تسارعت الأيام والليالي وها هي الأيام العشر الأواخر من رمضان، قد أهلت بضيائها لتزين جنبات هذا الشهر الكريم، وقد شمر لها السواعد كل فطين يدرك قيمة هذه الأيام وعلو شأنها عند الله سبحانه، فقال ﷺ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» (أخرجه البخاري ومسلم)، وقد كان النبي ﷺ يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، كما أخبرت به عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله ﷺ يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» (رواه مسلم)، وتقول: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر». متفق عليه.
ويقول الإمام عليُّ بنُ أبِي طالب- رضِي الله عنْه: «كان النَّبيُّ ﷺ يوقِظ أهلَه في العشْر الأواخر من رمضان»؛ صحيح سنن التِّرْمذي. كيف وفيها ليْلة القدر، التي هي خير من عبادة ألْف شهر؛ أي: 83 سنة وأربعة أشهر.
ولقدِ اهتمَّ السَّلف بهذه العشْر، وهذه الليلة أيّما اهتِمام:
يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا رُبَّ صَوْتٍ لا يُرَدُّ
لا يَقُومُ اللَّيْلَ إِلاَّ مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ
ومن فرْط حبِّهم لهذه اللَّيالي المباركة أنَّهم كانوا يستحبُّون أن يغتسِلوا كلَّ ليلةٍ من لياليها- كما كان يفعل النخعي- وكان أيُّوب السختياني يغتسِل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبَس ثوبَين جديدين، ويتطيَّب.
ولَم يكونوا يقتصِرون في إحياء العشر على أنفسهم، بل كانوا يوقظون نساءهم وأبناءهم؛ تأسِّيًا برسول الله ﷺ قال ابن رجب: «ولم يكُن النبيُّ ﷺ إذا بقي من رمضان عشَرة أيَّام، يدَع أحدًا من أهلِه يُطيق القيام إلاَّ أقامه».
وإنَّ لمن الحرمان العظيم، والخسارة الفادحة، أن نجد كثيرًا من المسلمين، تمرُّ بهم هذه الليالي المباركة، وهم عنها في غفلة معرضون، فيمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم، فيسهرون الليل كله أو معظمه في لهو ولعب، وفيما لا فائدة فيه، أو فيه فائدة محدودة يمكن تحصيلها في وقت آخر، ليست له هذه الفضيلة والمزية.
بل نجد الرجال والنساء ينشغلون بشراء اللبس الجديد، وعمل الكعك والبسكويت وما سواه أو كثرة الزيارات والعزومات، أو غير ذلك من الأعمال الدنيوية، والتي حرمت صاحبها من إحياء ليلة القدر المباركة، ولا يدري هذا المسكين لعلها تكون آخر ليلة قدر يدركها.
لقد صور الشعراء حالًا مَن جدَّ العزم واستعد لهذه الأيام جيدا وبين من ينتظرها وهو لاهٍ، لا تشغله إلا أمور الدنيا التي تصرفه عنها، بقولهم:
تَنَصَّفَ الشَّهْرُ وَالَهْفَاهُ وَانْصَرَمَا وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ بِالجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَا
وَأَصْبَحَ الغَافِلُ المِسْكِينُ مُنْكَسِرًا مِثْلِي فَيَا وَيْحَهُ يَا عُظْمَ مَا حُرِمَا
مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البِذَارِ فَمَا تَرَاهُ يَحْصُدُ إِلاَّ الهَمَّ وَالنَّدَمَا
طُوبَى لِمَنْ كَانَتِ التَّقْوَى بِضَاعَتَهُ فِي شَهْرِهِ وَبِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمَا
فيجب أن نحذر من الانسياق وراء من يزين لنا العشر الأواخر بأنها نهاية رمضان ويجب أن نسارع للشراء وتجهيز متطلبات العيد، فقد جعل الله سبحانه ليلة القدر في هذه الأيام ليحرص الجميع على تعظيمها دون خسرانها.
ولذا يجب على كل مسلم أن يَجِدَّ فيها عن طريق:
- الحرص على إحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والقراءة وسائر القربات والطاعات، وإيقاظ الأهل ليقوموا بذلك كما كان ﷺ يفعل.
- إحياء سنة الاعتكاف فهي من خصوصيات العشر: فلتحيي هذه السنة وليكن لك نصيب منها وإن قلّ ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى.
- تحرّي الليلة المباركة والحرص على قيامها: ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: »من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه». وعنه أيضا أنه ﷺ قال في شهر رمضان: «فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم»، (أحمد والنسائي).
- إلزام الدعاء والتضرع والمناجاة بالأسحار، قالت عائشة رضي الله عنها للنبي ﷺ: أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفوّ تحب العفو فأعف عنّي» (الترمذي).
- الاهتمام بالقرآن الكريم اهتمامًا خاصًا: قال ابن رجب: وفي حديث فاطمة- رضي الله عنها- عن أبيها ﷺ أنه أخبرها: أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة وأنه عارضه في عام وفاته مرتين. (متفق عليه)
لقد اقتضت حكمة الله- تعالى- إخفاء ليلة القدر في آخر هذا الشهر؛ فإنها قطعًا في تلك الليالي لكنها غير معينة لنا بحال؛ ليتميز المؤمنون المسارِعون في الخيرات، المتنافسون في أسباب الفوز بالمغفرة والجنات، وما أعد الله- تعالى- فيها للقائمين من جليل الهِبات وجزيل الأعطيات، ممن يتبعون الشهوات ويستثقلون الطاعات، ويزداد ملهم من الشهر كلما توالت اللحظات: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد: 31]، ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 3].
.