التعمير والاستخلاف وهي أسس قد نجد تجلياتها من خلال العناصر الآتية:
خلق الله تعالى الإنسان مزودا بفطرة هي مجمع الملكات والمواهب والمشاعر والأحاسيس ففطرة الإنسان هي البنية التي خلق عليها الإنسان في بعديها المادي والروحي، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: الفطرة (الخلقة) أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، ففطر الإنسان هي ما فطر أي خلق عليه الإنسان ظاهرًا وباطنًا أي جسدًا وعقلًا، فإذا صرفت إلى الخير كان للفرد ولمجتمعه نصيب منها وإذا صرفت اتجاه الشر كان له وللمجتمع كفل منها.
إن اعتراف البيت بالفطرة وتوجيهها والتعامل وفقها يجعل من البيت بيت مودة ورحمة وتسامح، واستقرار وسعادة، من هنا نفهم اعتراف رسول الله بالفطرة داخل بيته وتعامله وفقها فقد كان عليه السلام يبدي محبته لأزواجه ويعلن إرضاءه لهن ويكشف رحمته للأبناء ويتجاوز عن الزلات، لقد كان بيت رسول الله بيت اعتراف بالأحاسيس والمشاعر التي تخالج النفس البشرية تلك النفس التي تحتاج إلى من يحنو عليها ويقدرها ويصون كرامتها، لذلك نقول إن الاعتراف بالفطرة داخل بيت رسول الله هو اعتراف بإنسانية الإنسان.
اعتبر الشرع الحرية مقصدًا من مقاصده وحذر من الاعتداء عليها لما في ذلك من استنقاص لإنسانية الإنسان وهدر لما يجب أن يقوم به من مهمة الاستخلاف والتعمير وتأسيسا على ذلك جاءت الشريعة بأحكام كثيرة تهدف إلى حفظ حرية الإنسان يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: «إن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحرية».
وقد كان بيت رسول الله ترجمة عملية لها، فقد كان نساؤه يراجعنه في كثير من الأمور، وهو أمر لم يقتنع به عمر رضي الله عنه حتى سأل ابنته حفصة، كما خيرهن بين البقاء معه أو تسريحهن لما اشتكين ضيق الإنفاق إعلانًا بأن الحياة الزوجية هي حياة اختيار وليست حياة إجبار كما خير عليا بين الإبقاء على عصمة ابنته فاطمة أو فراقها لما هم بزواج بنت عدو الله أبي جهل، فدل كل ذلك على أن الحرية شرط أساس لضمان إنسانية الإنسان داخل الأسرة.
قد يجد المرء نفسه مشدوها أمام مشهد الأخلاق داخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان بيته عليه السلام بيت وفاء يدل على صدق المحبة التي قد تجمع بين الأزواج ولقد مر معنا وفاؤه لخديجة حية وميتة كما كان بيت صبر على الشدائد والمحن؛ محنة الحصار ومحنة الإفك ومحنة الدعوة إلى الله وبيت عفو وتسامح كما في قصة عائشة حينما أسقطت صفحة الطعام، وبيت رحمة بالأزواج والأطفال كما في تعامله مع سودة والحسن والحسين وأميمة بنت زينب إنه فعلًا بيت أخلاق وقيم، ولقد صدق الله تعالى حينما أشاد بخلق نبيه فقال وإنك لعلى خلق عظيم.
- المشاركة في التعليم والسياسة والحياة العامة:
لقد كان بيت رسول الله بيت علم ومشاركة في الحياة العامة، فقد كانت أمنا عائشة أول مرجع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إليه، قال الزهري: «لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل» وكان عمر رضي الله عنه يحيل عليها كل ما تعلق بأحكام النساء وبأحوال النبي البيتية، لا يضاهيها في هذا الاختصاص أحد من النساء على الإطلاق،كما ساهمت أم سلمة في رأب الصدع بين المؤمنين حينما أشارت على رسول الله بمشورتها الموفقة في صلح الحديبية، أما زينب بنت خزيمة أم المساكين فقد كانت كثيرة التصدق على الفقراء والمحتاجين مشاركة منها في العمل الاجتماعي الذي يحتاجه المجتمع، لقد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتًا مشاركًا في كل تفاصيل الحياة العامة ليتأكد دوره في بناء صرح الأمة الحضاري.
خلاصة القول
فلا صلاح للأسرة المسلمة إلا إذا استحضرت البعد الإنساني داخلها ولا شك أن المتتبع لحياة رسول الله الأسرية يتبين له ذلك، فهو بيت اعتراف بالفطرة والأخلاق وهو بيت حرية لا عبودية فيه إلا لله تعالى، كما هو بيت عمران ومشاركة في الحياة العامة. إنه أنموذج للاعتراف بالإنسان داخل الأسرة. فما على الأسرة المسلمة إلا الاقتداء به إن هي أرادت تكريم الإنسان والمشاركة في الصرح الحضاري للأمة والحمد لله رب العالمين.
.